متجدد سلسلة رمضانية : علماء ودعاة

يوسف بن تاشفين

التحالف يجمعنا🏅🎖
كتاب المنتدى
إنضم
15/1/19
المشاركات
63,237
التفاعلات
179,950
بسم-الله-الرحمن-الرحيم-مكتوبة-علي-صور-1.gif

الحسن البصري .. سيد التابعين


الحسن البصري


الحسن البصري إمام وقاضي ومحدّث من علماء التابعين ومن أكثر الشخصيات البارزة في عصر صدر الإسلام. سكن البصرة، وعظمت هيبته في القلوب فكان يدخل على الولاة فيأمرهم وينهاهم، ولا يخاف في الحق لومة لائم.

كان الحسن البصري أشهر علماء عصره، وقال عنه الإمام الغزالي : “كان الحسن البصري أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء وأقربهم هدياً من الصحابة، وكان غايةً في الفصاحة، تتصبب الحكمة من فيه”.

ولقد رأى الحسن البصري عددا كبيرا من الصحابة وروى عنهم مثل: النعمان بن بشير، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس، ونتيجة لما سبق فقد لقبه عمر بن عبد العزيز بسيد التابعين حيث يقول: “لقد وليت قضاء البصرة سيد التابعين”. أما السيدة عائشة وعندما سمعته يتكلم قالت: “من هذا الذي يتكلم بكلام الصديقين؟”.

تنقل البصري بين أكثر من مدينة حيث كان مولده ونشأته في المدينة المنورة إلى أن سافر إلى كابل عندما اتجهوا إلى فتحها، كما عمل كاتبًا للربيع في خراسان وكان ذلك في عهد معاوية بن أبي سفيان، بعدها استقر في البصرة حتى حصل علي لقبه البصري وأصبح يعرف باسم “الحسن البصري”.

من هوالحسن البصري؟


الحسن البصري هو الحسن بن أبي الحسن يسار أبو سعيد مولى زيد بن ثابت الأنصاري ويقال مولى أبي اليسر كعب بن عمرو السلمي، وكان أبوه مولى جميل بن قطبة وهو من سبي ميسان، سكن المدينة وأُعتِق وتزوج بها في خلافة عمر بن الخطاب فولد له بها الحسن رحمة الله عليه لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وأمه خيرة مولاة لأم سلمة أم المؤمنين كانت تخدمها، وربما أرسلتها في الحاجة فتشتغل عن ولدها الحسن وهو رضيع فتشاغله أم سلمة بثدييها فيدران عليه فيرضع منهما، فكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيها الحسن من بركة تلك الرضاعة من الثدي المنسوب إلى رسول الله، ثم كان وهو صغير تخرجه أمه إلى الصحابة فيدعون له وكان في جملة من يدعو له عمر بن الخطاب و قال: اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس.

ولد الحسن البصري في المدينة ونشأ بين الصحابة رضوان الله عليهم، مما دفعه إلى التعلم من الصحابة، والرواية عنهم، ورأى الحسن البصري عدد من الصحابة وعاش بين كبار كعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله، وروى عن عمران بن حصين والمغيرة بن شعبة وعبد الرحمان بن سمرة وسمرة بن جندب وأبي بكرة الثقفي والنعمان بن بشير وجابر وجندب البجلي وابن عباس وعمرو بن تغلب ومعقل بن يسار والأسود ابن سريع وأنس بن مالك وروى عن عدد كبير من الصحابة. وكان للصحابة أثرًا في تربية الحسن بسبب نشأته بينهم، وتعلمه على أيديهم، كان لبعض التابعين أثرًا كبيرًا في نفسه.

أخلاقه وعبادته وعلمه


كان الحسن البصري أعلم أهل عصره، يقول قتادة: “ما جمعت علمه إلى أحد العلماء إلا وجدت له فضلا عليه، غير أنه إذا أشكل عليه كتب فيه إلى سعيد بن المسيب يسأله، وما جالست فقيها قط إلا رأيت فضل الحسن”
وكان الحسن البصري صوامًا قوامًا، فكان يصوم الأشهر الحرم والاثنين والخميس، ويقول ابن سعد عن علمه: كان الحسن جامعًا عالمًا عاليًا رفيعًا ثقة مأمونًا عابدًا ناسكًا كبير العلم فصيحًا جميلاً وسيمًا وكان ما أسند من حديثه وروى عمن سمع منه فحسن حجة، وقدم مكة فأجلسوه على سرير واجتمع الناس إليه فحدثهم، وكان فيمن أتاه مجاهد وعطاء وطاووس وعمرو بن شعيب فقالوا أو قال بعضهم: لم نر مثل هذا قط.

وكان أنس بن مالك يقول: سلوا الحسن فإنه حفظ ونسينا.

وقال أبو سعيد بن الأعرابي في طبقات النساك: كان عامة من ذكرنا من النساك يأتون الحسن ويسمعون كلامه ويذعنون له بالفقه في هذه المعاني خاصة، وكان عمرو بن عبيد وعبد الواحد بن زيد من الملازمين له، وكان له مجلس خاص في منزله لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك وعلوم الباطن.

وعن بكر بن عبد الله المزني قال: من سره أن ينظر إلى أفقه من رأينا فلينظر إلى الحسن. وقال قتادة: كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام.

ومما يعرف عن الحسن البصري شدة خوفه وخشيته لله، وقوله الحق . وكان ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وكتب إليه عمر بن عبد العزيز: أنصحني فكتب إليه: إن الذي يصحبك لا ينصحك، والذي ينصحك لا يصحبك.

والحسن البصري أشجع أهل زمانه كما يقول هشام بن حسان، وكان جعفر بن سليمان يقول: كان الحسن من أشد الناس، وكان المهلب إذا قاتل المشركين يقدمه.

وكان الحسن البصري من الزاهدين حقاً فهو الذي زهد فيما عند الملوك فرغبوا فيه واستغنى عن الناس وما في أيديهم فأحبوه،
كما كان الحسن ممن يعرف للإخوة حقوقها، فعن معمر عن قتادة قال: دخلنا على الحسن وهو نائم وعند رأسه سلة فجذبناها فإذا خبز وفاكهه وجعلنا نأكل فانتبه فرآنا فسره فتبسم وهو يقرأ {أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}.

من حكمه وأقواله

 بئس الرفيقان الدينار والدرهم، لا ينفعانك حتى يفارقاك.

أهينوا الدنيا فوالله لأهنأ ما تكون إذا أهنتها.

اصحب الناس بما شئت أن تصحبهم فإنهم سيصحبونك بمثله.

فضح الموت الدنيا فلم يترك فيها لذي لب فرحا.

ضحك المؤمن غفلة من قلبه.


وسأله رجل فقال له: يا أبا سعيد، ما الإيمان؟ قال: الصبر والسماحة فقال: يا أبا سعيد ما الصبر والسماحة؟ قال: الصبر عن معصية الله، والسماحة بأداء فرائض الله.

تجنب الفتنة وقتال المسلمين


عاش الحسن الشطر الأكبر من حياته في دولة بني أمية، وكان يرفض سفك الدماء، ولم يخرج مع أي ثورة مسلحة، وكان يرى أن الخروج يؤدي إلى الفوضى والاضطراب، ولما كانت فتنة ابن الأشعث الذي قاتل الحجاج بن يوسف الثقفي ، انطلق عقبة بن عبد الغافر وأبو الجوزاء وعبد الله بن غالب في نفر من نظرائهم فدخلوا على الحسن فقالوا: يا أبا سعيد، ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة وفعل وفعل؟ فقال الحسن: “أرى ألا تقاتلوه، فإنها إن تك عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين”، فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج؟! (يعنون: الأعجمي) وهم قوم عرب، وخرجوا مع ابن الأشعث، فقتلوا جميعاً.

ولم يكن موقفه من الفتن يصدر عن تخاذل ولا خوف من سلطان الحاكم، فقد كان يخاف مخاطر الفتن وما ينتج عنها من مضار جسيمة بالأمة.

شجاعته وأثره في الآخرين


قصته مع الفرزدق

عن إياس بن أبي تميمة يقول: شهدت الحسن في جنازة أبي رجاء على بغلة والفرزدق إلى جنبه على بعير، فقال له الفرزدق: قد استشرفنا الناس يقولون: خير الناس، وشر الناس قال: يا أبا فراس، كم من أشعث أغبر ذي طمرين خير مني؟ وكم من شيخ مشرك أنت خير منه؟ ما أعددت للموت؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله قال: إن معها شروطًا فإياك وقذف المحصنة قال: هل من توبة؟ قال: نعم.

قصته مع ابن سيرين

كان بين الحسن البصري وبين محمد بن سيرين هجرة، فكان إذا ذكر ابن سيرين عند الحسن يقول: دعونا من ذكر الحاكة، وكان بعض أهل ابن سيرين حائكًا، فرأى الحسن في منامه كأنه عريان، وهو قائم على مزبلة يضرب بالعود، فأصبح مهموما برؤياه، فقال لبعض أصحابه: امض إلى ابن سيرين، فقص عليه رؤياي على أنك أنت رأيتها، فدخل على ابن سيرين وذكر له الرؤيا فقال ابن سيرين: قل لمن رأى هذه الرؤيا، لا تسأل الحاكة عن مثل هذا. فأخبر الرجل الحسن بمقالته، فعظم لديه، وقال: قوموا بنا إليه، فلما رآه ابن سيرين، قام إليه وتصافحا وسلم كل واحد منهما على صاحبه، وجلسا يتعاتبان، فقال الحسن: دعنا من هذا، فقد شغلت الرؤيا قلبي. فقال ابن سيرين: لا تشغل قلبك، فإن العري عري من الدنيا، ليس عليك منها علقة وأما المزبلة فهي الدنيا، وقد انكشفت لك أحوالها، فأنت تراها كما هي في ذاتها، وأما ضربك بالعود، فإنه الحكمة التي تتكلم بها وينتفع بها الناس، فقال له الحسن: فمن أين لك أني أنا رأيت هذه الرؤيا؟ قال ابن سيرين: لما قصها علي فكرت، فلم أر أحدًا يصلح أن يكون رآها غيرك.

قصته مع عمر بن عبد العزيز

كتب الحسن بن أبي الحسن إلى عمر بن عبدالعزيز : أما بعد يا أمير المؤمنين، اعلم أن الدنيا ليست بدار إقامة وإنما أهبط آدم إليها عقوبة، فبحسب من لا يدري ثواب الله أنه ثواب، وبحسب من لا يدري عقاب الله أنه عقاب، ليست صرعتها كالصرعة تهين من أكرمها، وتذل من أعزها، وتفقر من جمعها، ولها في كل حين قتيل، فالزاد منها تركها والغنى فيها فقرها، هي والله يا أمير المؤمنين كالسم يأكله من لا يعرفه ليشفيه وهو حتفه، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء مخافة البلاء، فأهل البصائر الفضائل فيها يا أمير المؤمنين مشيهم بالتواضع، وملبسهم بالاقتصاد، ومنطقهم بالصواب، ومطعمهم الطيب من الرزق، قد نفذت أبصارهم في الآجل كما نفذت أبصارهم في العاجل، فخوفهم في البر كخوفهم في البحر، ودعاؤهم في السراء كدعائهم في الضراء، ولولا الأجل الذي كتب عليهم لم تقر أرواحهم في أبدانهم إلا قليلاً خوفًا من العقاب وشوقًا إلى الثواب، عظم الخالق في أعينهم وصغر المخلوق عندهم فارض منها بالكفاف وليكفك ما بلغك المحل.

قصته مع الحجاج بن يوسف الثقفي

عندما استتب للحجاج أمر العراق واستطاع أن يُلجم لسانهم، ويدعوهم إلى الطاعة ، أقام لنفسه قصرًا مشيدًا وبيتًا في مدينة واسط الواقعة بين البصرة والكوفة، وعندما انتهى من بنائه طلب من الناس الخروج إليهم لرؤيته ومشاهدته عن كثب، ووصف جماله وبهرجته وروعته، فلما وصل الخبر إلى الحسن البصري رحمه الله، وجد أن هذا التجمع يعد فرصة مواتية لإحقاق الحق ودعوة الناس إلى الخير، وصرفهم عن الزخارف وجمالها بما عند الله من فضل، ويذكرهم بالله وبأن الدنيا وبهجتها لا تسوي شيئًا عند الله تعالى.

خرج الحسن البصري فوجد أهل العراق يطوفون بقصر الحجاج فقال في حماسة ولهجة وعظ: “لقد نظرنا فما أبتنى أخبث الناس، فوجدنا أن فرعون قد شيد أعظم مما شيد، وبنى أعلى مما بنى، ثم أهلك الله فرعون، وآتى على ما بنى وشيد… ليت الحجاج يعلم أن أهل السماء قد مقتوه، وأن أهل الأرض قد غرّوه”. وقد مضى على تلك الطريقة، فأخذ يفضح الحجاج بأبشع الألفاظ، حتى إن الحاضرين قد أشفقوا عليه من الحجاج، فقالوا لهم: “حسبك يا أبا سعيد، حسبك هذا”، ولكنه ردهم بأن الله قد أخذ على أهل العلم والدين الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، وها أنا أبين لكم ما خفي عنكم.

فاستشاط الحجاج غضبًا مما قاله الحسن، وتعجب على جرأته عليه وهو يعلم عاقبة أمره ز نظر الحجاج إلى جلسائه وقال: “تبًا لكم وسحقًا، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يرده أو ينكر عليه! والله لأسقينكم من دمه يا معشر الجبناء” ثم نادى على السياف وأمره بإحضار النطع، ودعا الجلاد فحضر بين يديه، ثم أعطى أمره إلى الشرطة بإحضار الحسن.

وجاء الحسن شامخًا وشفتاه تتحركان بكلمات لا يعيها من حوله، وتوجه إلى الحجاج في عزة نفس وعزيمة وإقبال ، فما إن رآه الحجاج حتى قال له في مهابة ووقار لا يصدقان: “ها هنا يا أبا سعيد، ها هنا”، حتى أجلسه على مجلسه وسط دهشة عارمة من الحاضرين ثم بدأ يوجه إليه الأسئلة فيما يحير ويحتاج إلى علم وفقه، والحسن يجيبه في كل ما يسأل بما لديه من سعة علم وفضل، فما كان من الحجاج إلا أن قال له: “أنت سيد العلماء يا أبا سعيد”، ثم قام فطيب له لحيته بأغلى أنواع الطيب وودعه.

فلما خرج الحسن وجد الحاجب خلفه ينادي عليه قائلاً: ” يا أبا سعيد، لقد دعاك الحجاج لغير ما فعل بك، وأنى رأيتك عندما أقبلت، ورأيت السيف والنطع، حركت شفتيك فماذا قلت؟” فتبسم الحسن له وقال: “لقد قلت: يا ولي نعمتي وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته بردًا وسلامًا عليّ كما جعلت النار بردًا وسلامًا على إبراهيم”.

مواقف من وفاته


يقول أبو طارق السعدي: شهدت الحسن عند موته يوصي فقال لكاتب: اكتب هذا ما يشهد به الحسن بن أبي الحسن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله من شهد بها صادقًا عند موته دخل الجنة، ولما حضرته الوفاة جعل يسترجع فقام إليه ابنه فقال: يا أبت قد غممتنا، فهل رأيت شيئًا؟ قال: هي نفسي لم أصب بمثلها.

وقال رجل لابن سيرين: رأيت كأن طائرًا آخذًا الحسن حصاه في المسجد فقال ابن سيرين: إن صدقت رؤياك مات الحسن قال: فلم يلبث إلا قليلا حتى مات.

ومات الحسن ليلة الجمعة، وغسله أيوب وحميد، وأخرج حين انصرف الناس وازدحموا عليه، حتى فاتت الناس صلاة العصر، لم تصل في جامع البصرة وكان مماته سنة عشر ومائة، وعمره تسع وثمانون سنة، وقيل ست وتسعون سنة.

وكان الحسن البصري إلى جانب ورعه شجاعا زاهدا، فيما عند الملوك فرغبوا فيه، واستغنى عن الناس وما في أيديهم فأحبوه، وكان ناصحاً لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم
 

الحسن البصري إماما وفقيها ومتصوفا


سنتحدث في هذا الموضوع عن بعض جوانب شخصية الإمام الحسن البصري هذه الشخصية الفضفاضة التي لا يمكننا الوفاء بأبعادها المتعددة في عجالة كهذه، ولكن مالا يدرك كله لا يترك جله أو بعضه، ولهذا أجدني متحيزا إلى الاكتفاء ببعض رؤوس الأقلام وانتقاء بعض المظاهر لشخصية الحسن البصري، آملا أن تتاح الفرصة لي لتحليل المظاهر الأخرى لهذه الشخصية واكتشاف خباياها المتعددة ومناجمها الدفينة.

وقد ارتأيت أن يكون تصميم هذا العرض متضمنا لحياة الحسن البصري الشخصية، وحياته العلمية، كما يتضمن الحديث عن مواعظه وحكمه.

من هو الحسن البصري؟

للإجابة عن هذا السؤال العريض أراني مضطرا للحديث عن الفروع التالية:

نسبه وصفاته الخلقية والخلقية

إنه الحسن ابن أبي الحسن البصري الأنصاري ويكنى بأبي سعيد ونعت بالبصري لأنه عاش بمدينة البصرة وتوفي بها ونعت بالأنصاري لأنه كان مولى الأنصار – وقد اختلف في من هو مولى والده يسار أهو زيد بن ثابت رضي الله عنه – أم جميل بن قطبة أم جابر بن عبد الله، وعلى كل حال فأبو الحسن البصري سبي بميسان من دولة العراق حين فتحها زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على يد عتبة بن غزوان وكان يدعى قبل إسلامه بفيروز.

أما أم الحسن البصري فاسمها خيرة وكانت مولاة أيضا لأم سلمة، رضي الله عنها، على الراجح وقد تزوجها يسار وهو في الرق وعلى هذا فقد ولد الحسن مملوكا، وقيل إن اسمها صفية بنت الحارث من أهل اليمن، ويقال بأنها وزوجها كانا يختلفان إلى المسجد لتعليم القرآن للنساء والرجال هو في مقدمته وهي في مؤخرته.

وكان شغل والد الحسن البصري شبيها بما يشتغل به المماليك عادة، حيث كان موزعا بين الخدمة والزراعة، أما أمه خيرة، فقد اشتغلت في خدمة أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حيث كانت تصحب ولدها لبيوت أمهات المومنين حتى إذا غابت عن ولدها ذات مرة رعته أم سلمة وعللته بثديها إذا بكى إلى حين رجوع أمه، كما كانت خيرة تخرج ولدها إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيدعون له وهو صغير ومن ذلك دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه له بقوله: “اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس”.

وهكذا كان للبيئة التي تربى فيها الحسن البصري والمجال الذي احتضن طفولته وشبابه أكبر الأثر في تربيته وسلوكه مسلك الزهاد والعلماء. ويروى أنه كان له يوم مقتل عثمان، أربعة عشر عاما، ولذلك من السهل معرفة ميلاده بمعرفة تاريخ وفاة عثمان رضي الله عنه. وبالإضافة إلى ذلك فقد عاش الحسن البصري سنين من عمره في أحضان مكة خارج مسقط رأسه، حيث كان أبوه ينتقل إليها قبل أن يستقر بهما المقام بالبصرة في نهاية المطاف.

ولم يفت الحسن البصري أن ينجز أسرة مثالية تتكون من زوجين وثلاثة أبناء، أحدهم سعيد وكان يكنى به، وثانيهم عبد الله، ويروى الكثير من الفضائل عن السلوك المثالي للحسن البصري وهو يرعى أسرته حيث كانت تهيمن عليه مبادئ التقوى والعفة والورع وإيثار الحلال على الحرام وترك الشبهات مهما يكن حجمها صغيرا أم كبيرا، والحب والوفاء لأعضاء أسرته عند السراء والضراء. وتدل على ذلك أبلغ دلالة، كلمته وهو يفارق أعز إخوته سعيد “الحمد لله الذي لم يجعل الحزن عارا على يعقوب ضيفا “بئست الدار المفرقة”.

وقد اجتمعت للحسن البصري كمالات الجسم ومحاسن الأخلاق. ففيما يخص الشق الأول، كان جميل الصورة مشهورا بالجمال ومن أجمل أهل البصرة صورة، معروفا بذلك مقبولا عند الناس. ونجد شهادات معاصريه في هذا الباب كثيرة متواترة، نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر شهادة موسى بن إسماعيل بن عاصم بن يسار الرقاش إذ يقول: أخبرتني أمة الحكم قالت: “كان الحسن يجيء إلى حطان بن عبد الله الرقاش، فما رأيت شابا قط كان أحسن وجها منه”.

وكان يصفر لحيته كل جمعة ويلبس الطيسان ويلبس عمامة سوداء ويصلي في نعليه على السنة ويتختم بيده اليسرى خاتما من الفضة عليه خطوط، وكان ذا شعر طويل يتركه ويحلقه يوم النحر ويحمل عصا في يده. وباختصار، كان الحسن البصري نموذجا حيا في عظمة البنية وقوة العضلات وكمال التكوين.

وفيما يخص الشق الثاني المتمثل في سجاياه الأخلاقية، فقد كان رجلا حزينا يغلب عليه الأسى أكثر مما يستسلم للفرح والضحك. وإلى جانب ذلك كان صاحب هيبة ووقار ومروءة وكرم وسخاء ورفق بالفقراء والأصحاب.

ويروى عنه كان يبكي ويقول: “ولقد رأيت أقواما يمسي أحدهم ولا يجد عنده إلا قوتا فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني لأجعل بعضه لله عز وجل”، وجعل المال وسيلة لا غاية إذ قال في هذا الموضوع: “والله ما أعز أحد الدرهم إلا ذل”ونتيجة لهذا الموقف من المال ومتاع الدنيا، عاش الحسن البصري عفيفا قانعا مستغنيا عن استجداء الناس. وتطبيقا كذلك لموقفه هذا من المال، كان لا يأخذ أجرا على امتهان القضاء، وإنما يقضي بين الناس حسبة لله تعالى، وكان يسكن في أحد الأحياء المتواضعة للبصرة حيث يسكن الفقراء والزهاد – إلا أنه لم يكن يحرم نفسه مع ذلك من طيبات الطعام مما أحله الله فيطعم نفسه بجيده كما يطعم معه أصدقاءه ومحبيه مما يطعم به نفسه. ولم يكن الحسن البصري يبخل بإجابة الدعوات للولائم ولا من طرف العلماء والحكام، وكان يدعو آخر الوليمة بهذا الدعاء”مد الله لكم في العافية وأوسع عليكم في الرزق واستعملكم بالشكر”.

وعن شجاعته، كان الحسن فارسا مغوارا وقد برهن على ذلك في الغزوات الكثيرة التي شارك فيها، ومن بينها ذهابه مع الربيع بن زياد إلى خرسان سنة 51 للمحرم.

وأضاف الحسن البصري إلى شجاعته الحربية، فصاحة اللسان وعلو كعبه في اللغة العربية رغم أنه من الموالي، وتعلل فصاحته هذه برضاعته من أم سلمة رضي الله عنها حتى أصبح من أجود الخطباء ويشهد له الجاحظ بقوله: “فأما الخطب فأنا لا أعلم أحدا يتقدم الحسن البصري فيها: “وكان له حس لغوي ونفور من اللحن إلى درجة أنه كان يستغفر الله إذا عثر بشيء من اللحن ويعده خطيئة وقد استطاع بموهبته هذه أن يجعل الخطابة وسيلة لبسط آرائه ومبادئه بطريقة جذابة ينجذب الناس لمضامينها وينسحرون لروعتها وأسلوبها، كما يستميلهم إخلاص صاحبها وصدقه في القول والفعل وكان يستعين في أسلوبه بالقسم فيضمن خطبه بهذه العبارة” والذي نفس الحسن بيده” ومخاطبة مستمعيه بقوله: “يا ابن آدم” بقدر ما يستعين بالوسائل البلاغية من إطناب وإرسال وتفصيل وغيرها، كلما كانت الحاجة ماسة إلى ذلك.

وعن عبادة الحسن البصري وتدينه، فقد حاز القدح المعلى. وكانت حياته كلها حياة دعوة، إذ كان عابدا في علمه، عابدا في معاملته وعابدا في جهاده، كما كانت حياته موزعة بين المسجد وبيته، فهو يعقد مجلسا علميا في جامع الأمير، ويضيف إليه مجلسا آخر في بيته. وكان يوثر الورع في حديثه قائلا في هذا الصدد: “لولا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدثتكم بكثير ما تسألون عنه” وقد حج في حياته مرتين فسئل عن الحج المبرور؟ قال إن ترجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة. كما كان يداوم على تلاوة القرآن والتأثر لمعانيه ومواعظه إلى درجة البكاء.

وقد ارتقى الحسن البصري بعبادته إلى درجة الزهد الإيجابي، حيث عد من كبار الزهاد ونموذجا للزهد في عهده الأول قبل أن تدخل عليه مظاهر خادعة ونسك عجمي، وقبل أن يصبح أسلوب معيشة. وهكذا كان الحسن زاهدا بالمعنى الدقيق لكلمة الزهد، متمثلا بشخصيته الزاهدة الأنبياء والصديقين والصحابة، وقد كثرت معاني الزهد في حياة الحسن أقوالا وخطابة وتطبيقا وممارسة، وفيه يقول صاحب الحلية: ومنهم – أعني من الصوفية – حليف الخوف والحزن، أليف الهم والشجن عديم العزم والوشي أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن، الفقيه الزاهد المتشمر العابد.

كان لفضول الدنيا وزينتها نابذا ولشهرة النفس وتحدثها واقدا”، وفي نفس هذا المعنى توالت الشهادات تَتْرى لكل من ترجم للحسن البصري، ويعزى زهده هذا لعدة أسباب:

أولا: نفسية الحسن البصري المتميزة، فهي نفسية متوازنة صادقة، يوافق عمله علمه ويوافق منهجه حكمته، فهو يعايش الدنيا ويقف منها على ضوء فهمه للآخرة، كما وكانت نفسيته نفسية المرشد الشغوف والواعظ الرقيق المربي الحكيم.

وثانيا: تربية الحسن الدينية والعلمية، إذ نشأ في أحضان بيوت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأمهات المومنين رضي الله عنهن ويتذكر جيدا ما شاهده من أعمالهم وما سمعه من أقوالهم ويقول عنهم في حديث له: ” والله لقد كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي يمشون عليه ما يبالون أشرقت الدنيا أم غربت ذهبت إلى ذا أو ذهبت إلى ذا” كما يتعجب ممن لا تطابق أعمالهم أقوالهم قائلا: ” ﻟﻘﺪ ﺃﺩﺭﻛﺖ ﺃﻗﻮﺍﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﺁﻣﺮ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﺎﻟﻤﻌﺮﻭﻑ ﻭﺁﺧﺬﻫﻢ ﺑﻪ، ﻭﺃﻧﻬﻰ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﻨﻜﺮ ﻭﺃﺗﺮﻛﻬﻢ ﻟﻪ، ﻭﻟﻘﺪ ﺑﻘﻴﻨﺎ ﻓﻲ ﺃﻗﻮﺍﻡ ﺁﻣﺮ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﺎﻟﻤﻌﺮﻭﻑ ﻭﺃﺑﻌﺪﻫﻢ ﻋﻨﻪ، ﻭﺃﻧﻬﻰ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﻨﻜﺮ ﻭﺃﻭﻗﻌﻬﻢ ﻓﻴﻪ. ﻓﻜﻴﻒ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻣﻊ ﻫﺆﻻﺀ؟ “شاجبا لهذا النفاق مستهجنا لأصحابه، ويقول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن اتخذهم مثله الأعلى وقدوته الحسنة: “ظهرت منهم علامات الخير في السماء والسمت والهدى والصدق وخشونة ملابسهم وممشاهم بالتواضع ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم الطيب من الرزق وخضوعهم بالطاعة لربهم تعالى إلى أن يقول حسنت أخلاقهم وهانت مؤونتهم وكفاهم اليسير من دنياهم إلى آخرتهم”.

إذن فتربية الحسن الدينية المبنية على الكتاب والسنة واقتفاء أثر الصحابة الصالحين، أدت به إلى الزهد منهجا لحياته والقناعة باليسير من الرزق واعتبار الدنيا مطية للآخرة . وبهذا جعله الصوفية واحدا من أقطابهم، والواقع أن مصطلح الصوفية لم يكن معروفا زمن الحسن البصري، كما أن الصوفية المختلطة معناها بكثير من أفكار الشيعة لا تمت بصلة إلى مذهب الحسن البصري الملتزم بالكتاب والسنة واعتمادهما منبعا للأخلاق والزهد والإحسان وفقه العبادات والمعاملات، فزهد الحسن يختلف كليا عن الزهد الصوفي في معناه ومبناه كما أكد ذلك الدكتور عمر عبد العزيز…

وظائف الحسن وكتبه

يذكر في كتب التراجم للتابعين أن الحسن عمل في القضاء فعن سليمان بن حرب قال: “حدثنا حماد بن سلمة عن يزيد الرشك قال: كان الحسن على القضاء ولم يحمد فيه: وكان لا يأخذ على قضائه أجرا وإنما يعمل ذلك احتسابا حتى استعفي من القضاء – وتفرغ بعد ذلك للعلم والوعظ ومال إلى ذلك بما يرويه الحسن نفسه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عبد الرحمن بن سمرة يستعجله فقال يا رسول الله خير لي، فقال: “اقعد في بيتك”، كما عمل الحسن كاتبا للربيع بن زياد إبان غزوة في عهد معاوية.

ولا تذكر كتب التراجم مصدر دخل الحسن المالي، وإنما تكتفي بوصفه بالسخاء والزهد، ويبدو أن دخله كان من العطاء من الحكومة، وسئل ذات مرة أيأخذ عطاء من الدولة أم يدعه ليتقاضاه من حسنات بني أمية يوم القيامة فقال له: قم ويحك خذ عطاءك فإن القوم مفاليس في الحسنات يوم القيامة.

وعن هشام بن حسان قال: بعث سلمة بن عبد الملك إلى الحسن جبة وخميصة، فقبلهما، فربما رأيته في المسجد وقد سدل الخميصة على الجبة وكان يقول: “كسب الدرهم الحلال أشد من لقاء الزحف”.

والخلاصة أن الحسن كان ورعا في كسب المال، سخيا في إنفاقه عفيف اليد والضمير، تجلله التقوى في كل ما يتعلق بالمال.

مواقف الحسن السياسية

لقد كان الحسن البصري ابن الجيل الأول فكرا ومنهجا وعملا، واتسم موقفه السياسي بالاحتراز وطلب السلامة والنجاة وبراءة الذمة كارها الفتن والخروج على طاعة الإمام من غير الإخلال بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ كان ناصحا أمينا لولاة الأمر لهم بالآخرة. وإذا ما قبل عطاياهم، فكان لا يخشى في الله لومة لائم. ونتيجة لذلك كان صادقا بالحق شجاعا رغم عنف وقساوة الحكام والولاة وأخذهم بالشبهة، وسرعة تهورهم في القضاء على الخصوم.

وتبدو مواقف الحسن السياسي واضحة وجلية في علاقاته مع ولاة عصره، وفي مقدمتهم أمير المومنين معاوية مؤسس الدولة الأموية، إلا أن المصادر لم تتحدث عن هذه العلاقة إلا لماما، ومن ذلك رسالة الحسن إلى معاوية التي يقول فيها: “أما بعد فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وكافة للناس أجمعين ينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين” ولعل انشغال الحسن بالغزو خلال هذه الفترة ولمدة ثلاث سنوات هو السبب في ضحالة علاقته بمعاوية.

وبعكس ذلك، فقد كانت علاقة الحسن البصري بمعاصره والي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي، علاقة تتسم بالزخم والتوتر المستمر لسنوات ذوات العدد، إذ كانا يمثلان الصراع بين الحق والباطل، بين الموالي وبين الدين والدنيا، بين الكلمة الطيبة الزاهدة وحدة السيف وغضبه، فالحجاج أعمته الدنيا وزخرفها وأغواه الملك والغطرسة، بينما الحسن رغب في الآخرة وزهد في الدنيا ووعظ بالحكمة والتزم بها.

وكان الرجلان على جانب كبير من التشابه وخاصة في الفصاحة وذلاقة اللسان، إلا أن الحسن كان أفصح، سيما في الخطب الدينية التي تخاطب العاطفة وتلهب الوجدان، بينما كان الحجاج خطيبا سياسيا مؤثرا وكانا يتبادلان الود والإعجاب، فكان الحسن يداري الحجاج وينصحه برفق، بينما كان الحجاج يجامل الحسن ويعجب به وينصح الناس بمجالسته، ويقول فيه حين سئل عن أخطب الناس: “إنه ذو العمامة السوداء بين أخصاص البصرة إذا شاء خطب وإذا شاء سكت”.

وبالرغم من هذا التساكن الحذر بينهما، فقد كاد الحجاج أن يطيح برأس الحسن كما أطاح برؤوس أخرى لولا لطف الله وقدره – ذلك أن الحسن سئل من طرف الحجاج في شأن علي وعثمان، فأجابه أقول قول من هو خير مني عن من هو شر منك: قال فرعون لموسى ما بال القرون الأولى؟ قال: “علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى” وأضاف علم علي وعثمان رضي الله عنهما عند الله – وكان الحسن يردد كلمات بين شفتيه مستجيرا بربه فحفظه الله من شر الحجاج – وقد قال الحسن عندما بلغه موت الحجاج: “وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين”.

وأيام الحجاج خرج ابن الأشعث على الدولة الأموية وخاصة على ظلم الحجاج، فطلب من الحسن البصري أن يخرج مع عامة سكان البصرة حتى يكون سندا لهم بعلمه وشجاعته وسمعته الدينية فاتخذ موقفا مستقلا من هذه الثورة وهو عدم مساندتها وعدم الخروج مع أنصارها مرتئيا أن يترك أمر الولاة وشأنهم لله تعالى يحاسبهم متمثلا بقول الله تعالى ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون”.

والثورات بنظره لا تجلب إلا الغبن والانشقاق كما يرى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أولى من أعمال السيف والثورة وهو من طبيعته وسجيته كره الفتن وعدم الوقوع في متاهاتها.

ونجد علاقة الحسن بالخليفة عمر بن عبد العزيز علاقة متميزة، علاقة حاكم عادل بإمام عادل، علاقة محبة ونصيحة، فالحسن يكتب رسائل مطولة لتذكير عمر وإرشاده، وعمر يستأنس برأي الحسن ويستشيره غير ما مرة، وحري أن يقال فيهما “وافق شن طبقة” إذن فمواقف الحسن السياسية مبنية كما نرى على شجب الظلم ونصرة العدل وإحقاق الحق وإزهاق الباطل.

وبعد وفاة الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه خرجت ثورة جديدة من البصرة يرأسها يزيد بن المهلب بعد أن فر من السجن الذي وضعه فيه عمر لمال مستحق عليه، وهنا توسط الحسن البصري لإقناع المهالبة بالعدول عن الثورة بما عهد فيه من فصاحة وقوة إقناع واللجوء إلى الصبر مع الحكام، بدل من الاحتكام إلى السيف والتحريض على الفتنة مستدلا بقول الله تعالى: (وتمت كلمة ربك بالحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنها ستكون عليكم أئمة تعرفون منهم وتنكرون، فمن أنكر بلسانه فقد برئ ومن كره بقلبه فقد سلم يا رسول الله: أفلا تقاتلهم؟ قال لا ما صلوا”.

وفاة الحسن البصري

كما كان الحسن البصري رضي الله عنه محببا إلى الناس في حياته الصاخبة والتي تطرقنا للحديث عن بعض جوانبها بعد مماته، ولعل دعوة عمر بن الخطاب أصابته حين قال بشأنه “اللهم حببه إلى الناس”، إضافة إلى أن دعوة الحسن كانت دعوة محبة طيلة حياته مع جرأة على الحق وزهد بما في أيدي الناس والحكام ناصحا لأمة المسلمين رحيما بها.

ورغم الضعف والإرهاق الذي أصاب الحسن من جراء الشيخوخة وتقدم السن، قفد ظلت نفسيته قوية جريئة في الحق حتى آخر رمق في حياته.

ثم تقدم به المرض والشيخوخة حتى أصبح لا يطيق الكلام، وأصبح عواده يعودونه فرادى ومجتمعين ملتمسين الأجر والثواب والموعظة من رجل محل النصيحة ومكانها فقال مرة لعواده: “إني مزودكم بثلاث كلمات ثم قوموا عني ودعوني وما توجهت له، ما نهيتم من أمر فكونوا من أترك الناس له، وما أمرتم به من معروف فكونوا من أعمل الناس به، واعلموا أن خطاكم خطوتان خطوة لكم وخطوة عليكم فانظروا أين تغذون وأين تروحون”.

وفي مرض موته أغمي على الحسن وأفاق من إغمائه، فالتفت إلى من حوله قائلا: “نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم” واشتد به النزع حتى عجز عن الكلام فصعدت روحه إلى بارئها ليلة الجمعة سنة 110ﻫ موافق 728م عن عمر يناهز الثامنة والثمانين، وقد صلى عليه عقيب الجمعة النضر بن عمر المقري – وتبع الناس كلهم جنازته واشتغلوا بها حتى أن صلاة العصر لم تقم بالمسجد هذا اليوم، مع أنها لم تترك منذ أن كان الإسلام إلا يومئذ – فرحم الله الحسن البصري حيا وميتا. وبهذا ينتهي القسم الأول من العرض حاولت أن أكون فيه وجيزا أكثر ما يمكن غير مطنب في التحليل، اعتبارا للوقت الممدد وتبنيا للحكمة القائلة يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

حياة الحسن البصري العلمية

لقد كان الحسن بحق موسوعة علمية ذا ثقافة عالية متنوعة والإحاطة بهذا الجانب من حياة الحسن تتطلب أناة وصبرا كبيرا ذلك أن الحسن مقل في التأليف وعلمه منشور في أمهات الكتب يحتاج تجميعه إلى بصيرة وجهد ولكني أجتزئ بتناول بعض المحطات من حياة الحسن العلمية وفقا للتعميم الآتي ملتزما بالمجازة متحيزا للاقتضاب.

شيوخ الحسن وتلامذته

أولا: شيوخه

لا ريب أن الحسن عاصر كثيرا من الصحابة إذ رأى عليا رضي الله عنه وطلحة رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها وروى عن أبي كعب وسعد بن عبادة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يدركهم وروى عن ثوبان وعمار بن ياسر وأبي هريرة رضي الله عنهما وعثمان بن أبي العاص ومعقل بن سنان ولم يسمع منهم في قول، وروى عن عثمان وعلي رضي الله عنهما وأبي موسى وأبي بكر وعمران بن حصين وجندب البجلي وابن عمر رضي الله عنهما وابن عباس رضي الله عنه وابن عمر ومعاوية رضي الله عنهما ومعقل بن يسار وأنس وجابر وخلف كثير من الصحابة والتابعين – إذن فالحسن تلميذ الصحابة النجيب وخريج المدينة البار. وأهم الشيوخ الذين تتلمذ عليهم الحسن في شبابه هم كالتالي:

1/ أنس بن مالك الأنصاري رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت سماع الحسن من أنس وكان أنس معجبا بالحسن حتى قال فيه: “إني لأغبط أهل البصرة بهذين الشيخين الحسن وابن سيرين” وكان الحسن يتابع أنس في أقواله وأفعاله، فقد قال بعدم الجمع في عرفة ومزدلفة استشهادا بفعل أنس، ومن جملة ما روى الحسن عن أنس قول أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن السرف أن تأكل ما اشتهيت”

2/ عبد الله بن عباس.
  1. عبد الله بن مغفل بن عبد نهم بن عقيق المزنى، أحد العشرة الذين بعثهم عمر ليفقهوا الناس في البصرة.
  2. معقل بن يسار المدني ممن بايع تحت الشجرة، روى عن عمر أن بن حصين ومعاوية بن قرة وهو الذي ينسب إليه نهر معقل بالبصرة، ومما رواه الحسن عنه: “أفطر الحاجم والمحجوم”.
  3. الأحنف بن قيس شيخ البصرة الكبير، وقد روى الحسن عن الأحنف الكثير – وقائمة شيوخ الحسن ما تزال طويلة، وقد أوردت نماذج منها كالدلالة على المستوى الرفيع الذي تمثله في العلم والحديث والقرب من جيل الإسلام الأول، وممن روى عنهم الحسن عبد الرحمن بن حجر وعبد الله بن عمر بن لخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه كما روى عن عثمان بن عفان بن أبي العاص القرشي رضي الله عنهم وعمر بن تغلب النمري ونفيع بن الحارث الثقفي.

تلامذته

لقد اشتغل الحسن البصري أكثر من سبعين عاما طالبا للعلم وناشرا له، يدرس في حلقات المسجد ويخطب فيه ويحدث – وكما أسلفنا فقد كان له مجلسان مجلس في المسجد الجامع ومجلس خاص في بيته. وكان طلاب العلم يتحلقون حوله – وقد انتقل علم الحسن – الرواية من هؤلاء التلاميذ – وكان مجلسه متنوعا في الحديث والتفسير والفقه، وفيما يلي عرض موجز لنخبة من تلاميذه:
  1. أيوب السختياني بن أبي تيمية الذي قال عنه ابن سعد: “كان أيوب ثقة كثير الحديث جامعا عدلا ورعا كثير العلم، حجة، ولد سنة 86ﻫ وعاش في البصرة والتقى بالإمام الحسن وجلس في حلقته وقال عنه الحسن: سيد شباب أهل البصرة.
  2. حماد بن سلمة بن دينار البصري ويكنى أبا سلمة – وكان ثقة كثير الحديث ورعا حدث بالمناكير، وكان مواظبا على الأعمال الصالحة وقراءة القرآن.
  3. عبد الله بن عوف بن أرطبان المربى – التقى بالحسن وأخذ عنه العلم وأكثر أسانيده عنه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، وجمع الكثير من الإسناد.
  4. عمرو بن عبيد بن باب التميمي البصري، توفي سنة 142ﻫ. وقد جالس الحسن وحفظ واعتزل الحسن مع واصل بن عطاء، وقال بالقدر – وقال الحسن في وصفه بعدما سئل عنه: سألتني عن رجل كان الملائكة أدبته وكان الأنبياء ربته… وكان له سمت الزهاد.
  5. فرقد السجني أبو أيوب البصري وكان نصرانيا وأسلم من كبار زهاد المسلمين في عهد الحسن، جالس الحسن وسمع منه واشتهر بفكرة الجوع وكان يقول: “ويل لذي بطن من بطنه إن أضاعه ضعف وإن أشبعه ثقل”. وكان يلبس الصوف وينصحه الحسن قائلا: “دع عنك نصرانيتك هذه”.
  6. قتادة بن دعامة بن عزيز بن عمرو بن ربيعة السدوسي البصري، توفي سنة 117ﻫ اشتهر بالتفسير، وجالس الحسن طويلا أكثر من اثني عشرة سنة، وكان يقول ما جالست فقيها إلا رأيت فضل الحسن عليه، وقد عرف قتادة هذا بالحفظ الشديد حتى قال عنه الإمام أحمد: قلما تجد من يتقدمه.
  7. واصل بن عطاء المعروف بالغزال المعتزلي الألثغ ولد سنة 80 ﻫ وكان أحد الأئمة البلغاء المتكلمين – وخرج على الحسن في قوله بالمنزلة بين المنزلتين، وانقطعت علاقته بالحسن بعد أن كان تلميذه.
ولا ريب أنه كان للحسن البصري تلامذة كثير غير هؤلاء ورواة للحديث عددهم ليس بالقليل، اهتمت بالتعريف بهم كتب التراجم ولمن يريد التفصيل الرجوع إليها واستشارتها.

الإمام الحسن فقيها

برز الحسن فيما برز فيه بالفقه، وكانت له نظرة خاصة للفقه ويبدو ذلك من جوابه لرجل سأله عن الفقهاء إذ قال: “هل رأيت فقيها قط، إنما الفقيه الزاهد في الدنيا البصير بدينه المداوم على عبادة ربه”.

والفقه يمثل الطابع الحقيقي للتفكير الإسلامي، ويعرف بالعلم بالأحكام الشرعية العلمية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، وقد مر بأطوار متعددة ففي الطور الأول كان يطلق على التشريع بمعناه الواسع وكانت السلطة التشريعية في هذه الفترة تعود للرسول صلى الله عليه وسلم وحده. فالأحكام كانت تنزل متدرجة، والرسول يفتي المسلمين في مسائلهم إفتاء حاضرا طريا وكان هذا طور النشوء.

وفي الطور الثاني، أعني عهد الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، امتد الإسلام وانتشر في بقاع شاسعة مما اضطر الخليفة عمر رضي الله عنه أن يرسل الصحابة ليعلموا الناس ويفقهوهم، وعلى إثر هذا التوسع واشتعال الفتن واختلاف الآراء، تطور الفقه وظهر الاجتهاد والمجتهدون، وانبثقت عن ذلك المدارس الفقهية التي أظلت عالمنا الإسلامي منذ العهد الأول إلى يوم الناس هذا.

وكان الناس يرجعون في عهد الصحابة للقرآن الكريم وسنة الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، ثم الاستشارة وجمع أهل الرأي والقضاء بما أجمعوا عليه. وامتازت هذه الفترة بالوقوف عند ظواهر النصوص دون بحث عن علة التشريع أو حكمته، وفي غياب النص يجب العمل بالرأي المبني على روح النصوص وفهمها، ومن هنا نشا النظر في علل الأحكام وحكمة تشريعها، وفي عهد التابعين كان الناس لا يتعدون فتاوى الصحابة المقيمين بين ظهرانيهم إلا اليسير مما كان يبلغهم عن غيرهم. وهكذا اتبع أهل المدينة فتاوى عبد الله بن عمر رضي الله عنه، واتبع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى عبد الله بن عباس رضي الله عنه، واتبع أهل مصر فتاوى عبد الله بن عمر رضي الله عنه، واتبع أهل البصرة فتاوى أبي موسى الأشعري وعمران بن الحصين رضي الله عنه.

ومن هنا نشأت الرحلة في طلب الحديث وتتبعه وجمعه وندب أقوام أنفسهم لذلك، فوصلت أحاديث رسول الله إلى البلاد النائية، وكانت فتاوى العلماء مستمدة من الحديث إلى أن استقر العمل على مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل.

وفي هذا المناخ المليء بالنشاط العلمي والحديثي إن صح القول، كان الحسن البصري أحد الأعمدة التي بني عليها الفقه الإسلامي – وكان منهجه في الفقه الميل للحديث والوقوف بشدة على ما صح عنده من عمل الصحابة، وأضاف إلى هذا الميل للحديث القول بالقياس والعرف والاستحسان، وهو يصرح بذلك حينما سأله أبو سلمة بن عبد الرحمان: “أرأيت ما تفتي الناس شيئا سمعته أم برأيك فقال الحسن: لا والله ما كل ما نفتي به سمعناه، ولكن رأينا لهم خيرا من رأيهم لأنفسهم” علاوة على أن المنهج الفقهي للحسن البصري كان متأثرا بشخصيته الزهدية المبنية على العاطفة وأعذار الناس، فنراه يلتزم حكما لنفسه ويفتي غيره بخلافه، مثلا كان لا يأخذ أجرا على التعليم وفي نفس الوقت يدفع أجرا للمعلم الذي يعلم ابن أخيه.

وربما استمد بعض جزئيات فقهه من المجتمع والبيئة وعالجها على أسلوب التكريه لا التحريم، فكان يوسع باب الكراهة ولا يقول بالحرام إلا بما نص عليه، وبذلك كان الحسن يتقمص شخصية المربي الذي يتدرج في تفهيمه الشرع للناس، الحريص على تربيتهم لا على محاسبتهم – وبقدر ما كان رحيما بالناس بقدر ما كان يلتزم الحذر والخوف على نفسه.
وهذه النظرة الشمولية والسعة في فقه الحسن جعلته في مصاف الفقهاء أصحاب المدارس، وهو نموذج لفقه الدليل وفقه أهل الحديث.

فيمكنك أن تعده شافعيا مرة ومالكيا مرة وحنفيا مرة أخرى وحنبليا حينا آخر، وقد يأتي بفقه لم يسر على مذهب هؤلاء الأعلام متميزا في بعض مسائله، وقد جمع فقه الحسن ميزات الطور الأول وسعة أهل المذاهب في الأطوار المختلفة، وكان يعتمد التمسك بالدليل مع فهم لتفتح الحياة. وفيما يلي نماذج لمواقف الحسن الفقهية بإيجاز:
  1. ففي مجال مسائل الطهارة، كان يرى ماء البحر طهورا كأكثر الفقهاء، واستدل بقوله سبحانه: (فإن لم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا) وماء البحر يدخل في عموم كلمة ماء.
  2. وفي مجال أحكام الاستنجاء وآداب التخلي، يرى أن الاستجمار المجزئ يكون بثلاثة أحجار، ويرى أن الاستنجاء بالماء ليس حسنا وقال بكراهة البول قائما.
  3. وفي مجال الوضوء، يرى أن التسمية واجبة مثل الغسل، وأن غسل الكفين قبل إدخالهما في الإناء واجب على كل من قام من النوم، وأن اللحية لا يجب تخليلها بل يكفي غسل ظاهرها، وأن الاقتصار على مسح بعض الرأس كاف كما يجوز المسح على العمامة، وأن الأذنين تعتبران من الرأس. كما قال بجواز المسح على الرجلين، وقرأ بجر الأرجل في الآية: (وأرجلكم إلى الكعبين) واعتبر أن الترتيب في الوضوء ليس بواجب، وللمصلي الصلاة كلها بوضوء واحد ما لم يحدث وكذلك الأمر بالنسبة للتيمم.
وفيما يخص نواقض الوضوء، يرى الحسن أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقا – وأن النوم ناقض للوضوء، كان قليلا أم كثيرا، وأن القهقهة في الصلاة توجب الوضوء، وأن مصافحة المشرك توجب الوضوء كذلك.
  1. وفي مجال الآذان والإقامة، كان يبعدهما عن النساء ويكره الآذان بغير طهارة، ويجوز الكلام للحاجة أثناء الآذان، ويجوز الآذان على الراحلة – أي المركب – وكان يرى كراهة أخذ الأجرة على الآذان.
  2. وفي مجال أعمال الصلاة: قال الحسن بأن تكبيرة الإحرام سنة وليست واجبة وعلى المصلي إسدال يديه أثناء القيام ورفع يديه عند الركوع والرفع منه، ويرى أن الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة في الصلاة سنة – و الأمر كذلك في كل ركعة قبل القراءة وأن التسمية مشروعة في أول الفاتحة، وللحسن روايات فيما يتعلق بالقراءة من المصحف في الصلاة. فرواية تقول لا تجوز وتبطل الصلاة وفي ذلك تشبه بأهل الكتاب، وأخرى تقول بكراهة القراءة، وأخرى تقول بجوازها للإمام، ورواية أخيرة تجيز القراءة في النفل دون الفرض.
وفيما يخص أحكام السهو، يرى الحسن أن الإمام إذا زاد في عدد الركعات ولم يعلم إلا بعد فراغه، يسجد للسهو وصلاته صحيحة، وأنه يسجد للسهو إذا نسي التشهد الأوسط، ويتحمل الإمام السهو وليس على من سها خلف الإمام سجود – ولا سجود على المأموم إذا لم يسجد الإمام، ويسجد المأموم مع الإمام إذا سها الإمام قبله وكان مسبوقا سواء كان السجود قبليا أم بعديا- ولا سجود للسهو في سنة خفيفة كالجهر أو السر في غير موضعه.

وفي أحكام الإمامة، يرى الحسن أن المصلين إذا كانوا ثلاثة فأكثر، يقف الإمام أمامهم ويقف المأموم المنفرد على يسار الإمام، وأن إمامة الصبي صحيحة مطلقا في الفرض أو غيرها وكذلك الأمر بالنسبة لإمامة العبد بالأحرار. وفي إمامة النساء للنساء روايتان له بالجواز وعدمه، كما يرى جواز قتل الحية والعقرب في الصلاة والفتح على الإمام ورده من طرف المأموم.

وفيما يتعلق بالجمعة، يرى الحسن أن خطبة الجمعة سنة تجوز الصلاة بغيرها، وأن تحية المسجد مستحبة والإمام يخطب، وأن تشميت العاطس جائز أثناء الخطبة ولا بأس بالكلام بين الخطبتين، وقال بعدم وجوب الجمعة على النساء والعبيد وبجواز تخطي رقاب المصلين بقصد الوصول إلى فراغ، كما قال بكفر تارك الصلاة، وأن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
  1. وفي مجال الزكاة وصدقة الفطر، ارتأى الحسن أن لا زكاة في مال الصبي والمجنون، وفي رواية، خصص عدم الزكاة في الذهب والفضة.
وحدد الزكاة في الزرع والثمار في أربعة أصناف: الحنطة والشعير والتمر والزيت، ورأى إخراج الزكاة في الطرق والجسور ومشاريع الخير استدلالا بالآية: (في سبيل الله)، كما قال بوجوب الزكاة فيما يخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان- وبوجوب الزكاة على الميت وتؤخذ من ماله لأنها دين عليه- وفيما يخص صدقة الفطر قال بوجوبها كما عند الجمهور ولا تجب إلا على المخاطب بالصوم، إذن فلا تجب على صغير بينما تجب على العبد المكاتب أيضا.
  1. وفي مجال الصيام أجتزئ بذكر بعض آرائه، فقد كان يرى الحسن إتباع الإمام في الصيام والإفطار إن عم حائل دون الرؤية، وعدم وجوب الصوم على من رأى الهلال وحده – وأن الرؤية لا تثبت إلا بشهادة رجلين – وأن صيام التطوع صحيح سواء بيت الصائم النية أم لا – وأجاز للشيخ الكبير الإفطار وإطعام مسكين عن كل يوم، بقدر ما أجاز ذلك للحامل والمرضع مع القضاء – كما للمسافر الحق في أن يفطر وهو في بيته إذا نوى السفر والخروج، وكان يرى أن الصبي يؤمر بالصيام إذا أطاقه وأن الكافر لا يلزمه قضاء ما فاته قبل إسلامه.
  2. وفي مجال الحج والعمرة: ذهب الإمام الحسن إلى أن العمرة واجبة، وأنه يكره للمسلم أن يعتمر أكثر من مرة في العام- وأشهر الحج عنده شوال، ذو القعدة وعشرة ذي الحجة، وذهب إلى أن التمتع أفضل مناسك الحج، وأن الإنابة جائزة للحي إن لم يحج عن نفسه – ومن مات وعليه حج وهو قادر يجب أن تؤدى عنه من ميراثه – ويرى أن الجماع قبل طواف الإفاضة يبطل الحج وعليه حج قابل – ولا بأس بشم الريحان والنرجس وجواز الإدهان بدون طيب، ويرى أن مبيت منى أيام التشريق سنة وليس واجب.
  3. وفي ميدان البيوع قال الحسن بأن الشرط المنافي لمقتضى البيع فاسد والبيع صحيح، ورخص في بيع المصاحف، وأجاز بيع المرابحة، وهو البيع برأس المال مع نسبة معينة من الربح للبائع. وقال بعدم جواز بيع الكلاب سواء للصيد أو حراسة أو غيرها، ولم ير بأسا في الهر. كما أجاز بيع اللبن في الضرع والثمار في شجرها إذا نضجت، ورأى أن الخيار في المجلس في البيوع وقال بعدم جواز بيع الحب بدقيقه، وعدم جواز بيع اللحم بالحيوان.
وفي مجال ما انفرد به الحسن البصري من آرائه نعرض لبعضها كما يلي:

ـ من صافح مشركا فليتوضأ.

ـ غسل الكفين ثلاثا قبل إدخالهما في الإناء وإلا ينجس الماء.

ـ من جامع زوجته وهي حائض وجبت عليه كفارة من جامع أهله في رمضان.

ـ جواز تغميض العينين في الصلاة ولا كراهة في ذلك.

ـ جواز استمرار قصر المسافر للصلاة ما دام لم يجد مصرا يقيم فيه ولو طال به الأمد.

ـ جواز إعطاء الجزار جلد الهدي.
وبصفة عامة نرى مما سبق أن فتاوى الإمام الحسن موافقة ومطابقة لفتاوى المذاهب الأربعة إلا فيما ندر، ونراها شاملة لمختلف فنون العلم، وتصلح أن تكون مؤلفا مستقلا سهل التناول – ومع أخذه بظاهر النصوص وأحوال الصحابة، فهو يميل في بعض الفتاوى إلى الرأي، وقد يكون غريبا متأثرا بأحوال الناس وحالته النفسية الزهدية كما ألمحنا إلى ذلك سابقا والحق أن الحسن كان ثقة في فتاويه، حريصا عليها جاهرا بها مما أكسبته سمعة متميزة إضافة إلى ثناء العلماء عليه.

الحسن مفسرا

لقد تصدى الحسن البصري لعلم التفسير وكان من رجاله، فقد كان مالكا لشروطه ومؤهلاته، عالما بلغات العرب وبالنحو والتصريف وعلوم البلاغة والقراءات، كما كان عالما بأصول الفقه وناسخ القرآن ومنسوخه ومدركا لأسباب النزول – كل هذه المؤهلات جعلت من الحسن أحد رواد المفسرين الأوائل لكتاب الله.
وقد كانت مصادر التفسير في العهد الأول: القرآن الكريم ثم السنة النبوية، ثم الاجتهاد والاستنباط ثم علم أهل الكتاب من اليهود والنصارى – وكان الصحابة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذون التفسير من الرسول الكريم، يفسر لهم القرآن بالقرآن والقرآن بالسنة، وبعد وفاته اعتمدوا على المنقول فيما بينهم وعلى ما تيسر لهم من اجتهاد، وقد برز عدد منهم في التفسير وتخصص فيه ومن أشهرهم: الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم.

وبعد كثرة الفتوحات وشساعة البلاد المفتوحة وتوزع علماء المسلمين فيها، انبثقت عن ذلك مدارس تفسيرية وكان من بينها:
  1. مدرسة مكة وقامت على تفسير عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ومن أشهر تلاميذه سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وطاووس وغيرهم كثير.
  2. مدرسة أهل المدينة، وقامت على تفسير أبي بن كعب ومن أشهر رجالها زيد بن أسلم وأبو العالية رفيع بن مهران الرياصي.
  3. مدرسة البصرة حيث بدأ علم التفسير بها مبكرا، إذ أرسل إليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسى الأشعري، وهو من كبار الصحابة، ليعلم أهلها القرآن والقراءات. فكان أن تلقى عنه عدد غفير من الطلبة والعلماء وفي مقدمتهم الحسن البصري، موضوع حديثنا، وابن سيرين وقتادة وجابر بن زيد وغيرهم. وهكذا كان للحسن باع طويل في علم التفسير، مثلما كان متضلعا في الفقه والحديث. وقد قال فيه صاحب كتاب “التفسير والمفسرون” “هذا وإن الحسن البصري ليجمع إلى صلاحه وورعه وبراعته في الوعظ غزارة العلم بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم – وأحكام الحلال والحرام وقد شهد له بالعلم خلق كثير”.
ومن الجدير بالذكر، أن الحسن البصري يعتبر بحق مدرسة تفسيرية أخذ عنه قتادة الشيء الكثير المنشور في كتب التفسير، وكان يميل في تفسيره إلى الوعظ وسرد القصص بأسلوب فني جميل، ومن ذلك مثلا تفسيره لقول الله تعالى: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) يقول الحسن: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله هذا خليفة الله، أحب الخلق إلى الله، أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله منه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته وقال إنني من المسلمين، فهذا خليفة الله.
ومن نماذج تفسير الحسن تفسيره للآية: (إنا أنشأنهن إنشاء فجعلناهن أبكارا) حيث قال أتت عجوز فقالت يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز، قال فولت تبكي، فقال أخبروها أنها لن تدخلها وهي عجوز وقرأ الآية…
ومن هذه النماذج أيضا تفسيره لقول الله تعالى: (وشاورهم في الأمر) قال الحسن ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من فضل ولتقتدي به أمته من بعده.

الحسن داعية

كانت حياة الحسن مركزة بشكل أساسي على الدعوة إلى الله وتوجيه العباد إلى طاعته، وكانت نفسه تتمثل الورع والزهد والعفة وتعظيم الآخرة، وكانت الدعوة بنظره أن يطلب من الناس الإيمان بالله وبكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مع العمل بذلك والالتزام به امتثالا للآية الكريمة: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) – والدعوة إلى الله تدور بنظره لذلك على إنقاذ الناس من الضلالة وتحذيرهم من الأمور المؤدية لهلاكهم وضياعهم، وقد تكون الدعوة بالسيف إن دعت الضرورة لذلك وهذا بابه الجهاد وقد تكون بالعلم وهذا سبيله العلماء وقد تكون بالوعظ والإرشاد وهذا شأن الوعاظ المرشدين والدعاة مصداقا لقوله تعالى: (ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وألئك هم المفلحون) ( آل عمران: 104) ولقوله صلى الله عليه وسلم: “الدين النصيحة قالها ثلاثا قلنا لمن يا رسول الله؟ قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”.

مؤلفات الحسن البصري

إن من يدرس حياة الحسن البصري ويتفهم جوانب حياته لا يعجب أن لا يرى للحسن مؤلفات بالمعنى المصطلح عليه، فالتأليف عنده كان بطريقة خاصة فبدل أن يدون علومه في الكتب أودعها في قلوب الرجال وخرجت مدرسته آلاف العلماء الذين نفع الله بهم الأمة – فقد توجه الحسن إلى العلم والتعليم مشافهة، وكان في ذلك منسجما مع عصره فلم تكن المؤلفات بشكلها الحاضر موجودة إلا في النادر إذ لم يظهر التأليف والتدوين، إلا بعد عصر الحسن، وليس هذا عيبا للحسن فهو ابن عصره وتربيته تربية زهد وبعد عن الشهرة – وهناك بعض الإشارات تقول إنه كان للحسن بعض المؤلفات ولكنه أحرقها، ومهما يكن أمر هذه الإشارات ومدى صحتها أو عدم صحتها، فقد روي عن الحسن قوله “ما قيد العلم بمثل الكتاب” وعن تمام بن نجيح عن الحسن: “أنه كان يكتب للناس العلم ويعرضه عليهم” – وإن دل كلامه هذا على شيء فإنما يدل على أن الحسن كان يوحي بنجاعة الكتابة للعلوم مما يضمن استمراريتها وانتقالها للأجيال المتلاحقة عبر العصور والأحقاب المتتالية، وعلى كل حال فقد خلصت للحسن بعض المؤلفات نص عليها أصحاب الاختصاص ومن بينها:
  1. فضائل مكة والسكن فيها – طبع في الكويت 1980.
  2. كتاب العدد؛ (أي وأي عدد أي القرآن الكريم) وكتاب التفسير.
  3. كتابه إلى عبد الملك بن مروان في الرد على القدرية.
  4. رسالة في التكاليف.
  5. نزول القرآن.
  6. أربع وخمسون فريضة.
  7. شروط الإمامة.
  8. رسالة إلى عمر بن عبد العزيز.
هذه نظرة موجزة عن مؤلفات الحسن البصري، وهي كما نرى، لا تعكس علوم الحسن الموسوعي تلك العلوم المبثوثة في أمهات كتب الحديث والتفسير.

وإذا كان المطلوب من الداعية أن يكون متوفرا على العلم وتوصيله للناس بالحكمة والموعظة الحسنة بقدر توفره على الزهد والحلم وسع الصدر والفصاحة والتواضع، وأن يكون قدوة حسنة في دعوته، فقد أحسن الإمام البصري في كل ذلك وأجاد أيما إجادة، وكان حكيما ينطق بالكلمة في موضعها، مركزا على علوم الآخرة التي هي أول ما نقصت في حياة الناس، وكان يخاطب كل إنسان حسب منزلته فيصبر على الجاهل والغافل والساهي وإن خاطب العلماء والقراء شدد عليهم، وقد أكثر الحسن من العفة والاستغناء عن الناس، وفي هذا الصدد روي أن أعرابيا سأل أهل البصرة من سيدكم؟ قالوا الحسن. قال بما سادكم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دينارهم. قال الأعرابي: ما أحسن هذا.

وكان موقفه من الحكام حذرا متجنبا الفتن، فبقدر ما يعظمهم ويرشدهم، يفعل نفس الشيء مع الرعية، محافظا على توازن المجتمع وكارها إراقة الدماء – وهكذا تعهد الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بنصائح ودرر ومواعظ لها فعل السحر، ورسم له خطة للحكم بما ينفع الناس وصفها أحد الكتاب بقوله: “لو أن فيلسوفا أخلاقيا تخير حاكما لمدينة فاضلة ما اختار إلا ما وصفه الحسن حاكما يصلح حياته ويجعلها نعيما”.

مكانة الحسن العلمية وآراء العلماء فيه

نظرا لشخصية الحسن الفذة ومكانته العلمية المتميزة، كما ألمحنا إلى بعض معالمها، فقد نال منزلة خاصة عند الأمة، كما نال نفس التقدير والإعجاب من العلماء، بل ملئت كتب التراجم والطبقات بالتعريف به، ومن العجيب أن كل مذهب ظهر بعد الحسن، تعلق بشيء من علمه.

فالقدرية تعلقوا ببعض كلامه وعدوه منهم، وأهل الرأي حسبوه من مدرستهم، وأهل الحديث نسبوه لمدرستهم، والشيعة نقلوا كلامه واستشهدوا به، والصوفية أدعته وبنت عليه طبقاتها. والحق أن الحسن يمثل طورين من أطوار التاريخ الإسلامي، عصر الصحابة وعصر التابعين وكان يتقمص شخصية الصحابي بقدر ما يتقمص شخصية التابعي بكل ما تمتاز به الشخصيتان من سمو في العلم والأخلاق والورع.

وفيما يلي نورد بعض الشهادات التي أوردها الدكتور عمر عبد العزيز الجغبير دليلا على استقامة الحسن وصدقه وعلمه وفضله.
  1. نقل ابن سعد في طبقاته: “كان الحسن جامعا عالما رفيعا فقيها، ثقة مامونا عابدا ناسكا – كبير العلم فصيحا وسيما إلى أن قال وما أرسل من الحديث فليس حجة قدم مكة فأجلسوه على سرير واجتمع الناس إليه فحدثهم”.
  2. قال أبو إسحاق الهمداني: “كان الحسن يشبه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  3. وعن حميد ويونس بن عبيد أنهما قالا: “لقد رأينا الفقهاء فما رأينا منهم أجمع من الحسن”.
  4. وعن قتادة قال: “كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام”.
  5. وعن الحجاج الأسود: “تمنى رجل فقال ليتني بزهد الحسن وورع ابن سيرين وعبادة عامر بن قيس وفقه سعيد بن المسيب فنظروا ذلك فوجدوه كاملا في الحسن”.
  6. وعن سليمان بن حرب عن غالب القطان قال: “وكان فضل الحسن عليهم – أعني علماء زمانه – كفضل الباز على العصافير”.
  7. وعن بكر المزني: “من سره أن ينظر إلى أعلم عالم أدركناه في زمانه فلينظر إلى الحسن فما أدركنا الذي هو أعلم منه.
  8. وقال الأعمش: مازال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها وكان إذا ذكر عند أبي جعفر – يعني الباقر، قال ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء.
  9. وقال ابن حبان في الثقات: “وكان الحسن من أفصح أهل البصرة وأجملهم وأعبدهم”.
  10. وفي مرآة الجنان: “أن الحسن من سادات التابعين كبرائهم.
  11. وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: “هو الإمام المشهور المجمع على جلالته في كل من أبو سعيد الحسني. هذه نماذج ضحلة وقليلة من شهادات العلماء الذين عاصروه أو أتوا بعده من عارفي قدره ومحبي علومه، ولا يمكنني استيعابها كلها في هذا العرض الوجيز – هذا ولا يخفى أن علوم الحسن البصري كانت موضوع رسائل جامعية كثيرة ومن بينها رسالة الدكتور عمر بن عبد العزيز الجغبير التي اعتمدتها من بين مراجع هذا العرض الوجيز. وقد شهد العلماء المحدثون والباحثون المعاصرون بالمكانة العلمية والحديثية والزهدية لشخصية الحسن البصري، واكتفي بإيراد شهادة واحدة من المحدثين هو الدكتور مصلح سيد بيومي في رسالته: ” الحسن البصري من عمالقة الفكر والزهد والدعوة في الإسلام” إذ قال: “فقد جمع بين الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح رضي الله عنه، وكان صاحب خبرات بعصره الذي عاش فيه. وكان لخطره وقدره في مجتمعه أن حاولت كل جماعة وفرقة أن يكون سيدا وإماما لها، ولا تكاد تجد كتابا أو بحثا في الدراسات الإسلامية الأصيلة إلا وفيه جانب من علم هذا الإمام العظيم، وأضاف “إن الحسن كان دائرة للمعارف في عصره، وكان دائما يميل إلى إصلاح الفرد والمجتمع كما كان يشارك في الحفاظ على كيان هذا المجتمع الذي عاش فيه.

الحسن البصري محدثا

كما ألمحنا إلى ذلك في بداية العرض المتعلق بالحياة العلمية للحسن البصري إذ يعتبر أحد حفاظ الأعلام ورأس الطبقة الثالثة، كما أكد ذلك مختار الصحاح وقد ترجم له كل من عني بالرجال، وهو شيخ أهل البصرة، اتصل بالصحابة في البصرة وخلال غزواته معهم – فقد جمع عنهم أحاديث كثيرة – ولم يكن الإسناد ظاهرا في تلك الفترة – وكان جل اهتمامه يدور حول معنى الحديث وما فيه من حث على الخير، وقد تخصص بجوانب من الأحاديث ذات طابع يتصل بنفسيته وأكثرها يميل إلى الزهد والعزوف عن الإمارة وتذكر الموت.

ولما ظهر السند، تتبع العلماء أحاديث الحسن فوجدوه يرسل كثيرا وربما يدلس فترجموا له بكثير الإرسال – وقد أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة وغيرهم. وكان عمدته في الحديث أنس بن مالك رضي الله عنه وسمرة بن جندب.

وقبل الحديث عن نماذج من مراسل الحسن البصري، أرى من المناسب الإشارة إلى تعريف المرسل في الحديث على خلاف الذي وقع فيه على النحو التالي:
  1. هناك من وسع معنى الإرسال، وهو قول الواحد من أهل الأمصار تابعي أو تابع تابعي ومن بعدهم ولو بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وينسب هذا القول لغلاة الحنفية.
  2. وهناك من ضيق معنى الإرسال إذ اختص به كبار التابعين من الذين أدركوا كثيرا من الصحابة كسعيد بن المسيب.
  3. ومن المحدثين من قال ما سقط في سنده رجل وانقطع على أي وجه كان انقطاعه سواء كان المرسل له تابعيا أو من بعده.
  4. ومنهم من قال – أن المرسل ما قال فيه التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان من كبار التابعين أو صغارهم.
وحسبما قاله الذهبي في الموقظة، فالمرسل علم على ما سقط ذكر الصحابي في إسناده، فيقول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى عكس ذلك عمم الفقهاء والأصوليون معنى المرسل إلى كل من ينقطع سواء كان تابعيا أو بعده. إذن يبقى رأي الذهبي هو رأي المحدثين وكل من يشتغل بعلم الحديث.

وفيما يلي أستعرض نماذج من مراسيل الحسن البصري كما أخرجتها كتب السنة الصحيحة تقريبا لعمل الحسن في مجال الحديث وأعطاه أمثلة من أحاديثه في مختلف الموضوعات، سواء كان الأمر يتعلق بالعبادات أو المعاملات، وأسوق هذه الأحاديث على سبيل المثال لا الحصر لأن الوقت لا يسمح باستيعابها كلها في عجالة كهذه، وكما ألمحت إليه في بداية العرض فما لا يدرك كله لا يترك جله أو بعضه، وعليه فالنماذج المختارة هي كالتالي:
  1. حديث عن الحسن قال: “لما جاء بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه – يعني الصلوات، خلى عنهن حتى إذا زالت الشمس عن بطن السماء نودي فيهم الصلاة جامعة، ففزعوا لذلك فاجتمعوا فصلوا “أخرجه ابن داوود في المراسيل، كتاب الصلاة عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن الحسن به.
  2. حديث الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى أحدكم بالقوم فليقدر الصلاة بأضعفهم، فإن وراءه الكبير والضعيف وذا الحاجة والمريض والبعيد” أخرجه أبو داوود في المراسيل كتاب الصلاة عن وهب بن بقية عن خالد بن عبد الله الو اسطي عن يونس عن الحسن به، كما أخرجه مسلم في صحيحه بمعناه عن أبي هريرة وعن أبي مسعود النصاري وكربى داوود وأحمد والبيهقي في كتاب الصلاة.
  3. حديث الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حصنوا أحوالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع”. أخرجه أبو داوود في المراسيل كتاب الزكاة – عن محمد بن سليمان النباري عن كثير بن هشام عن عمر بن سليم الباهلي عن الحسن به.
  4. حديث عن الحسن قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشاب لبن البيع” أخرجه أبو داوود في المراسيل في كتاب التجارة عن وهب بن بقية عن خالد بن عبد الله الواسطي عن يونس عن الحسن به. كما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه باب اللبن يغش بالماء.
  5. حديث الحسن أن رجلا قال: يا رسول الله، إن عندي يتيمة أفأتزوجها، قال: أرأيت لو كانت قبيحة لا مال لها، أكنت تتزوجها؟ قال: لا، قال: فخل لها، أخرجه أبو داوود في المراسيل في كتاب النكاح عن موسى بن إسماعيل عن حماد عن حميد الطويل عن الحسن به كما رواه البيهقي في كتاب الزكاة.
  6. حديث الحسن قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل العرب على الإسلام ولا يقبل منهم غيره وأمر أن يقاتل أهل الكتاب على الإسلام فإن أبوا فالجزية” أخرجه أبو داوود في المراسيل كتاب الجزية عن زياد بن أيوب عن هيثم عن يونس عن الحسن.
  7. حديث الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بر الوالدين يجزي من الجهاد” أخرجه أبو داوود في المراسيل كتاب بر الوالدين عن أبي بكر بن أبي شيبة، وكلاهما عن حفص بن غياث عن أشعث عن الحسن به.
  8. حديث الحسن “ورث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدة السدس” أخرجه أبو داوود في المراسيل عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن أشعث عن الحسن به، كما أخرجه الإمام أحمد في مسنده بمعناه…
  9. حديث الحسن قال: “إن شاء الرجل صلى صلاة التطوع قائما وجالسا ومضطجعا ” أخرجه الترمذي في الصلاة عن محمد بن بشار عن ابن أبي عدي عن أشعث عن عبد الملك عن الحسن.
  10. حديث الحسن:”يجلد السكران من النبيذ” أخرجه مسلم في المقدمة عن حجاج ابن الشاعر عن سليمان بن حرب عن حماد بن يزيد قال: قيل لأيوب إن عمرو بن عبيد روى عن الحسن قال: لا يجلد السكران من النبيذ” أنا سمعت الحسن يقول: “يجلد السكران من النبيذ”.
هذه ثلة وجيزة من مراسيل الحسن البصري ومن أراد الإطلاع عليها بتفصيل وتعمق فليرجع إليها في الصحيحين وكتب السنة الأخرى، ففيها ما يشفي الغليل ويروي الظمآن مما رآه الحسن البصري من مراسيل وغيرها.

مواعظ الحسن البصري وحكمه

بما أن مواعظ الحسن البصري وحكمه كثيرة وغزيرة، كان علي أن أنتقي البعض منها كنماذج للأفكار والمبادئ التي اعتمد عليها البصري في تهذيب النفوس وتقويم الأخلاق وتشذيب السلوك وبصفة عامة في تربية المجتمع الإسلامي في فترة تعتبر ذهبية، فترة الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وأرضاهم.

وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن هذه المواعظ والحكم لم تكن سوى جزء يسير من شخصية الحسن، إذ كان في سلوكه وعلمه وحديثه رضي الله عنه قدوة حسنة ومثلا صالحا متميزا. وقد علمنا من سيرته الطيبة أنه كان يؤثر التربية بالمثال على التربية بالمقال.

وعلى كل حال لا بد لنا من ذكر بعض هذه المواعظ علنا نستنير بمضامينها ونستضيء باقتباسها ونتحلى بجمالها فمن ذلك قوله: “يا ابن آدم، بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا، يا ابن آدم إذا رأيت الناس في الخير فنافسهم فيه وإذا رأيتهم في الشر فلا تغبطهم فيه الخ…
وقال: “عدل والله من جعلك حسيب نفسك – خذوا صفاء الدنيا وذروا كدرها، فليس الصفو ما عد كدرا ولا الكدر ما عد صفوا، دعوا ما يريبكم، إلى مالا يريبكم ظهر الجفاء وقلت العلماء وعفت السن وشاعت البدعة – لقد صحبت أقواما ما كانت صحبتهم إلا قرة عين وجلاء الصدور… كانوا فيما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرم الله عليكم منها…” وقال: “الناس ما داموا في عافية مستورون فإذا نزل بلاء صاروا إلى حقائقهم فصار المومن إلى إيمانه والمنافق إلى نفاقه، أي قوم، إن نعمة الله عليكم أفضل من أعمالكم، فسارعوا إلى ربكم فإنه ليس لمومن راحة دون الجنة ولا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همه”.

وقال: “من أيقن بالخلف جاد بالعطية، وما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل ومن خاف الله أخاف منه كل شيء ومن خاف الناس أخافه الله من كل شيء”.

وقال أيضا: “إنكم لا تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون ولا تدركون ما تؤملون إلا بالصبر على ما تكرهون”.

وقال: “كان من قبلكم أرق قلوبا وأصفق ثيابا وأنتم أرق منهم ثيابا وأصفق قلوبا”.

ومن حكمه قوله: “لو كان العقل يشترى لتغالى الناس في ثمنه “وقال رجل للحسن: “إن لي ابنة فمن ترى أن أزوجها له؟ قال زوجها ممن يتقي الله عز وجل فإن أحبها أكرمها وأن أبغضها لم يظلمها”.

وقال في الآخرة: “إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا وإخواننا يذكروننا بالآخرة” “وكم من أخ لك لم تلده أمك”. “وانتقوا الإخوان والأصحاب والمجالس”.

وقال في العقل: “لسان العاقل من وراء قلبه فإذا أراد أن يتكلم فكر فإن كان له قال، وإن كان عليه سكت، وقلب الجاهل من وراء لسانه”. وفي التعلم: “التعلم في الصغر كالنقش على الحجر”.

وقال في الأخلاق: “لا تستقيم أمانة رجل حتى يستقيم لسانه ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه”. وأضاف أربع من كن فيه كان كاملا ومن تعلق بواحدة منهن كان من صالح قومه: دين يرشده وعقل يسدده وحسب يصونه” وفي الأخلاق يوثر عن الحسن أيضا: “مكارم الأخلاق للمومن قوة في حسن، وحزم في دين وإيمان في يقين وحرص على العلم واقتصاد في النفقة وبذل في السعة، وقناعة في الفاقة ورحمة للمجهود وإعطاء في حق وبر في استقامة كما أثر عنه “أصول الشر ثلاثة الحرص والحسد والكبر، فالكبر منع إبليس من السجود لآدم والحرص أخرج آدم من الجنة والحسد حمل ابن آدم على قتل أخيه”.

وأختم هذه الباقة من حكم ومواعظ الحسن البصري بديباجة رسالته إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كما رواها ابن الجوزي: “أما بعد اعلم يا أمير المومنين أن الدنيا دار ظعن وليست دار إقامة وإنما أهبط إليها آدم من الجنة عقوبة، وقد يحسب من لا يدري ما ثواب الله أنها ثواب، ومن لم يدر ما عقاب الله أنها عقاب ولها في كل حين صرعة وليست صرعة كصرعة، هي تهين من أكرمها وتذل من أعزها وتصرع من آثرها ولها في كل حين قتلى كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه فالزاد فيها تركها والغنى فيها فقرها فكن يا أمير المومنين كمداوي جرحه يصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء…

وفي مطلع رسالة أخرى إلى عمر بن عبد العزيز يذكر الحسن خليفة المسلمين بأهمية العدل في بناء الملك بقوله – وأجتزئ بديباجتها أيضا” تجنبا للإطالة – يقول الحسن رضي الله عنه: اعلم يا أمير المومنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مظلوم ومفزع كل ملهوف.. إلى آخر الرسالة الطويلة التي تسير في تحليل العدل، متدرجة من صورة لأخرى ومستنتجة أن العدل بقدر ماهو ضروري للملك بقدر ما هو ضروري لبناء مجتمع سليم تسوده المساواة ويعمه الرخاء، ويشمله الأمن بقدر ما تشمله الطمأنينة.

على أصداء هذه المواعظ والحكم المحببة للنفوس، الموقظة للضمائر والمنعشة للأرواح والمعطرة للمجالس من لدن تابعي جليل، مؤسس مدرسة فقهية تفسير لكتاب الله ومحدث كبير، أجدني متحيزا إلى صياغة خاتمة لهذا العرض الوجيز في سطوره العميق في محتواه ومضمونه قائلا: ” إن شخصية الحسن البصري ذات أبعاد متعددة وقد ارتأيت الاقتصار على تحليل بعضها باقتضاب كبير، كما ألمحت إلى ذلك في بداية العرض، فتدرجت من دراسة شخصية الحسن الخلقية والخلقية إلى شخصيته كمتصوف ورائد كبير للمواعظ والحكم. وكما رأينا في هذه العجالة فشخصية الحسن البصري قد أغنت عصرها بقدر ما أثرت العصور اللاحقة لها، حيث لا يزال إشعاع معارفها وعلومها ممتدا حتى عصرنا هذا ينهل منه العلماء والباحثون فيجدون فيه ما يشفي الغليل وما يكون موضوعات غنية للدراسة والتحليل، وعسى أن أكون قد وفقت فيما أملت تبليغه إليكم عن شخصية الحسن البصري في الحدود التي رسمتها للعرض، تاركا المجال لبقية الإخوان الباحثين كي يدلوا بدلوهم في معالجة الجوانب الأخرى لهذه الشخصية الفذة. والله الموفق للصواب والهادي إلى سواء السبيل.


المراجع مصادر مختلفة
 
غدا مع الإمام

سفيان الثوري «هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه أبو عبد الله الثوري الكوفي المجتهد مصنف كتاب الجامع»،​

 
اتمنى ان تستمر مجهود رائع تستحق التقييم افضل ما شاهدته في المنتدى
والله يا اخي ما احاول تقديمه إلا لتعريف القراء عن دعاتهم وعلمائهم حتى يعلموا أن هذا الدين هو دين الحق ،بعدما طمست الحضارة الغربية عقول الشباب إرتأيت أن أقدم للجميع فسحة للقراة وفي نفس الوقت التعرف على عظماء الدعاة والعلماء والتابعين،لنا كل يوم عالم أو داعي أو إمام أو خطيب كانوا نبراس العلم والفقه والحديث.
 
والله يا اخي ما احاول تقديمه إلا لتعريف القراء عن دعاتهم وعلمائهم حتى يعلموا أن هذا الدين هو دين الحق ،بعدما طمست الحضارة الغربية عقول الشباب إرتأيت أن أقدم للجميع فسحة للقراة وفي نفس الوقت التعرف على عظماء الدعاة والعلماء والتابعين،لنا كل يوم عالم أو داعي أو إمام أو خطيب كانوا نبراس العلم والفقه والحديث.
صحيح الغرب دمر كل قسم المجتمعات العربية وجعلتهم امة متناحرة
 
جزاك الله خير على المجهود الرائع المتضمن لسيرة شيخ الشيوخ الحسن البصري
سأل رجل الحسن البصري : يا أبا سعيد، أينام إبليس؟ فقال: لو نام، لوجدنا راحة.
 
عن إبن الجوزي بإسناده عن الْمُحْتَرِقَ الْبَصْرِيَّ، يَقُولُ:

" رَأَيْتُ إِبْلِيسَ فِي النَّوْمِ، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ رَأَيْتَنَا؟ عَزَفْنَا عَنِ الدُّنْيَا، وَلَذَّاتِهَا، وَأَمْوَالِهَا، فليس لك إلينا طريق، فقال: كيف رأيت ما استملت به قلوبكم؟، باستماع السماع، ومعاشرة الأحداث ". ا
وما ورد عن الحسن البصري كما في الزهد لهناد بإسناد فيه من هو مبهم الراوي قال:
عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: " بَلَغَنَا أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: سَوَّلْتُ لأُمَّةِ مُحَمَّدٍ الْمَعَاصِيَ فَقَطَعُوا ظَهْرِي بِالاسْتِغْفَار ِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ تَمَحَّلْتُ لَهُمْ فَسَوَّلْتُ لَهُمْ ذَنُوبًا لا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ مِنْهَا، هَذِهِ الأَهْوَاءُ "
 
الحسن البصري كان فقيه زمانه وله مشهد مؤثر مع الحجاج بن يوسف الثقفي حيث كان يريد قطع رأسه لكنه بزهده حول اللقاء من حمام دم إلى حلقة ذكر
 
يحكى أن ﺍﻻﻣﺎﻡ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﺍﻟﺒﺼﺮﻱ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺭﺍﻯ ﺍﺑﻠﻴﺲ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻨﺎﻡ ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﻳﺎ ﺍﺑﻠﻴﺲ ﻛﻴﻒ ﺣﺎﻟﻚ ﻣﻊ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩ ﺍﻟﻴﻮﻡ؟ ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺍﺑﻠﻴﺲ ﻳﺎ ﺣﺴﻦ ﻛﻨﺖ ﺑﺎﻻﻣﺲ ﺃﻋﻠﻢ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻃﺮﻕ ﺍﻟﻈﻼﻝ ﻓﺄﺻﺒﺤﺖ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺃﺗﻌﻠﻢ ﻣﻨﻬﻢ ﻃﺮﻕ ﺍﻟﻈﻼﻝ.
 

سفيان_الثوري.png

الإمام سفيان الثوري


الإمام سفيان الثوري

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

ما أحوجنا وأحوج أمتنا الإسلامية اليوم إلى أن تراجع تاريخ علمائها، وآثار سلفها، وتتعرف على منهج حياتهم، وطريقة مسلكهم، ومعرفة شدة نهمهم للعلم والاشتغال به، فبسيرهم تلهج النفوس إلى الترقي والصعود، وترك الفتور والقعود، فتسير على منوال ما ساروا، وتخطوا خطوات جادة نحو الطريق الصحيح بالتزام ما قالوا، وهذا هو نهج العلماء الربانيين، والأئمة السالفين.

إن سِيَرَ أولئك الرجال لتبعث في النفس الشجاعة في الحق، والحماسة في طلب العلم، والسعي لتغيير المنكر، والقيام لله بالعبادة، وسائر الفوائد التي تنبع من دراسة سير أولئكم الأفذاذ، ونحن مع سيرة رجل من الرجال الذين أنجبتهم هذه الأمة، إنه عَلَمٌ بحق، رأس في العلم، ورأس في الزهد والورع، وإنكار المنكر والجهر بالحق، والعبادة والحفظ – رحمه الله تعالى، ورضي عنه وأرضاه -، وقلَّ من الناس من يعرفه، فلا تكاد ترى له عند العامة ذكراً، أو تسمع له عندهم حساً وخبراً، هو من أولئك الرجال الذين سطر لهم التاريخ تاريخاً مشرقاً بكل ما تعنيه الكلمة، العالم الفذ، والإمام الرباني سفيان بن سعيد الثوري فإلى شيء من سيرته – رحمه الله -:

اسمه ونسبه:

هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، أحد الأئمة الخمسة المجتهدين، ونسبه كما ذكره ابن سعد في الطبقات ،وابن حزم في جمهرة النسب، والقلقشندى في نهاية الأرب ،
قال الإمام الذهبي – رحمه الله -: "هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه أبو عبد الله الثوري، الكوفي، المجتهد، مصنف كتاب (الجامع)، "سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبة بن أبي بن عبد الله بن منقذ بن نصر بن الحارث بن ثعلبة بن عامر بن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار" وهو الصحيح الذي أجمع عليه أكثر المؤرخين.

مولده ونبذة عن والده سعيد بن مسروق:

ولد الإمام سفيان الثوري – رحمه الله – سنة سبع وتسعين اتفاقاً، وطلب العلم وهو حدث باعتناء والده المحدث الصادق سعيد بن مسروق الثوري، وكان والده من أصحاب الشعبي، وخيثمة بن عبد الرحمن، ومن ثقات الكوفيين، وعداده في صغار التابعين.

كان والده سعيد بن مسروق أبو سفيان من محدثي الكوفة الثقات، وثقه ابن معين، وأبو حاتم، والعجلي، والنسائي، وابن المديني، وذكره ابن حبان في الثقات، روي هو عن أبي وائل، وإبراهيم التيمي، وخيثمة بن عبد الرحمن، وسلمة بن كهيل، والشعبي، وعكرمة، وعون بن أبي جحيفة، وروي عنه الأعمش، وشعبة بن الحجاج، وأبو عوانة، وابناه سفيان، ومبارك، وخلق كثير".

وقد كان لأم سفيان الثوري أثر كبير في تنشئته نشأة صالحة، وتربيته على حب طلب العلم، والاشتغال به، فعن وكيع قال: قالت أم سفيان لسفيان: "اذهب فاطلب العلم، حتى أعولك بمغزلي، فإذا كتبت عدة عشرة أحاديث فانظر هل تجد في نفسك زيادة، فاتبعه وإلا فلا تتعن".

طلبه للعلم ورحلته في تحصيله:

طلب سفيان العلم وهو مراهق، وكان يتوقد ذكاء، صار إماماً أثيراً منظوراً إليه وهو شاب، سمع من عمرو بن مرة، وسلمه بن كهيل، وحبيب بن أبي ثابت، وعمر بن دينار، وابن إسحق، ومنصور، وحصين، وأبيه سعيد بن مسروق، والأسود بن قيس، وجبلة بن سحيم، وزبيد بن الحارث، وزياد بن علاقة، وسعد بن إبراهيم، وأيوب، وصالح مولى التوأمة، وخلق لا يحصون، يقال: "إنه أخذ عن ستمائة شيخ، وعرض القرآن أربع مرات على حمزة بن الزيات".
وروى عنه: ابن عجلان، وأبو حنيفة، وابن جريج، وابن إسحاق، ومسعر وهم من شيوخه، وشعبة، والحمادان، ومالك، وابن المبارك، ويحيى، وعبد الرحمن، وابن وهب، وأمم لا يحصون، وبالغ ابن الجوزي وقال: "أخذ عنه أكثر من عشرين ألفاً"، قال الشيخ شمس الدين: "وهذا مدفوع بل روى عنه نحو من ألف نفس"، وقال ابن عيينة: "كان العلم ممثلاً بين يدي سفيان"، وقال شعبة وابن معين وجماعة: "سفيان أمير المؤمنين في الحديث"، وقال ابن المبارك: "لا أعلم على وجه الأرض أعلم منه".

رحل إلى مكة و المدينة، وحج ولم يخط وجهه بعد، وزار بيت المقدس، ورحل إلى اليمن للقاء معمر، وكانت أسفاره ما بين طلب علم وتجارة ، وهرب، وكان نابغة بحق؛ قال الذهبي – رحمه الله -: "كان ينوه بذكره في صغره من أجل فرط ذكائه، وحفظه، وحدث وهو شاب، وقال عبد الرزاق وغيره عن سفيان قال: ما استودعت قلبي شيئاً قط فخانني".

أفنى عمره في طلب العلم والحديث، وقال – رحمه الله -: "لما أردت أن أطلب العلم قلت: يا رب لا بد لي من معيشة، ورأيت العلم يُدرس أي (يذهب ويندثر)، فقلت: أفرغ نفسي في طلبه، قال: وسألت الله الكفاية، وقال: "أنا في هذا الحديث منذ ستين سنة"، وقال: "ينبغي للرجل أن يكره ولده على طلب الحديث، فإنه مسئول عنه".

شهرته وأقوال العلماء فيه:

عن الوليد بن مسلم قال: "رأيت سفيان الثوري بمكة يستفتى؛ ولم يخط وجهه بعد"، وعن أبي المثنى قال: "سمعت الناس بمرو يقولون: قد جاء الثوري قد جاء الثوري، فخرجت أنظر إليه فإذا هو غلام قد بقل وجهه"، وقال محمد بن عبيد الطنافسي: "لا أذكر سفيان الثوري إلا وهو يفتي، أذكره منذ سبعين سنة، ونحن في الكتَّاب، تمر بنا المرأة والرجل فيسترشدوننا إلى سفيان يستفتونه ويفتيهم".

ولما رآه أبو إسحاق السبيعي مقبلاً في صغره تمثل بقول الله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} ، وقال عبد الله بن المبارك:"كتبت عن ألف ومائة شيخ، ما كتبت عن أفضل من سفيان"، وقال عبد الله بن شوذب: "سمعت صهراً لأيوب يقول: قال أيوب: "ما لقيت كوفياً أفضله على سفيان"، وقال البراء بن رستم البصري سمعت يونس بن عبيد يقول: "ما رأيت أفضل من سفيان، فقال له رجل يا أبا عبد الله: رأيت سعيد بن جبير، وإبراهيم، وعطاء، ومجاهداً، تقول هذا؟ فقال: هو، ما رأيت أفضل من سفيان"، وقال عبد الرزاق: سمعت سفيان يقول: "ما استودعت قلبي شيئاً قط فخانني"، وقال عبد الرحمن بن مهدي: "ما رأت عيناي مثل أربعة: ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري، ولا أشد تقشفاً من شعبة، ولا أعقل من مالك بن أنس، ولا أنصح للأمة من ابن المبارك"، وقال وكيع عن شعبة: "سفيان أحفظ مني"، وقال محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة عن أبيه قال رجل لشعبة: "خالفك سفيان، قال: دمغتني"، وقال عبد الرحمن بن مهدي: "كان وهيب يقدم سفيان في الحفظ على مالك"، وقال يحيى بن سعيد القطان: "ليس أحد أحب إلي من شعبة، ولا يعدله أحد عندي، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان"، وقال أبو حاتم الرازي: "سفيان فقيه، حافظ، زاهد، إمام، هو أحفظ من شعبة ".

عمله بالعلم الذي يعمله:

من دأب العلماء العارفين، والأئمة الربانيين؛ أن يكونوا عاملين بما يعلمون، ولا تخالف أقوالهم أفعالهم، وأكثر الناس حرصاً على مطابقة القول العمل، ومن ذلك ما روي عن هذا الإمام العالم الزاهد سفيان الثوري – رحمه الله – يقول عبد الرحمن بن مهدي: "سمعت سفيان يقول: ما بلغني عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حديث قط إلا عملت به ولو مرة واحدة".

ورعه في الفتوى:

مع غزارة علم هذا الإمام، وفضله؛ إلا أنه كان حريصاً أن لا يفتي إلا بما يعلمه، وحين يكون قلبه يملأه سكينة ووقار للفتوى، ولا تختلج بصدره أمور الدنيا، قال أبو قطن: قال لي شعبة "إن سفيان ساد الناس بالورع والعلم"، وقال مروان بن معاوية: "شهدت سفيان الثوري وسألوه عن مسألة في الطلاق، فسكت وقال: إنما هي الفروج أي: أخاف أن أفتي بالحل وهي محرمة عليه، فأتسبب في الوقيعة والوقوع في فرج لا تحل له".

وقال ابن أسباط: سئل الثوري وهو يشتري عن مسألة، فقال للسائل: دعني فإن قلبي عند درهمي فلست متفرغاً لأفتيك، وقد أخطئ وأنا منشغل بالبيع والشراء.

عبادته وخشيته، وشدة خوفه من الله – عز وجل -:

وكان عجيباً في قيامه لليل، كان يقوم الليل حتى الصبح في أيام كثيرة، وكان يرفع رجليه على الجدار بعد قيام الليل حتى يعود الدم إلى رأسه، وقال ابن وهب: "رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نودي للعشاء، ومرة قدم على عبد الرزاق فقال عبد الرزاق: "طبخت له قدر سكباج – لحم مع خل – فأكل، ثم أتيته بزبيب الطائف فأكل، ثم قال: يا عبد الرزاق، اعلف الحمار ثم كده، وقام يصلي حتى الصباح".

وعن مؤمل بن إسماعيل قال: "أقام سفيان بمكة سنة، فما فتر من العبادة سوى من بعد العصر إلى المغرب، كان يجلس مع أصحاب الحديث، وذلك عبادة"، وقال ابن مهدي: "كنت أرمق سفيان في الليلة بعد الليلة ينهض مرعوباً ينادي: النار النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات"، وقال يوسف بن أسباط: "كان سفيان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم من طول حزنه وفكرته"، وكان سفيان – رحمه الله – يقول: "البكاء عشرة أجزاء: جزء لله، وتسعة لغير الله، فإذا جاء الذي لله في العام مرة فهو كثير"، وعن ابن مهدي قال: "كنت لا أستطيع سماع قراءة سفيان من كثرة بكائه" ، وقال قبيصة بن عقبة: "ما جلست مع سفيان مجلساً إلا ذكرت الموت، وما رأيت أحداً كان أكثر ذكراً للموت منه"، وقال عبد الله بن خبيق عن يوسف بن أسباط: "قال سفيان الثوري وقد صلينا العشاء الآخرة: ناولني المطهرة، فناولته فأخذها بيمينه، ووضع يساره على نحره ونمت، فاستيقظت وقد طلع الفجر فنظرت فإذا المطهرة بيمينه كما هي، قلت هذا الفجر قد طلع، فقال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة، وقال أبو أسامة: "مرض سفيان، فذهبت بمائه إلى الطبيب، فقال: هذا بول راهب، هذا رجل قد فتت الحزن كبده، ما له دواء" .

زهده وورعه وتواضعه – رحمه الله -:

كان سفيان – رحمه الله – إماماً في الزهد والتأله والخوف، غير أن له مذهباً متميزاً في ذلك، فقد كان كثير من أهل الزهد انتهوا في زهدهم إلى الجوع والتقشف الشديد، وترك التكسب، فأورث بعضهم أمراضاً وأوجاعاً، وحاجة إلى الناس، أما سفيان فقد كان متيقظاً لعاقبة ذلك، خاصة: وقد فسد الزمان، واشتد الأمر، فكان يقول: "كان المال فيما مضى يكره، أما اليوم فهو ترس المؤمن"، ونظر إليه رجل وفي يده دنانير فقال: "يا أبا عبد الله تمسك هذه الدنانير، قال: اسكت: فلولاها لتمندل بنا الملوك"، وكان سفيان رأساً في الزهد، والتأله، والخوف، رأساً في الحفظ، رأساً في معرفة الآثار، رأساً في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم من أئمة الدين، فعن سفيان قال: "الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس، وأول ذلك زهدك في نفسك".

وكان زاهداً، أقبلت عليه الدنيا فتركها وأخذ كفايته حتى لا يحتاج إلى الناس، وربما اشتغل ببيع وشراء لأجل ألا يحتاج إلى الناس، ولا يمد يده، وكان له وصايا في الزهد فكان يقول: "ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكن قصر الأمل، وارتقاب الموت"، وكان – رحمه الله – يقول: "لا تصحب من يكرم عليك، فإن ساويته في النفقة أضر بك، وإن تفضل عليك استذلك".

عقيدته – رحمه الله -:

كان – رحمه الله – على عقيدة أهل الحديث، وعلى طريقة ومنهج الصحابة والتابعين – رضوان الله عليهم أجمعين – وأهل السنة والجماعة، وكانت له اجتهادات إذ كان يثلث بعلي، وكان على مذهب قومه في النبيذ، وقال – رحمه الله -: "إن قوماً يقولون: لا نقول لأبي بكر وعمر إلا خيراً، ولكن علي أولى بالخلافة منهما، فمن قال ذلك فقد خطأ أبا بكر، وعمر، وعلياً، والمهاجرين، والأنصار، ولا أدري ترتفع مع هذا أعمالهم إلى السماء".

قال عبد الرزاق: سمعت مالكاً، والأوزاعي، وابن جريج، والثوري، ومعمراً يقولون: "الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص"، وقال معدان: سألت الثوري عن قوله – تعالى -: {وهو معكم أين ما كنتم}؟ قال: علمه"، وسئل – رحمه الله – عن أحاديث الصفات فقال: "أمروها كما جاءت"، وقال – رحمه الله -: "من زعم أن {قل هو الله أحد} مخلوق فقد كفر بالله – عز وجل -"، وعن عثام بن علي قال: "سمعت الثوري يقول: لا يجتمع حب علي وعثمان إلا في قلوب نبلاء الرجال"، وقال أبو سعيد الأشج: "سمعت ابن إدريس يقول: ما رأيت بالكوفة رجلاً أتبع للسنة، ولا أود أني في مسلاخه؛ من سفيان الثوري".

من مواعظ الإمام سفيان الثوري – رحمه الله -:

– "أصلح سريرتك يصلح الله علانيتك، وأصلح فيما بينك وبين الله يصلح الله فيما بينك وبين الناس، واعمل لآخرتك يكفك الله أمر دنياك، وبع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً".

– "احذر سخط الله في ثلاث: احذر أن تقصر فيما أمرك، احذر أن يراك وأنت لا ترضى بما قسم لك، وأن تطلب شيئاً من الدنيا فلا تجده أن تسخط على ربك".

– "لو أن اليقين استقر في القلب كما ينبغي لطار فرحاً، وحزناً، وشوقاً إلى الجنة، أو خوفاً من النار".

– "لا تبغض أحداً ممن يطيع الله، وكن رحيماً للعامة والخاصة، ولا تقطع رحمك وإن قطعك، وتجاوز عمن ظلمك تكن رفيق الأنبياء والشهداء".

– "عليك بقلة الأكل تملك سهر الليل، وعليك بالصوم فإنه يسد عليك باب الفجور، ويفتح عليك باب العبادة، وعليك بقلة الكلام يلين قلبك، وعليك بالصمت تملك الورع".

– "إذا زارك أخوك فلا تقل له: أتأكل أو أقدم إليك؟ ولكن قدم، فإن أكل وإلا فارفع".

وفاته – رحمه الله -:

قال عبد الرحمن بن مهدي – رحمه الله -: "مرض سفيان بالبطن، فتوضأ تلك الليلة ستين مرة، حتى إذا عاين الأمر نزل عن فراشه فوضع خده بالأرض، وقال: يا عبد الرحمن ما أشد الموت، ولما مات غمضه، وجاء الناس في جوف الليل، وعلموا"، وقال عبد الرحمن: "كان سفيان يتمنى الموت ليسلم من هؤلاء يعني – الأمراء – فلما مرض كرهه"، وقال لي: اقرأ علي (يس) فإنه يقال: يخفف عن المريض، فقرأت فما فرغت حتى طفئ".

قيل: أخرج بجنازته على أهل البصرة بغتة فشهده الخلق، وصلى عليه عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر الكوفي بوصية من سفيان لصلاحه، قال ابن المديني: أقام سفيان في اختفائه نحو سنة، وكان موته – رحمه الله – في شعبان سنة (161هـ)، وقال أحمد بن يونس قال: "سمعت الثوري ما لا أحصيه، يقول: اللهم سلم سلم، اللهم سلمنا، وارزقنا العافية في الدنيا والآخرة"، وقال يزيد بن إبراهيم : "رأيت ليلة مات سفيان قيل لي في المنام: مات أمير المؤمنين أي: في الحديث".

ولم يتمكن إخوانه وأصحابه من الاجتماع للصلاة عليه، فجعلوا يفدون إلى قبره يوم وفاته، ودفن وقت العشاء، وعن بعض أصحاب سفيان قال: "مات سفيان بالبصرة ودفن ليلاً، ولم نشهد الصلاة عليه، وغدونا على قبره ومعنا جرير بن حازم، وسلام بن مسكين من أئمة العلم، فتقدم جرير وصلى على قبره ثم بكى وقال:
إذا بكيت على ميت لمكرمة فابك غداة على الثوري سفيان
وسكت، فقال عبد الله بن الصرباح:
أبكي عليه وقد ولى وسؤدده وفضله ناظر كالغســل ريان

وقال سعيد: "رأيت سفيان في المنام يطير من نخلة إلى نخلة وهو يقول: الحمد لله الذي صدقنا وعده"، وهذا مما روي له من المنامات الصالحة بعد وفاته، وقال إبراهيم بن أعين: "رأيت سفيان بن سعيد بعد موته في المنام، فقلت: ما صنعت؟ فقال: أنا مع السفرة الكرام البررة"، وقال أحمد بن حنبل – رحمه الله -: "قال لي ابن عيينة: لن ترى بعينك مثل سفيان الثوري حتى تموت"، وقال الأوزاعي: "لو قيل لي اختر لهذه الأمة رجلاً يقوم فيها بكتاب الله وسنة نبيه لاخترت لهم سفيان الثوري"، وقال ابن المبارك: "ما نُعت إلي أحد فرأيته إلا كان دون نعته – دون الوصف – إلا سفيان الثوري – رحمه الله رحمة واسعة -".

اللهم ارزقنا حياة الصالحين، واحشرنا معهم بفضلك ومنِّك يا أكرم الأكرمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
 
التعديل الأخير:
سعيد_بن_المسيب.png



سعيد بن المسيِّب​

هو أبو محمَّد سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي القرشي، عالم المدينة وسيد التابعين، رأى عمر وسمع عثمان وعليًّا وجمعًا من الصحابة، وروى عنه خلق كثير، واتفقوا على أنَّ مرسلاته أصحُّ المراسيل، جمع الفقه والحديث والتفسير والورع والأدب والعبادة والزهد، توفي سنة (٩٤ﻫ) ، أما أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي؛ كان من الممتحنين، امتحن فلم تأخذه في الله لومة لائم، صاحب عبادة وجماعة وعفة وقناعة، وكان كاسمه بالطاعات سعيداً، ومن المعاصي والجهالات بعيداً.

مفهومه للعبادة :-

عن بكر بن خنيس، قال: قلت لسعيد بن المسيب وقد رأيت أقواماً يصلون ويتعبدون: يا أبا محمد ألا تتعبد مع هؤلاء القوم? فقال لي: يا ابن أخي إنها ليست بعبادة، قلت له: فما التعبد يا أبا محمد? قال: التفكر في أمر الله والورع عن محارم الله وأداء فرائض الله تعالى.

عن صالح بن محمد بن زائدة: أن فتية من بني ليث كانوا عباداً وكانوا يروحون بالهاجرة إلى المسجد ولا يزالون يصلون حتى يصلي العصر، فقال صالح لسعيد: هذه هي العبادة لو نقوى على ما يقوى عليه هؤلاء الفتيان، فقال سعيد: ما هذه العبادة ولكن العبادة التفقه بالدين والتفكر في أمر الله تعالى

حرصه على الصلاة في جماعة :-.

عن سعيد بن المسيب، قال: من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة.

عن سعيد بن المسيب: أنه اشتكى عينيه فقيل له: يا أبا محمد، لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة فوجدت ريح البرية لنفع ذلك بصرك، فقال سعيد: فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح?.

عن سعيد بن المسيب أنه قال: ما فاتتني الصلاة في الجماعة منذ أربعين سنة.
حدثنا سفيان بن أبي سهل وهو عثمان بن أبي حكيم قال: سمعت سعيد بن المسيب، يقول: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد.

عن ميمون بن مهران: أن سعيد بن المسيب مكث أربعين سنة لم يلق القوم قد خرجوا من المسجد وفرغوا من الصلاة.

عن برد مولى بن المسيب، قال: ما نودي للصلاة منذ أربعين سنة إلا وسعيد في المسجد.

عن إسماعيل بن أمية، عن سعيد بن المسيب، قال: ما دخل على وقت صلاة إلا وقد أخذت أهبتها، ولا دخل على قضاء فرض إلا وأنا إليه مشتاق.

عن قتادة، قال: قال سعيد بن المسيب ذات يوم: ما نظرت في أقفاء قوم سبقوني بالصلاة منذ عشرين سنة.

عن الأوزاعي، قال: كانت لسعيد بن المسيب فضيلة لا نعلمها كان لأحد من التابعين، لم تفته الصلاة في جماعة أربعين سنة عشرين منها لم ينظر في أقفية الناس.

حدثنا عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه، قال: صلى سعيد بن المسيب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة. وقال سعيد بن المسيب: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة.

حدثنا خالد بن داود يعني بن أبي هند عن سعيد بن المسيب، قال: وسألته ما يقطع الصلاة? قال: الفجور ويسترها التقوى

حرصه على الصوم :-.

حدثنا يزيد بن أبي حازم: أن سعيد بن المسيب كان يسرد الصوم.

حرصه على الحج :-

عن ابن حرملة، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: لقد حججن أربعين حجة

نظرته إلى النفس :-.

حدثنا عمران بن عبد الله بن طلحة الخزاعي، قال: أن نفس سعيد بن المسيب كانت أهون عليه في ذات الله من نفس ذباب. أعطاهم حدثنا الحسن بن عبد الله بن سعيد، قال:

حدثنا محمد بن عمرو بن سعيد البصري، قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا عبد الله بن محمد،، قال: حدثنا سعيد بن المسيب، قال: ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله عز وجل، ولا أهانت أنفسها بمثل معصية الله، وكفى بالمؤمن نصرة من الله أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله.

حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن جريج أن عبيد الله بن عبد الرحمن أخبره، أنه سمع سعيد بن المسيب، يقول: يد الله فوق عباده فمن رفع نفسه وضعه الله، ومن وضعها رفعه الله. الناس تحت كنفه يعملون أعمالهم فإذا أراد الله فضيحة عبد أخرجه من تحت كنفه فبدت للناس عورته

خشيته من الله :-.

عن يحيى بن سعيد: أن سعيد بن المسيب كان يكثر أن يقول في مجلسه اللهم سلم سلم.

حرصه على قراءة القرآن :-
عن ابن حرملة، قال: حفظت صلاة ابن المسيب وعمله بالنهار، فسألت مولاه عن عمله بالليل، فأخبرني فقال: وكان لا يدع أن يقرأ بصاد والقرآن كل ليلة، فسألته عن ذلك فأخبرني فقال: أن رجلاً من الأنصار صلى إلى شجرة فقرأ بصاد فلما مر بالسجدة سجد وسجدت الشجرة معه فسمعها تقول: اللهم أعطني بهذه السجدة أجراً، وضع عني بها وزراً، وارزقني بها شكراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود.

حرصه على الدعوة إلى الله :-.

أخبرنا علي بن زيد بن جدعان، قال: قيل لسعيد بن المسيب: ما شأن الحجاج لا يبعث إليك ولا يهيجك ولا يؤذيك، قال: والله لا أدري غير أنه صلى ذات يوم مع أبيه صلاة فجعل لا يتم ركوعها ولا سجودها فأخذت كفاً من حصباء فصحبته بها. قال الحجاج: فما زلت أحسن الصلاة

تفسيره للقرآن الكريم :-.

عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه كان للأوابين غفوراً، قال: الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب ولا يعود في شيء قصداً. .

خوفه من فتنة النساء :-.

عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: قد بلغت ثمانين سنة وما شيء أخوف عندي من النساء.

عن ابن زيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: قد بلغت ثمانين سنة ولا شيء أخوف عندي من النساء وكان بصره قد ذهب.

عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: ما أيس من الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء، وقال: أخبرنا سعيد وهو ابن أربع وثمانين وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى: ما شيء أخوف عندي من النساء.
.
نظرته للزواج والمهر :-.

عن إبراهيم ابن عبد الله الكتاني، أن سعيد بن المسيب زوج ابنته بدرهمين.

عن ابن أبي وداعة، قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً فلما جئته قال: أين كنت? قال: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها، قال: ثم أردت أن أقوم فقال: هل استحدثت امرأة، فقلت: يرحمك الله ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة، فقال: أنا، فقلت: أو تفعل، قال: نعم، ثم حمد الله تعالى وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وزوجني على درهمين أو قال: ثلاثة قال: فقمت ولا أدري ما أصنع من الفرح فصرت إلى منزلي وجعلت أتفكر ممن آخذ وممن أستدين فصليت المغرب وانصرفت إلى منزلي واسترحت وكنت وحدي صائماً فقدمت عشائي أفطر كان خبزاً وزيتاً، فإذا بآت يقرع، فقلت: من هذا? قال: سعيد، قال: فتفكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد فقمت فخرجت فإذا سعيد بن المسيب فظننت أنه بدا له، فقلت: يا أبا محمد إلا أرسلت إلي فآتيك، قال: لأنت أحق أن يؤتى، قال: قلت: فما تأمر، قال: إنك كنت رجلاً عزباً فتزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذا امرأتك فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذها بيدها فدفعها بالباب ورد بالباب فسقطت المرأة من الحياء فاستوثقت من الباب ثم قدمتها إلى القصة التي فيها الزيت والخبز فوضعتها في ظل السراج لكي لا تراه ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران، فجاءوني فقالوا: ما شأنك? قلت: ويحكم زوجني سعيد بن المسيب ابنته اليوم وقد جاء بها على غفلة، فقالوا: سعيد بن المسيب زوجك? قلت: نعم، وهاهي في الدار، قال: فنزلوا هم إليها وبلغ أمي فجاءت، وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام، قال: فأقمت ثلاثة أيام ثم دخلت بها فإذا هي من أجمل الناس، وإذا هي من أحفظ الناس لكتاب الله وأعلمهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق الزوج، قال: فمكثت شهراً لا يأتيني سعيد ولا آتيه، فلما كان قرب الشهر أتيت سعيداً وهو في حلقته فسلمت عليه فرد علي السلام ولم يكلمني حتى تقوض أهل المجلس فلما لم يبق غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان، قلت: خيراً يا أبا محمد على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا فانصرفت إلى منزلي فوجه إلي بعشرين ألف درهم، قال عبد الله بن سليمان: وكانت بنت سعيد بن المسيب خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد بن عبد الملك حين ولاه العهد فأبى سعيد أن يزوجه فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف. قال عبد الله: وابن أبي وداعة هذا هو كثير بن عبد المطلب بن أبي وداعة

هو والدعاء :-.

حدثنا الهيثم بن علي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد بن المسيب، قال سعيد: دخلت المسجد ليلة أضحيان، قال: وأظن أن قد أصبحت فإذا الليل على حاله فقمت أصلي فجلست أدعو فإذا هاتف يهتف من خلفي يا عبد الله قل، ما أقول? قال: قل: اللهم إني أسألك بأنك مالك الملك وأنك على كل شيء قدير وما تشأ من أمر يكن . قال سعيد: فما دعوت بها قط بشيء إلا رأيت نجحه

أدبه مع رسول الله :-.

حدثنا يعقوب بن المسيب، قال: دخل المطلب بن حنظب على سعيد بن المسيب في مرضه وهو مضطجع فسأله عن حديث، فقال: أقعدوني فأقعدوه، قال: إني أكره أن أحدث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع

هو والحاكم في عصره :-

عن ميمون بن مهران: أن عبد الملك بن مروان قدم المدينة فاستيقظ من قائلته فقال لحاجبه: انظر هل ترى في المسجد أحداً من حداثي فلم يرى فيه إلا سعيد بن المسيب، فأشار إليه بإصبعه فلم يتحرك سعيد، ثم أتاه الحاجب فقال: ألم ترى أني أشير إليك? قال: وما حاجتك? فقال: استيقظ أمير المؤمنين، فقال: انظر هل ترى في المسجد أحداً من حداثي، فقال إليه سعيد، لست من حداثه، فخرج الحاجب فقال: ما وجدت في المسجد إلا شيخاً أشرت إليه فلم يقم، قلت له: إن أمير المؤمنين استيقظ وقال لي انظر هل ترى أحداً من حداثي، قال: إني لست من حداث أمير المؤمنين. قال عبد الملك بن مروان: ذلك سعيد بن المسيب دعه

حدثنا عمران بن عبد الله، قال: دعي سعيد بن المسيب للبيعة للوليد وسليمان بعد عبد الملك بن مروان، قال: فقال: لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار، قال: فقيل: أدخل من الباب وأخرج من الباب الآخر، قال: والله لا يقتدي بي أحد من الناس، قال: فجلده مائة وألبسه المسوح

عن أبي عيسى الخراساتي، عن سعيد بن المسيب، قال: لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لكي لا تحبط أعمالكم الصالحة.

حدثنا رجاء بن جميل الأيلي، قال: قال عبد الرحمن بن عبد القارئ لسعيد بن المسيب حين قدمت البيعة للوليد وسليمان بالمدينة بعد موت أبيهما: إني مشير عليك بخصال ثلاث، قال: وما هي? قال: تغير مقامك فإنك هو وحيث يراك هشام بن إسماعيل، قال: ما كنت لأغير مقاماً قمته منذ أربعين سنة، قال: تخرج معتمراً، قال: ما كنت لأنفق مالي وأجهد بدني في شيء ليس له فيه نية، قال: فما الثالثة? قال: تبايع، قال: أرأيت إن كان الله أعمى قلبك كما أعمى بصرك فما علي? قال وكان أعمى، قال رجاء: فدعاه هشام إلى البيعة فأبى فكتب فيه إلى عبد الملك فكتب إليه عبد الملك: مالك ولسعيد ما كان علينا منه شيء نكرهه فأما إذ فعلت فاضربه ثلاثين سوطاً وألبسه تبان شعر وأوقفه للناس لئلا يقتدي به الناس. فدعاه هشام فأبى وقال: لا أبايع لاثنين، قال: فضربه ثلاثين سوطاً وألبسه تبان شعر وأوقفه للناس، قال رجاء: حدثني الأيليون الذين كانوا في الشرط بالمدينة، قالوا: علمنا أنه لا يلبس التبان طائعاً، قلنا: يا أبا محمد إنه القتل فاستر عورتك، قال: فلبسه، فلما ضرب قلنا له: إنا خدعناك، قال: يا معجلة أهل أيلة لولا أني ظننت أنه القتل ما لبسته. لفظ الحسن بن عبد العزيز.

عن هشام بن زيد، قال: رأيت سعيد بن المسيب حين ضرب في تبان من شعر.
عن قتادة، قال: أتيت سعيد بن المسيب وقد ألبس تبان شعر وأقيم في الشمس، فقلت لقائدي: أدنني منه فأدناني منه فجعلت أسأله خوفاً من أن يفوتني وهو يحييني حسبة والناس يتعجبون.

عن يحيى بن سعيد، قال: كتب والي المدينة إلى عبد الملك بن مروان أن أهل المدينة قد أطبقوا على البيعة للوليد وسليمان إلا سعيد بن المسيب، فكتب أن أعرضه عن السيف فإن مضى وإلا فاجلده خمسين جلدة وطف به أسواق المدينة فلما قدم الكتاب على الوالي دخل سليمان بن يسار وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله على سعيد بن المسيب، فقالوا: إنا قد جئناك في أمر قد قدم فيك كتاب من عبد الملك بن مروان إن لم تبايع ضربت عنقك، ونحن نعرض عليك خصالاً ثلاثاً فأعطنا إحداهن فإن الوالي قد قبل منك أن يقرأ عليك الكتاب فلا تقل لا ولا نعم، قال: فيقول الناس بايع سعيد بن المسيب. ما أنا بفاعل، قال: وكان إذا قال لا لم يطيقوا عليه أن يقول نعم، قال: مضت واحدة وبقيت اثنتان قالوا: فتجلس في بيتك فلا تخرج إلى الصلاة أياماً فإنه يقبل منك إذا طلبت في مجلسك فلم يجدك، قال: وأنا أسمع الأذان فوق أذني حي على الصلاة حي على الفلاح ما أنا بفاعل، قالوا مضت اثنتان وبقيت واحدة قالوا: فانتقل من مجلسك إلى غيره فإنه يرسل إلى مجلسك فإن لم يجدك أمسك عنك، قال: فرقا لمخلوق ما أنا بمتقدم لذلك شبراً، ولا متأخر شبراً، فخرجوا وخرج إلى الصلاة صلاة الظهر فجلس في مجلسه الذي كان يجلس فيه فلما صلى الوالي بعث إليه فأتى به فقال: إن أمير المؤمنين كتب يأمرنا إن لم تبايع ضربنا عنقك، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين. فلما رآه لا يجيب أخرج إلى السدة فمدت عنقه وسلت عليه السيوف فلما رآه قد مضى أمر به فجرد فإذا عليه تبان شعر، فقال: لو علمت أني لا أقتل ما اشتهرت بهذا التبان فضربه به خمسين سوطاً ثم طاف به أسواق المدينة فلما رده والناس منصرفون من صلاة العصر، قال: إن هذه لوجوه ما نظرت إليها منذ أربعين سنة قال محمد بن القاسم: وسمعت شيخنا يزيد في حديث سعيد بإسناد لا أحفظه أن سعيداً لما جرد ليضرب، قالت له امرأة: لما جرد ليضرب إن هذا لمقام الخزي، فقال لها سعيد: من مقام الخزي فررنا.

عن عبد الله بن القاسم، قال: جلست إلى سعيد بن المسيب فقال إنه قد نهي عن مجالستي، قال: قلت: إني رجل غريب، قال: إنما أحببت أن أعلمك

عن عبد الرحمن بن حرملة، قال: ما كان إنسان يجترئ على سعيد بن المسيب يسأله عن شيء حتى يستأذنه كما يستأذن الأمير.

نظرته إلى الدنيا والمال :-.

حدثنا سفيان بن عيينة، قال: قال سعيد بن المسيب: أن الدنيا نذلة، وهي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها من أخذها بغير حقها، وطلبها بغير وجهها، ووضعها في غير سبيلها.

حدثني يحيى بن سعيد، قال: سمعت سعيد بن المسيب، يقول: لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله يعطي منه حقه ويكف به وجه عن الناس.

عن يحيى ابن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: لا خير فيمن لا يحب هذا المال يصل به رحمه ويؤدي به أمانته ويستغني به عن خلق ربه.

عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: أنه مات وترك ألفين أو ثلاثة آلاف دينار وقال: ما تركتها إلا لأصون بها ديني وحسبي.

رواه الثوري عن يحيى بن سعيد، عن سعيد، وقال: ترك مائة دينار، وقال: أصون بها ديني وحسبي.

عن محمد بن عبد الله بن أخي الزهري، عن عمه، عن سعيد المسيب، قال: من استغنى بالله افتقر الناس إليه.

حدثنا علي بن زيد، قال: رآني سعيد بن المسيب وعلي جبة خز، فقال: إنك لجيد الجبة، قلت: وما تغني عني وقد أفسدها علي سالم، فقال سعيد: أصلح قلبك والبس ما شئت.

ومن مسانيد حديثه:

عن سعيد بن المسيب، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على هذا المنبر يعني منبر المدينة إني أعلم أقواماً سيكذبون بالرجم، ويقولون: ليس في القرآن ولو لا أني أكره أن أزيد في القرآن لكتبت في آخر ورقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجم أبو بكر وأنا رجمت، رواه يحيى بن
سعيد، عن سعيد مثله.

أخبرنا يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يذكر أن عمر، قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم فذكر نحوه.

عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول ما يرفع من الأمة الأمانة وآخر ما يبقى الصلاة ورب مصل لا خير فيه .

حدثنا عبد الله بن عبد الله الأموي، قال: حدثنا الحسن بن الحر، قال: سمعت يعقوب بن عتبة بن الأخنس، يقول: سمعت سعيد بن المسيب، يقول: سمعت عمر بن الخطاب، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: من اعتز بالعبيد أزله الله .

عن ابن شهاب الزهري، عن أحمد بن المسيب، عن عثمان بن عفان، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إذا سمعتم النداء فقوموا فإنها عزمة من الله .

عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أنه قال لفاطمة رضي الله تعالى عنها: ما خير للنساء? قالت: أن لا يرين الرجال ولا يروهن، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما فاطمة بضعة مني .

عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من اتقى الله عاش قوياً وسار في بلاده آمناً .

عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فهو قمار .

عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عمار بن ياسر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: حسن الخلق خلق الله الأعظم .

عن الزهري، عن سعيد ابن المسيب، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال لي جبريل لبيك الإسلام على موت عمر رضي الله تعالى عنه .

حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن لكل شيء شرفاً يتباهون به وإن بهاء أمتي وشرفها القرآن.
 

أبو مسلم الخولاني ومعجزة الخروج من النار


في رحاب التابعين


هو سيد التابعين وزاهد العصر أبو مسلم الخولاني الداراني واسمه عبد الله بن ثوب وقدم من اليمن، وقد أسلم أيام النبي صلى الله عليه وسلم فدخل المدينة في خلافة الصديق . وحدث عن عمر ومعاذ بن جبل وأبي عبيدة وأبي ذر الغفاري وعبادة بن الصامت وروي عنه أبو إدريس الخولاني وجبير بن نفير وعطاء بن أبي رباح وشرحبيل بن مسلم . وقبل أن يأتي أبو مسلم المدينة كان الأسود العنسي الذي ادعى النبوة قد طرحه في النار فلم تضره فكان يشبه بالخليل عليه السلام .

نار الأسود العنسي

جاء في صفة الصفوة لابن الجوزي عن شرحبيل بن مسلم الخولاني قال: تنبأ الأسود بن قيس العنسي باليمن فأرسل إلى أبي مسلم فقال له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: فتشهد أني رسول الله؟ قال: ما اسمع . قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم قال: فتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم قال: فتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع . قال: فأمر بنار عظيمة فأججت وطرح فيها أبو مسلم فلم تضره فقال له أهل مملكته: إن تركت هذا في بلادك أفسدها عليك . فأمره بالرحيل فقدم المدينة وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر . فقام إلى سارية المسجد يصلي فبصر به عمر بن الخطاب، فقال: من أين الرجل؟ قال: من اليمن - قال: فما فعل عدو الله بصاحبنا الذي حرقه بالنار فلم تضره؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب . قال: نشدتك بالله عز وجل أنت هو؟ قال: اللهم نعم . قال: فقبل ما بين عينيه، ثم جاء به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر وقال: الحمد لله لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن عليه السلام .

وفي زهده قال علقمة بن مرثد: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين منهم أبو مسلم الخولاني، فإنه لم يكن يجالس أحداً يتكلم في شيء من أمر الدنيا إلا تحول عنه . فدخل ذات يوم المسجد فنظر إلى نفر قد اجتمعوا فرجا أن يكونوا على ذكر الله تعالى، فجلس إليهم وإذا بعضهم يقول: قدم غلامي فأصاب كذا وكذا، وقال آخر: جهزت غلامي، فنظر إليهم وقال: سبحان الله أتدرون ما مثلي ومثلكم؟ كمثل رجل أصابه مطر غزير وابل فالتفت فإذا هو بمصراعين عظيمين فقال: لو دخلت هذا البيت حتى ذهب هذا المطر، فدخل فإذا البيت لا سقف له . جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على ذكر وخير فإذا أنتم أصحاب دنيا .

أبو مسلم وامرأته

وعن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: كان أبو مسلم الخولاني إذا انصرف من المسجد إلى منزله كبر على باب منزله فتكبر امرأته فإذا كان في صحن داره كبر فتجيبه امرأته، فإذا بلغ إلى باب بيته كبر فتجيبه امرأته فانصرف ذات ليلة عند باب داره فلم يجبه أحد فلما كان في الصحن كبر فلم يجبه أحد . فلما كان في بيته كبر فلم يجبه أحد، وكان إذا دخل بيته أخذت امرأته رداءه ونعليه ثم أتته بطعامه قال: فدخل فإذا البيت ليس فيه سراج وإذا امرأته جالسة منكسة تنكت بعود معها . فقال لها: مالك؟ فقالت: أنت لك منزلة من معاوية وليس لنا خادم فلو سألته أعطاك فقال: اللهم من أفسد امرأتي فأعم بصره . قال: وقد جاءتها امرأة قبل ذلك فقالت: زوجك له منزلة من معاوية فلو قلت له يسأل معاوية أن يخدمه ويعطيه عشتم . فبينا تلك المرأة جالسة في بيتها إذ أنكرت بصرها فقالت: ما لسراجكم منطفئ؟ قالوا: لا فعرفت ذنبها، فأقبلت إلى أبي مسلم تبكي وتسأله أن يدعو الله عز وجل لها يرد عليها بصرها . فرحمها أبو مسلم فدعا الله عز وجل لها فرد عليها بصرها .

وقال الحسن: قال أبو مسلم الخولاني، وكان ذا أمثال، أرأيتم نفساً إذا أكرمتها ونعمتها ذمتني غداً عند الله وإن أنا أهنتها وأنصبتها وأعملتها مدحتني عند الله غداً؟ قالوا: من تيك يا أبا مسلم؟ قال: تيك والله نفسي .
وعن شرحبيل بن مسلم، أن أبا مسلم الخولاني كان إذا وقف على خربة قال: يا خربة أين أهلك؟ ذهبوا وبقيت أعمالهم، وانقطعت الشهوة، وبقيت الخطيئة، ابن آدم، ترك الخطيئة أهون من طلب التوبة .

وعن عمير بن سيف، أنه سمع أبا مسلم الخولاني يقول: لأن يولد لي مولود يحسن الله عز وجل نباته حتى إذا استوى على شبابه وكان أعجب ما يكون إليّ، قبضه مني، أحب إليّ من أن يكون لي الدنيا وما فيها
.
 
سيرة الصحابي «الغامض» أبي مسلم الخولاني

على الرغم من أن المصادر التاريخية الإسلامية قد ذكرت أسماء المئات من الصحابة والتابعين، فإن بعض تلك الأسماء قد أُحيطت بهالة من الغموض، خصوصاً بعدما ارتبطت بالعديد من الأحداث الغريبة والتي تنطوي على نوع من أنواع الخوارق والمعجزات.

في مقدمة تلك الأسماء، يأتي اسم أبي مسلم الخولاني، ذلك الرجل الغامض الذي اختلف المؤرخون حول إذا كان صحابياً أو تابعياً، والذي نُسجت حوله العديد من القصص الأسطورية التي شبهته بالأنبياء والرسل، الأمر الذي يدفعنا دفعاً للتفتيش في سيرته، في محاولة لفهم أسباب تبجيله وتعظيمه في المُخيال السني الجمعي على وجه الخصوص.

أبو مسلم الخولاني في المصادر التاريخية​

على الرغم من الشهرة الكبيرة التي تمتعت بها شخصية أبي مسلم الخولاني في المِخيال الإسلامي بوجه عام، والسني منه على وجه الخصوص، فإننا سنلاحظ أن الأغلبية الغالبة من المعلومات المتوافرة عن تلك الشخصية، غير دقيقة، وغير محددة، بل يمكن القول إن الكثير من تلك المعلومات تتعارض مع بعضها البعض بشكل صريح.

هذا التعارض يظهر بشكل واضح فيما يخص تحديد اسمه، إذ سنجد أن أغلبية المصادر التاريخية، تسميه أحياناً بعبد الله بن ثوب، وفي أحيان أخرى، تسميه بعبد الله بن عبد الله، هذا في الوقت الذي وردت فيه بعض الروايات النادرة التي تسميه بيعقوب بن عوف.

الاختلاف يمتد لتحديد سنة ميلاده، ففي الوقت الذي ذهبت فيه بعض الروايات إلى أنه قد ولد يوم معركة حنين في شهر شوال من العام الثامن من الهجرة وذلك بحسب ما رجح أبو نُعيم الأصبهاني المتوفى 430هـ في كتابه «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء»، فإن الأغلبية الغالبة من المؤرخين قد رفضوا ذلك، وأكدوا على أنه قد ولد قبل الهجرة النبوية، واستدلوا على ذلك بما تواتر من أخبار تثبت أن أبا مسلم لما دخل إلى المدينة في عهد أبي بكر الصديق، في السنة الحادية عشر من الهجرة، كان رجلاً كبيراً.

مما يتصل بتلك النقطة، الخلاف حول مسألة صحبة الخولاني للرسول، ففي حين عدّه البعض من الصحابة، فإن الأغلبية الغالبة من كتب التراجم والطبقات، قد أكدت على كونه تابعياً، لأنه وإن كان قد أسلم في زمن الرسول، فإنه لم يره قط.

فيما يخص أصوله القبلية، فمن الشائع والمعروف، أن أبا مسلم ينتمي إلى قبيلة خولان، وهي إحدى القبائل الكبيرة التي سكنت اليمن منذ فترة موغلة في القدم، وذلك بحسب ما يذكر الدكتور جواد علي في كتابه «المُفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام». بحسب أرجح الأقوال، فإن أبا مسلم الخولاني قد شارك في الجيش العربي الذي قاتل على الجبهة الشامية، وكان من بين القوات التي قادها خالد بن الوليد أثناء قتال الروم البيزنطيين، فلما استولى المسلمون على تلك المنطقة، سكن أبو مسلم مع قومه من بني خولان في مدينة داريا، وهي مدينة صغيرة تقع بالقرب من مدينة دمشق.

أبو مسلم كان من بين الرواة التي ضمت المتون الحديثية الكثير من رواياتهم، إذ ذكرت تلك المتون عشرات الروايات التي نقلها عن كبار الصحابة من أمثال كل من عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وأبي عبيدة بن الجراح، وأبي ذر الغفاري، وعبادة بن الصامت.

هذا في الوقت الذي روى عنه عدد كبير من أعلام التابعين ومشاهيرهم، من أمثال كل من أبي إدريس الخولاني، وأبي العالية الرياحي، وعطاء بن أبي رباح، وعطية بن قيس، وعمير بن هانئ.

من جهة أخرى، سنجد أن المدونات السنية قد تحدثت كثيراً عن زهده وورعه وعبادته، ومن ذلك ما ذكره شمس الدين الذهبي المتوفى 748هـ في كتابه «سيّر أعلام النبلاء»، من أنه –أي أبي مسلم الخولاني- كان يداوم على صلاة التطوع، حتى قيل إن بعض الناس قد أحصى عدد ركعات صلاته ذات يوم، فوجده وقد صلى ثلاثمائة ركعة؛ ومن ذلك أنه كان يعلق في المسجد سوطاً، وكان يقول «أنا أولى بالسوط من البهائم»، وكان معتاداً على أن يؤدب نفسه بهذا السوط إذا ضعفت همته أو فتر عن العبادة؛ أيضاً، تحدثت الروايات عن حرصه على الجهاد في أرض الروم، وكيف أنه كان معتاداً على الصوم في أثناء السفر.

كل تلك السمات حدت بالكثير من علماء أهل السنة والجماعة للاتفاق على عظم مكانة أبي مسلم، حتى عدّه الكثيرون واحداً من الزهاد الثمانية، وهم ثمانية رجال من أكابر التابعين، من الذين عُرفوا بالزهد والتقوى والصلاح، حتى ضُرب بهم المثل في العبادة، وشاع أمرهم بين العامة والخاصة، ومن ذلك أيضاً ما وصفه به يحيى بن شرف النووي المتوفى 676هـ في كتابه «المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج»، إذ يقول: «وهو –أي أبي مسلم- مشهور بالزهد، والكرامات الظاهرة، والمحاسن الباهرة…».

من الملاحظات المهمة التي توضح كيف تعرضت سيرة أبي مسلم الخولاني للكثير من المبالغة، أن الكثير من الروايات قد أكدت على تعظيم أهل الكتاب –من اليهود والمسيحيين- له، وكيف أنهم قد عظموه وغالوا في التأكيد على مكانته، ومن ذلك ما أورده أبو نُعيم الأصبهاني في كتابه، عندما ذكر أن كعب الأحبار كان يسمي أبا مسلم بـ«حكيم الأمة»، وأيضاً ما ذكره الذهبي من أن بعض المسلمين الشاميين قد مروا على راهب مسيحي في صومعته، فلما رآهم خرج لهم، وسألهم عن أبي مسلم الخولاني، ثم قال لهم: «إذا أتيتموه، فأقرئوه السلام؛ فإنا نجده في الكتب رفيق عيسى ابن مريم…».

رغم كل تلك الشهرة، فإن الخلاف يعود مرة أخرى ليطل برأسه عند مناقشة توقيت وفاة أبي مسلم، ففي حين ذكرت بعض الأخبار أنه قد توفي زمن خلافة معاوية بن أبي سفيان، وأن معاوية لما عرف بوفاته قد أظهر الحزن وقال: «إنما المصيبة كل المصيبة بموت أبي مسلم الخولاني»، فإننا نجد بعض الروايات الأخرى التي تؤكد على أن وفاته قد وقعت في العام الثاني والستين من الهجرة، زمن خلافة يزيد بن معاوية.

كرامات وخوارق لا حصر لها​

ذكرت المصادر التاريخية الإسلامية -ولا سيما تلك المصطبغة بالصبغة السنية- عدداً كبيراً من أخبار الكرامات والخوارق التي وقعت على يد أبي مسلم الخولاني. من أشهر تلك الكرامات، ما ذكره ابن عساكر المتوفى 571هـ في كتابه «تاريخ دمشق»، عندما تحدث عن الأسود العنسي الذي ادّعى النبوة في اليمن، وكيف أنه قد سأل أبا مسلم الخولاني إذا كان يصدق دعوته أم لا، فلما سكت أبو مسلم ورفض الإقرار له بالنبوة، أمر العنسي بإشعال نار عظيمة، ثم ألقى بالخولاني فيها، وتؤكد القصة على أن أبا مسلم قد مكث في النار وهو يصلي ويدعو لله عز وجل، فلم يصبه أي أذى، فلما شاهد العنسي وأتباعه هذه المعجزة، أخرجوا أبا مسلم من اليمن حتى لا يفسد عليهم أمرهم.

بعدها تُستكمل القصة بأن الخولاني قد قدم إلى المدينة المنورة وقد سبقه إليها خبر كرامته، فاستقبله عمر بن الخطاب ولم يكن يعرفه، وسأله عن خبر الرجل الذي خرج من النار سالماً في اليمن، فلما عرف أنه هو نفسه، أخذه وانطلق به إلى الخليفة أبي بكر الصديق، وقال «الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من صنع به كما صُنع بإبراهيم الخليل».

كرامة الخروج من النار لم تكن الكرامة الوحيدة التي عُرف بها الخولاني في التراث السني، بل نجده يفعل كرامة أخرى تتشابه كثيراً مع ما وقع مع النبي موسى عندما قاد بني إسرائيل ليعبروا البحر ويهربوا من ملاحقة فرعون وجيشه، قصة تلك الكرامة حكاها ابن كثير الدمشقي المتوفى 774هـ في كتابه «البداية والنهاية»، عندما ذكر أن أبا مسلم كان يشارك في بعض المعارك ضد الروم البيزنطيين في ناحية من نواحي بلاد الشام، ولما وجد المسلمون أنفسهم مضطرين لعبور أحد الأنهار لملاحقة جيش العدو، ولم يكن معهم السفن، فإن أبا مسلم قد دعا الله، قائلاً: «اللهم أجزت بني إسرائيل البحر، وإنا عبادك في سبيلك فأجزنا هذا النهر، ثم قال: اعبروا بسم الله»، وتُستكمل الرواية بأن الجيش كله قد اجتاز النهر دون أن يفقد أحدًا من جنوده.

بحسب المشهور، فإن كرامات أبي مسلم قد قدمت الإفادة والعون للمسلمين في الكثير من اللحظات الحرجة التي واجهتهم، ومن ذلك ما ذكره هبة الله اللالكائي المتوفى 418هـ في كتابه «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة»، عندما تحدث عن أن المطر لما كان يتأخر، فإن المسلمين كانوا يلجؤون لأبي مسلم، ويستسقون به، فكان المطر عندها ينزل بغزارة. في بعض الأحيان، تم توظيف كرامات الخولاني في بعض المواقف الطريفة نوعاً ما، ومن ذلك ما ذكره اللالكائي في كتابه، أنه «ربما قال الصبيان لأبي مسلم الخولاني إذا مر الظبي: ادع الله يحبس علينا هذا الظبي، فيدعو الله فيحبسه».

أيضاً، تحدثت الكثير من القصص عن كرامات الخولاني مع أهل بيته، ومن ذلك أن جاريته قد صارحته ذات يوم، بأنها قد اعتادت أن تضع له السم في طعامه، وأنها تتعجب من أنه يقوم سليماً معافاً دون أن يصيبه أذى، فقال لها مفسراً: «إِنِّي كُنْتُ أَقُولُ إِذَا أَرَدْتُ أَنْ آكُلَ: بِسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الْأَسْمَاءِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ دَاءٌ رَبِّ الْأَرْضِ وَرَبِّ السَّمَاءِ».

في السياق نفسه، ذكر اللالكائي خبر أبي مسلم مع زوجته الصالحة، وكيف أن إحدى النساء قد أوغرت صدرها عليه ذات مرة، وزينت لها أن تطلب من الخولاني ما لا يقدر عليه من المال والمتاع، فلما عرف أبو مسلم بذلك، دعا على تلك المرأة فعميت، فجاءته بعدها وقالت: «يا أبا مسلم: إني قد كنت فعلت وفعلت، وإني لا أعود لمثلها، فقال: اللهم إن كانت صادقة فاردد عليها بصرها قال: فأبصرت».

كرامات تحويل الأشياء من صورة إلى أخرى، نُسبت أيضاً إلى أبي مسلم، وفي ذلك يحكي الحسن بن محمد الخلال المتوفى 439هـ في كتابه «كرامات الأولياء»، أن أبا مسلم قد حمل كيسه وخرج يوماً ليشتري دقيقاً من السوق ولم يكن معه وقتها إلا درهماً واحداً، فقابله أحد المساكين وطلب منه الصدقة، وحاول الخولاني أن يهرب منه بشتى الطرق، ولكن لما ألح عليه المسكين، أعطاه أبو مسلم الدرهم، وذهب إلى النجار، وملأ كيسه من نشارة الخشب، ثم رجع إلى منزله وأعطى الكيس لزوجته، وبعد ساعة دعته زوجته للطعام فوجد الخبز على المائدة، ولما سألها من أين صنعتِ هذا الخبز، قالت له: «هذا من الذي جئت به».

تداخل السياسة والتاريخ​

من الأسئلة المهمة التي يجدر طرحها على طاولة النقاش، السؤال حول سبب استئثار شخصية أبي مسلم الخولاني -تحديداً- بكل هذا الزخم والحضور في التراث الروائي السني، سواء على صعيد أخبار العبادة والزهد من جهة، أو على صعيد قصص الكرامات والأمور الخارقة للعادة من جهة أخرى.

من الممكن الإجابة على هذا السؤال من خلال الالتفات لأحد الجوانب شبه المجهولة في سيرة أبي مسلم، ألا وهو ذلك الجانب المتعلق بميله السياسي، وموقفه من الحرب الأهلية التي دارت بين معسكر أهل الشام، ومعسكر أهل العراق، في معركة صفين في سنة 37هـ.

الكثير من المصادر التاريخية، تؤكد على أن أبا مسلم كان منحازاً إلى صف والي الشام معاوية بن أبي سفيان، وأنه –أي أبي مسلم- مع عشيرته من بني خولان، قد وقفوا بجانب معاوية في حربه الضروس ضد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب. من أهم الروايات التي تلقي الضوء على ذلك الجانب الخفي من سيرة أبي مسلم، ما ذكره أحمد بن يحيى البلاذري المتوفى 279هـ في كتابه «أنساب الأشراف»، إذ يقول:

«…وكانت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم بعثت بقميص عثمان إلى معاوية، فأخذه أبو مسلم الخولاني من معاوية، فكان يطوف به في الشام في الأجناد، ويحرض الناس على قتلة عثمان».

في السياق نفسه، تحدث نصر بن مزاحم المنقري المتوفى 212ه في كتابه «صفين»، عن بعض الأحداث المهمة التي شارك فيها أبو مسلم قُبيل اندلاع الحرب بين الشاميين والعراقيين في صفين، إذ يذكر أن أبا مسلم قد ذهب لمعاوية ليعاتبه على نيته لحرب علي بن أبي طالب، فكان مما قاله له: «يا معاوية علام تقاتل علياً، وليس لك مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته؟»، ليرد عليه معاوية بأن الأمر خارج عن إرادته، وإنه إنما يقاتل علياً للقصاص من قتل عثمان بن عفان على يد بعض العراقيين.

عندها يذهب أبو مسلم بنفسه حاملاً لرسالة من معاوية إلى علي، ويطلب من علي أن يسلم قتلة عثمان، ولكنه لما يرى أن علياً يرفض تسليمهم، وأن جميع العراقيين قد استعدوا للحرب وقالوا: «نحن جميعاً قتلناه؛ أي عثمان»، فإنه يرجع إلى معاوية، وهو يقول: «الآن طاب الضراب».

ويذكر ابن حبان البستي المتوفى 354هـ في كتابه «الثقات»، أن أبا مسلم الخولاني بعد رجوعه إلى الشام قال لمعاوية:
«والله لتقاتلنّ علياً أو لنقاتلنه فإنه قد أقر بقتل أمير المؤمنين عثمان! فقام معاوية فرحاً فصعِدَ المنبر واجتمع إليه الناس فحمد الله وأثنى عليه. وقام أبو مسلم خطيباً وحرّضَ الناسَ على قتال علي».

بعد ذلك، تتحدث المصادر التاريخية عن أن أبا مسلم كان واحداً من بين كبار المساندين لمعاوية في صفين، وأنه كان يقاتل وهو يرتجز الشعر، فيقول:
ما علتي ما علتي
وقد لبست درعتي
أموت عند طاعتي

الأمر الذي شجع الكثير من الشاميين للاقتداء به واتباعه إلى ساحة المعركة، خصوصاً وأنه كان من بين المشهورين بالزهد والتقوى والصلاح.

كل ما سبق يفسر سبب الحضور القوي لشخصية أبي مسلم الخولاني في المِخيال السني وحده، وكيف أنه قد ظهر بمظهر مخالف تماماً في المِخيال الشيعي، للحد الذي دفع برجل الدين الشيعي المعاصر محسن الأمين العاملي لوصفه في كتابه «أعيان الشيعة»، بأنه «كان فاجراً مرائياً، وكان صاحب معاوية، وهو الذي كان يحث الناس على قتال علي عليه السلام».

من هنا يمكن فهم سبب تعظيم شخصية الخولاني في الذاكرة السنية، وكيف أن الشاميين الذين كان يبحثون عن بعض الرموز التي تصلح لمنافسة علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وغيرهما من أهل الصلاح والتقوى من الذين وقفوا في صف معسكر العراق، قد وجدوا بغيتهم في شخصية الخولاني –سيد التابعين-، فبالغوا في تعظيمه، ونسجوا حوله الروايات والقصص الأسطورية، والتي شبهوه فيها بالأنبياء والرسل، ومما يُرجح ذلك أننا لا نكاد نجد أي ذكر لكرامات وخوارق الخولاني في الكتب المتقدمة، ومنها على سبيل المثال كتاب «الطبقات الكبير» لمحمد بن سعد المتوفى 230هـ، الأمر الذي يدفعنا إلى الشكّ بأن تلك السيرة الأسطورية صناعة أموية محضة.
 
غدا لنا موعد مع أحد التابعين والذي قيل في حقه ((ما رأيتُ أحدًا يريد بالعِلم وجْه الله عز وجل غير هؤلاء الثلاثة: عَطَاء وطاووسُ ومجاهد)) إنه عطاء بن أبي رباح

 

عطاء بن أبي رباح


أسلم ، الإمام شيخ الإسلام ، مفتي الحرم ، أبو محمد القرشي مولاهم المكي ، يقال : ولاؤه لبني جمح ، كان من مولدي الجند ونشأ بمكة ، ولد في أثناء خلافة عثمان .

عطاء بن أبي رباح -رحمه الله- من أئمة التابعين، وكان عطاء مملوكاً فأعتق، وكان من أعلم الناس بالمناسك، حتى إنه في بعض الأوقات أُمِر أن لا يفتي أحد في الحج سوى عطاء؛ لعلمه بالمناسك، وله أخبار -رحمه الله- مع بعض الخلفاء، كالوليد بن عبد الملك حينما جاء مع أبنائه وعطاء يصلي أمام الكعبة، وكان يريد أن يسأله عن بعض المسائل، فجعل الخليفة ينتظره مع أبنائه، وهذا رجل كان مملوكاً، وهو أسود أفطس أعرج، فكان جالساً يصلي فانتظروه، فلما فرغ سأله الوليد فلم يلتفت إليه، أجابه وهو لم يلتفت، وكانوا بجانبه، ثم قام إلى صلاته وتركهم، فقال بعض أبناء الوليد بن عبد الملك الذي يحكم المشرق والمغرب: ما حاجتنا إلى هذا العبد؟ فنبههم إلى معنى وهو أن هذا العلم يرتفع به أقوام، ويُذل آخرون

حدث عن عائشة ، وأم سلمة ، وأم هانئ ، وأبي هريرة ، وابن عباس ، وحكيم بن حزام ، ورافع بن خديج ، وزيد بن أرقم ، وزيد بن خالد الجهني ، وصفوان بن أمية ، وابن الزبير ، وعبد الله بن عمرو ، وابن عمر ، وجابر ، ومعاوية ، وأبي سعيد ، وعدة من الصحابة . وأرسل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن أبي بكر ، وعتاب بن أسيد ، وعثمان بن عفان ، والفضل بن عباس ، وطائفة .

وحدث أيضا عن عبيد بن عمير ، ويوسف بن ماهك ، وسالم بن شوال ، وصفوان بن يعلى بن أمية ، ومجاهد ، وعروة ، وابن الحنفية ، وعدة . حتى إنه ينزل إلى أبي الزبير المكي ، وابن أبي مليكة ، وعبد الكريم أبي أمية البصري ، وكان من أوعية العلم .

حدث عنه مجاهد بن جبر ، وأبو إسحاق السبيعي ، وأبو الزبير ، وعمرو بن دينار ، والقدماء ، والزهري ، وقتادة ، وعمرو بن شعيب ، ومالك بن دينار ، والحكم بن عتيبة ، وسلمة بن كهيل ، والأعمش ، وأيوب السختياني ، ومطر الوراق ، ومنصور بن زاذان ، ومنصور بن المعتمر ، ويحيى بن أبي كثير ، وخلق من صغار التابعين ، وأبو حنيفة ، وجرير بن حازم ، ويونس بن عبيد ، وأسامة بن زيد الليثي ، وإسماعيل بن مسلم المكي ، والأسود بن شيبان ، وأيوب بن موسى الفقيه ، وأيوب بن عتبة اليمامي ، وبديل بن ميسرة ، وبرد بن سنان ، وجعفر بن برقان ، وجعفر الصادق ، وحبيب بن الشهيد ، وحجاج بن أرطاة ، وحسين المعلم ، وخصيف الجزري ، ورباح بن أبي معروف المكي ، ورقبة بن مصقلة ، والزبير بن خريق ، وزيد بن أبي أنيسة ، وطلحة بن عمرو المكي ، وعباد بن منصور الناجي ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ، وعبد الله بن أبي نجيح ، وعبد الله بن المؤمل المخزومي ، والأوزاعي ، وعبد الملك بن أبي سليمان ، وابن جريج ، وعبد الواحد بن سليم البصري ، وعبد الوهاب بن بخت ، وعبيد الله بن عمر ، وعثمان بن الأسود ، وعسل بن سفيان ، وعطاء الخراساني ، وعفير بن معدان ، وعقبة بن عبد الله الأصم ، وعكرمة بن عمار ، وعلي بن الحكم ، وعمارة بن ثوبان ، وعمارة بن ميمون ، وعمر بن سعيد بن أبي حسين ، وعمر بن قيس سندل ، وفطر بن خليفة ، وقيس بن سعد ، وكثير بن شنظير ، والليث بن سعد ، ومبارك بن حسان ، وابن إسحاق ، ومحمد بن جحادة ، ومحمد بن سعيد الطائفي ، ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى ، ومحمد بن عبيد الله العرزمي ، ومسلم البطين ، ومعقل بن عبيد الله الجزري ، ومغيرة بن زياد الموصلي . ، وموسى بن نافع أبو شهاب الكوفي ، وهمام بن يحيى ، وعبد الله بن لهيعة ، ويزيد بن إبراهيم التستري ، وأبو عمرو بن العلاء ، وأبو المليح الرقي ، وأمم سواهم .

قال علي ابن المديني : اسم أبي رباح أسلم مولى حبيبة بنت ميسرة بن أبي خثيم . وقال ابن سعد : هو مولى لبني فهر أو بني جمح ، انتهت فتوى أهل مكة إليه وإلى مجاهد ، وأكثر ذلك إلى عطاء ، سمعت بعض أهل العلم يقول : كان عطاء أسود أعور أفطس أشل أعرج ، ثم عمي ، وكان ثقة ، فقيها ، عالما ، كثير الحديث .

قال أبو داود : أبوه نوبي ، وكان يعمل المكاتل ، وكان عطاء أعور أشل أفطس أعرج أسود ، قال : وقطعت يده مع ابن الزبير .

قال أبو عمرو بن العلاء : قلت لعطاء : إنك يومئذ لخنشليل بالسيف ، قال : إنهم دخلوا علينا .

وقال جرير بن حازم : رأيت يد عطاء شلاء ، ضربت أيام ابن الزبير .

وقال أبو المليح الرقي : رأيت عطاء أسود يخضب بالحناء .

وروى عباس عن ابن معين قال : كان عطاء معلم كتاب .

وعن خالد بن أبي نوف عن عطاء قال : أدركت مائتين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - .

الثوري ، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين ، عن أمه أنها أرسلت إلى ابن عباس تسأله عن شيء ، فقال : يا أهل مكة ! تجتمعون علي وعندكم عطاء . وقال قبيصة عن سفيان بهذه ولكن جعله عن ابن عمر .

وقال بشر بن السري ، عن عمر بن سعيد ، عن أمه أنها رأت النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامها فقال لها : سيد المسلمين عطاء بن أبي رباح .

وقال أبو عاصم الثقفي : سمعت أبا جعفر الباقر يقول للناس -وقد اجتمعوا- : عليكم بعطاء ، هو -والله- خير لكم مني .

وعن أبي جعفر قال : خذوا من عطاء ما استطعتم .

وروى أسلم المنقري ، عن أبي جعفر قال : ما بقي على ظهر الأرض أحد أعلم بمناسك الحج من عطاء .

عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه قال : ما أدركت أحدا أعلم بالحج من عطاء بن أبي رباح .

أبو حفص الأبار ، عن ابن أبي ليلى قال : دخلت على عطاء فجعل يسألني ، فكأن أصحابه أنكروا ذلك ، وقالوا : تسأله ؟ قال : ما تنكرون ؟ وهو أعلم مني ، قال ابن أبي ليلى -وكان عالما بالحج- : قد حج زيادة على سبعين حجة . قال : وكان يوم مات ابن نحو مائة سنة ، رأيته يشرب الماء في رمضان ويقول : قال ابن عباس :وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له إني أطعم أكثر من مسكين .

ابن وهب ، عن مالك قال : عمرو بن دينار ، ومجاهد ، وغيرهما من أهل مكة ، لم يزالوا متناظرين حتى خرج عطاء بن أبي رباح إلى المدينة ، فلما رجع إلينا استبان فضله علينا .

وروى إبراهيم بن عمر بن كيسان قال : أذكرهم في زمان بني أمية يأمرون في الحج مناديا يصيح : لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح ، فإن لم يكن عطاء ، فعبد الله بن أبي نجيح .

قال أبو حازم الأعرج : فاق عطاء أهل مكة في الفتوى .

وروى همام عن قتادة قال : قال لي سليمان بن هشام : هل بالبلد -يعني مكة - أحد ؟ قلت : نعم ، أقدم رجل في جزيرة العرب علما ، فقال : من ؟ قلت : عطاء بن أبي رباح .

ابن أبي عروبة ، عن قتادة -فيما يظن الراوي- قال : إذا اجتمع لي أربعة ، لم ألتفت إلى غيرهم ، ولم أبال من خالفهم : الحسن ، وابن المسيب ، وإبراهيم ، وعطاء ، هؤلاء أئمة الأمصار .

ضمرة ، عن عثمان بن عطاء قال : كان عطاء أسود شديد السواد ، ليس في رأسه شعر إلا شعرات ، فصيحا إذا تكلم ، فما قال بالحجاز قبل منه .

وقال ابن عيينة ، عن إسماعيل بن أمية قال : كان عطاء يطيل الصمت ، فإذا تكلم يخيل لنا أنه يؤيد .

وقال أسلم المنقري : جاء أعرابي يسأل ، فأرشد إلى سعيد بن جبير ، فجعل الأعرابي يقول : أين أبو محمد ؟ فقال سعيد : ما لنا هاهنا مع عطاء شيء .

وروى عبد الحميد الحماني ، عن أبي حنيفة قال : ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء بن أبي رباح ، ولا لقيت أكذب من جابر الجعفي ، ما أتيته قط بشيء إلا جاءني فيه بحديث ، وزعم أن عنده كذا وكذا ألف حديث ، من رأيي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينطق بها .
 
عودة
أعلى