متجدد سلسلة رمضانية : علماء ودعاة

ابن_قيم_الجوزية.png



من هو ابن القيم الجوزية ؟

إبن القيم هو العالم ابن القيم الجوزيّة؛ محمد بن أبي بكر بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي، ويكنّى بأبي عبد اللَّه، لقّب بشمس الدين، واشتهر بابن قيم الجوزية، حيث كان أبوه قيِّمًا على مدرسة تُسمّى الجوزيّة، فعرفه الناس بمهنة أبيه،

مولد ابن القيم ونشأته

ولد الإمام العالم ابن القيم الجوزية في السابع من شهر صفر، في عام 691 للهجرة، وكان مسقط رأسه في دمشق نشأ ابن القيم نشأةً صالحة؛ فقد وُلد في بيت صلاح وعلم، فابتدأ ابن القيم بأخذ العلم في صغرِه، وقرأ على كثير من الشيوخ. كما سمع ابن القيم الدروس من الكثير من العلماء في مدينةِ دمشق؛ والتي كانت تزخر في العلماء في ذلك الوقت، ثمّ ارتحل بعدها إلى مصر لطلب العلم فيها، وبعدما عاد ابن تيمية من مصر لازمه ابن القيم وصحبه مدةً طويلةً، ودخل السّجن برفقته في قلعة دمشق، وبقي فيه مدة طويلةً حتى توفّي ابن تيمية.

زهد ابن القيم وعبادته

عُرف ابن القيم بزهده وعبادته؛ وخشيته من الله -تعالى-، ويقينه بالله، وافتقاره إليه، وظهر ذلك جليًّا في مؤلفاته، فقد كان زاهدًا في الدنيا، وراغبًا فيما عند الله -تعالى-، وكان يظهر أنّ إيمانه قد نشأ عن فهم للدين الإسلامي، وحبّه له، كما كان مجتهدًا في العبادة، وكثير الطاعات ، ولم يكن صلاح ابن القيم يقتصر على علاقته بالله -تعالى-، فقد كان صالحًا في دنياه، حيث اتّصف بإحسانه إلى الناس، وبخُلقه الحسن في تعامله معهم، وكان مثالًا في الصدق ونموذجًا من نماذج الصلاح والتقوى، وهو من العلماء الذين علّموا الدين، وعملوا به.

ومن أمثلة زهد ابن القيم في الدنيا سبب تأليفه لكتاب تحفة المودود، حيث جاء أنّ سبب ذلك أنّ ابنه إبراهيم قد رُزق مولوداً، ولم يكن لدى ابن القيم ما يُعطيه لابن ابنه من متاع الدنيا، فصنف هذا الكتاب وأعطاه إياه، وقال له: "أُتْحِفكُ بهذا الكتاب إذ لم يكن عندي شيء من الدنيا أعطيك" ومن مظاهر زهد ابن القيم وعبادته، ما يأتي:

كان كثير الصلاة وكان يطيل القيام فيها والركوع والسجود و كان يكثر من قيامه في الليل وتهجده و كان يكثر من تضرعه لله بالدعاء، وابتهاله له، وافتقاره وانكساره إليه، كان يكثر من ذكره لله تعالى، فقد كان ملازمًا للذكر والاستغفار و كان يحرص على أداء الحجّ ويكرره في كل عام.

علم ابن القيم وشيوخه

كان ابن القيم نابغة في العلم، محبًا له، وقد اجتهد في تحصيله منذ صغره، وتعلم العلوم بمختلف مجالاتها منذ بداية مسيرته العلميّة، فوصل إلى مراتب عالية في العلم، حيث برع في العديد من العلوم، وشاع ذكره في عصره، وكان أكثر أقرانه براعة وعلمًا، ووضع عدة مؤلفّات ، وقد شهد له العديد من العلماء في عصره، من شيوخ له وتلاميذ، ومن العلماء الذين شهدوا لابن القيم الجوزيّة وأثنى على علمه وفهمه الإمام الحافظ الذهبي.

وقد شهد الذهبي لابن القيم الجوزيّة بعلمه وإجادته حيث قال عنه: "عُني بالحديث متونه ورجاله، وكان يشتغل في الفقه ويجيد تقريره، وفي النحو وَيَدْرِيه، وفي الأصليين" وقد تلقّى ابن القيم الجوزية العلم على يد العديد من الشيوخ؛ الذين أثنوا عليه، وامتدحوا علمه، ومن شيوخ ابن القيم من يأتي: المزي؛ وقد أثنى على تلميذه ابن القيم بحسن تعلمه فقال: "هو في هذا الزمان كابن خزيمة في زمانه". ابن تيمية؛ وقد رأى بشارة في المنام لابن القيم تدلّ على أنّه في طبقة ابن خزيمة، القاضي برهان الدين الزُّرَعي الذي قال عنه: "ما تحت أديم السماء أوسع علماً منه".

مؤلفات ابن القيم

وضع ابن القيم العديد من المؤلفّات التي تعد مرجعًا لكثير من العلماء المعاصرين، ومن هذه المؤلفّات ما يأتي: إعلام الموقعين عن رب العالمين ، زاد المعاد في هدي خير العباد ، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ،شفاء العليل في مسائل القضاء القدر والحكمة والتعليل.
 


تتمة...

ابن قيم الجوزية .. العالم الفذ و”ظل” ابن تيمية

ابن قيم الجوزية


عرفت الأمة الإسلامية العديد من العلماء البارزين الذين برعوا في علوم الدين، وفقهوا في الشريعة وأجادوا، ومن هؤلاء العلماء الأعلام هو العالم الجليل ابن قيم الجوزية ، الذي يعتبر من العلماء النادرين القلائل الذين عرفهم التاريخ الإسلامي.

فقد كان عالما فذا رزقه الله فكرا و علما لا مثيل له، ولا غرو في ذلك فقد كان ابن القيّم تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية.

ابن قيّم الجوزية هو الإمام الفذ، والعلم المتبحر، والمفسر المحدث، طبيب القلوب وعللِها، وخبير النفوس وآفاتها، صاحب التصانيف الرائعة، والمصنفات النافعة. كان كعادة العلماء الربانيين في الأمة يجمع بين العلم والعمل، فهو ليس كمن بليت بهم الأمة ممن ينتسب إلى العلم زورا، فيقول ولا يعمل، وينصح ولا يرتدع، ويعظ ولا يتعظ، فلقد كان ابن القيم رحمه الله ذا عبادة وزهادة، وتهجد واجتهاد، سائرا في مدارج الربانيين، دائم الذكر، طويل الفكر.

ويُعرف ابن القيّم بغزارة علمه وسعة اطّلاعه حيث برع رحمه الله تعالى في علوم عديدة من أبرزها علوم الحديث والفِقه والتفسير والسيرة، كما أنه أجاد العربية وفنونها فكان هذا بابا لسعة فهمه لعلوم الشريعة من خلال فهم كلام الله تعالى وحديث رسوله عليه الصلاة والسلام.

من هو الإمام ابن القيّم؟

هو شمس الدين محمد بن أبى بكر بن أيوب بن سعد بن حزيز الزرعى الدمشقى، ولد في السابع من صفر 691هـ – 1292م في مدينة دمشق، وتوفي في الثالث عشر من رجب 751هـ – 1349م.

عاش حياته في طاعة الله وطلب العلم، فقد اشتهر بالورع والتقوى وشدّة عبادته، وخصوصا في الصلاة التي هي ميزان المؤمن الحقّ، وكذلك تعرّض رحمه الله تعالى للعديد من الابتلاءات والمحن من أبرزها السجن الذي قضى جزءا من حياته فيه، بسبب بعض الفتاوى حيث إنّه سجن مع شيخه ابن تيمية في سِجن القلعة، ولكن في حجرة أخرى وخرج من السجن عقب وفاة ابن تيمية.

سمع ابن القيّم على التقى سليمان وأبى بكر بن عبد الدائم وغيرهما، وقرأ العربية على ابن أبى الفتح والمجد التونسى وقرأ الفقه على المجد الحرانى وابن تيمية. وقرأ فى الأصول على ابن تيمية والصفى الهندى وكان جرىء اللسان واسع العلم، عارفا بالخلاف ومذاهب السلف وقد غلب عليه حب ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شىء من أقواله، بل كان ينتصر له فى جميع ذلك وهو الذى هذب كتبه ونشر علمه، وكان له حظ عند الأمراء المصريين، وقد اعتقل مع ابن تيمية بالقلعة بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروبا بالدرة، فلما مات ابن تيمية أفرج عنه.

سبب تسميته بابن القيّم​

سبب تسميته بابن قيم الجوزية أو ابن القيم: كان والده رحمه الله قَيِّماً على المدرسة الجوزية ” بدمشق، والقيّم هو الناظر أو الوصي، وهو ما يُشبه المدير في زمننا هذا، وكان والدُ ابن القيّم من علماء دمشق فكان أبوه قيم الجوزية فأطلق عليه ابن قيم الجوزية، والبعض يقول ابن القيم وهو الأكثر لدي المتأخرين.

والجدير بالذكر أن ابن القيم أو ابن قيم الجوزية ليس هو ابن الجوزي، وأن ابن الجوزي سبق ابن القيم بحوالي مائة وثمانين عاما، وقد ولد ابن الجوزي في 510ه/1116م وهو: أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن، ومن أشهر كتبه: (تلبيس إبليس، صيد الخاطر، صفوة الصفوة).

شيوخه وتلاميذه

تلقى الإمام ابن القيم رحمهُ الله تعالى العلوم على عدد من الشيوخ والعلماء الأجلّاء ولعلّ من أبرزهم وأوثقهم صلة بابن القيّم هو شيخه الإمام تقي الدين ابن تيمية، والمعروف بشيخ الإسلام، حيث لازمَ ابن قيّم الجوزيّة شيخ الإسلام ابن تيميّة وسمعَ منه العلم مُشافهةً ولازمه حتّى وفاة شيخه ابن تيميّة، ومِن هؤلاء العلماء الأعلام أيضاَ الذين تلقّى ابن القيّم العلوم على أيديهِم الشهاب النابلسيّ، وابن الشيرازي وغيرهِم. ولابن القيّم العديد من التلاميذ الكِبار كذلك، من أشهرهم هو الحافظ ابن رجب الحنبلي الذي اشتهر بحفظه وروايته لحديث رسول الله صلّى الله عليهِ وسلّم.

شرع ابن القيم في طلب العلم في سن مبكرة وعلى وجه التحديد في السابعة من عمره كما يذكر المؤرّخون. سمع من عدد كبير من الشيوخ، منهم والده أبو بكر بن أيوب فأخذ عنه الفرائض، وأخذ عن ابن عبد الدائم، وعن أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية أخذ التفسير والحديث والفقه والفرائض والأصلَين (أصول الدين وأصول الفقه)، وعلم الكلام، وقد لازم ابن تيمية سبعة عشر عاما تقريبا.

وسمع من الشهاب العابر أحمد بن عبد الرحمغ النابلسي في سنٍ جدّ مبكرة، في السادسة أو السابعة من عمره وعن ابن الشيرازي والمجد الحراني وأخذ عنهما الفقه وقرأ عليه مختصر أبي القاسم الخرقي وكتاب “المقنع” لابن قدامة وأخذ عنه الأصول وقرأ عليه أكثر “الروضة” لابن قدامة ، وسمع من إسماعيل أبي الفداء القيسي وأيوب زين الدين الكحال والبهاء بن عساكر و أخذ الفقه عن شرف الدين بن تيمية وفاطمة أم محمد بنت الشيخ إبراهيم البطائحي وقرأ العربية على مجد الدين التونسي وبدر الدين بن جماعة وأخذ العربية والفقه عن محمد شمس الدين البعلبكي فقرأ عليه “الملخص” لأبي البقاء و”الجرجانية” و”الفية ابن مالك“.. وغيرهم كثيرون.

ويشير الحافظ ابن رجب إلى أخذ الكثير العلم من ابن القيم وتتلمذهم على يديه، وبين تأثيره في عصره، فيقول: “وأخذ عنه العلم خلق كثير من حياة شيخه، وإلى أن مات، وانتفعوا به، وكان الفضلاءُ يعظمونهُ ويتتلمذون له.” ومن أشهر تلاميذه:

ابنه برهان الدين إبراهيم، ابنه شرف الدين وجمال الدين عبد الله، الحافظ ابن رجب الحنبلي، ابن عبد الهادي، محمد بن عبد القادر بن عثمان النابلسي الحنبلي، محمد بن محمد بن محمد بن الخضر الغزي الشافعي، مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، محمد بن محمد القرشي المقري التلمساني، صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، زين الدين علي بن الحسين بن علي الكناني الحنبلي.

أبرز مؤلفاته

لعل أهم ما يميز إبن جوزية هو التراث العلمي والفكري الذي تركه للأمة، وأثرى به المكتبة الإسلامية، فلقد رزقه الله عز ذهنا سيالا وقلما دفاقا وبركة في اوقاته التي كانت عامرة كلها بالنافع والصالح لنفسه وللأمة كلها ورغم تبحره في علوم كثيرة واتليفه في شتى ابواب العلم خاصة في الأصول والعقائد والحديث إلا أن أكثر ما يميزه هي كتاباته ومؤلفاته في علم السلوك والرقائق وأدواء النفوس ومقامات الإيمان. لقد اشتهر الإمام ابن القيّم الجوزية بكثرة مؤلفاته وتنوّعها، فقد كتب في الحديث والسيرة النبوية وكتب في رقائق القلوب، وما يتعلّق بالعبادات القلبيّة والعقيدة، وتطرّق كذلك للطب مستخلصا الحكمة من كلام الله تعالى وكلام نبيّه عليه الصلاةُ والسلام، ومن أهم هذه الكتب نذكر ما يلي:
  • زاد المعاني في هدي خير العباد
  • مدارج السالكين
  • حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح
  • الفضاء والقدر
  • عدّة الصابرين
  • إعلام الموقّعين عن ربِّ العالمين
  • الروح
  • الداء والدواء
  • تحفة الودود في أحكام المولود
  • الصراط المستقيم في أحكام أهل الجحيم
  • إعلام الموقعين
  • بدائع الفوائد
  • طريق السعادتين وشرح منازل السائرين
  • جلاء الأفهام فى الصلاة والسلام على خير الأنام
  • مفتاح دار السعادة والروح
  • الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة
ومما دل أيضا على سعة علمه وشغفه بالتأليف والكتابة أنه كان رحمه الله دائرة معارف تمشي على رجلين فقد ألف بعض المؤلفات وهو في سفره، بعيدا عن داره ومكتبته وهي:
  • روضة المحبين ونزهة المشتاقين
  • مفتاح دار السعادة ومنشور ألوية العلم والإرادة
  • بدائع الفوائد
  • تهذيب سنن أبي داود
  • الفروسية

قالو عن ابن القيم

يقول عنه تلميذه ابن كثير : “كان حسن القراءة والخلق، كثير التودد، لا يحسد أحدا ولا يؤذيه ولا يستعيبه، ولايحقد على أحد، وبالجملة كان قليل النظر في مجموعه وأموره وأحواله، والغالب عليه الخير والأخلاق الفاضلة”. وكان يعتز بصحبته ومحبته فقال: “وكنت من أصحب الناس له، وأحب الناس إليه”. وقال ابن كثير: “لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها جدا، ويمد ركوعها وسجودها”.

قال ابن رجب: “كان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله والانكسار له، والإطراح بين يديه على عتبة عبوديته لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علما، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه وليس هو بالمعصوم ولكن لم أر في معناه مثله، وقد امتحن وأوذي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين في المرة الأخيرة بالقلعة منفردا عنه ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ”.

وقال ابن حجر: “وكان إذا صلي الصبح جلس مكانه يذكر الله حتى يتعالي النهار، ويقول: هذه غدوتي لو لم أقعدها سقطت قواي”. وقال ابن حجر: كان جريء الجنان، واسع العلم، عارفا بالخلاف ومذاهب السلف.

ويقول تلميذه الذهبي: “عني بالحديث ومتونه ورجاله، وكان يشتغل بالفقه ويجيد تقريره وفي النحو ويدريه، وفي الأصلين”.
وقال السيوطي: “وقد صنف وناظر واجتهد، وصار من الأئمة الكبار في التفسير والحديث والفروع والأصلين والعربية”.

وقال الشوكاني: “برع في شتي العلوم وفاق الأقران واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف”.

ابن القيم وابن تيمية

عاش ابن قيم الجوزية مقلدا لابن تيمية ومحافظا على مسلكه فى الدين والعلم، ينال من علماء عصره وينالون منه، وقد ذكره الذهبى فى المختص فقال: حبس مرة لإنكاره شد الرحل لزيارة قبر الخليل، ثم تصدر للاشتغال ونشر العلم ولكنه معجب برأيه جرىء على الأمور، وكانت مدة ملازمته لابن تيمية منذ عاد من مصر سنة 712 هـ إلى أن مات. وقال فيه ابن كثير: كان ملازما للاشتعال ليلا ونهارا، كثير الصلاة والتلاوة، حسن الخلق، كثير التودد. لا يحسد ولا يحقد. ثم قال: لا أعرف فى زماننا من أهل العلم أكثر عبادة منه، وكان يطيل الصلاة جدا، ويمد ركوعها وسجودها.

وكان إلى هذا مغرما بجمع الكتب، فحصل منها ما لا يحصر، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهرا طويلا، سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم. وكتبه كلها كما قال ابن حجر مرغوب فيها بين الطوائف، وهو طويل النفس فيها، يتعانى الإيضاح جهده فيسهب جدا، ومعظمها من كلام شيخه ابن تيمية بتصرف فى ذلك.

ويقول الشيخ عبد المتعال الصعيدى فى كتابه المجددون “يرى كثيرون أن ابن قيم الجوزية لم يأت بجديد غير ما أتى به أستاذه ابن تيمية قبله، لأنه كان لا يخرج عن شىء من أقواله، وكانت كتبه معظمها من كلامه، وليس له فيها إلا تصرف فى الألفاظ وتفنن فى العبارة”.

وكان لابن تيمية تأثير كبير على ابن القيم، وله أثر واضح في ثقافته وتكوين مذهبه، فأخذ عنه علما جمّا واتسع مذهبه ونصره، وهذب كتبه، وقد كانت مدة ملازمته له سبعة عشر عاما. يقول ابن حجر العسقلاني في ذلك: “وهو الذي هذّب كتبه – أي كُتب ابن تيمية – ونشر علمه، وكان ينتصر له في أغلب أقواله”.
 
غدا لنا موعد مع العلامة والفقيه شهيد الحجاج بن يوسف الثقفي سعيد بن جبير
 
maxresdefault-1.jpg


سعيد بن جبير .. العالم الذي تحدى الحجّاج


سعيد بن جبير شخصية إسلامية عظيمة، درس العلم عن عبد الله بن عباس حبر الأمة وعن السيدة عائشة أم المؤمنين، مات شهيدا مدافعا عن الحق وثائرا في وجه الباطل. وكان عالما شامخا وإماما تقيا ومقرئا ومفسرا ونجما لامعا ومفخرة من مفاخر التاريخ الإسلامي.

سكن الكوفة ونشر العلم فيها وكان من علماء التابعين، قتله الحجّاج بن يوسف بسبب خروجه مع عبد الرحمن بن الأشعث في ثورته على بني أمية.

يعتبر الإمام الحافظ الشهيد التابعي سعيد بن جبير الأسدي من أعظم التابعين وأفضل القرّاء وكبار العلماء، ومن أئمة المسلمين في التفسيغ والفقه ، نهل من ينابيع الإسلام الصافية، فتخلّق بأخلاقهم وتحلّى بآدابهم وحمل علومهم ومعارفهم سائرا على منهجهم في إحقاق الحق ودحض الباطل.

روى له البخاري، ومسلم وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة. ولم يرحل عن هذه الدنيا إلا بعد أن سجل أروع المواقف البطولية في تصديه للباطل وبذل دمه الزكي في سبيل الله والإسلام ونصرة الحق فسجل اسمه مع الشهداء الأبرار.

من هو سعيد بن جبير؟

هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي، ليس من بني أسد بل كان مولى بني أسد حيث يرجع أصل سعيد إلى الحبشة، وهو أحد الرجال التابعين، لم تذكر الروايات مولد سعيد بشكل صريح، بل عُرف تاريخ مقتله وهو سنة 95 للهجرة في شهر شعبان، وقد جاء أنَّه قال لابنه: “ما بقاء أبيك بعد سبعة وخمسين” أي أنَّه عاش سبعة وخمسين عامًا وهذا يعني أنَّه وُلد سنة 38 للهجرة، والمؤكد أنَّه ولد في فترة خلافة الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وقيلَ أيضًا إنَّ سعيد توفِّي وله من العمر 49 عامًا أي أنَّ مولده يكون سنة 46 للهجرة.

ولد سعيد بن جبير في زمن خلافة الإمام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه بالكوفة، من أبوين مملوكين، أبوه جبير مولى بني والبة وأمه أمة تكنى بـ (أم الدهماء)، قال ابن العماد الحنبلي: وكان ــ أي سعيد ــ “مملوكاً أسوداً” فكان من الطبيعي أن تسود بواكير حياته ونشأته الغموض والعتمة فلا يوجد في مصادر التاريخ ما يبين ولو بإشارة إلى ولادته وموارد تعليمه وثقافته.

نشأته وتعليمه

قرأ سعيد بن جبير القرآن على ابن عباس، وأخذ عنه الفقه والتفسير والحديث، كما روى الحديث عن أكثر من عشرة من الصحابة، وقد بلغ رتبة في العلم لم يبلغها أحد من أقرانه، قال خصيف بن عبد الرحمن عن أصحاب ابن عباس: كان أعلمهم بالقرآن مجاهد وأعلمهم بالحج عطاء، وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب، وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير.
وقد نشأ سعيد في الكوفة وتلقى تعليمه الأول في مسجدها الذي كان يعجّ بطلاب العلم ثم انتقل إلى مكة المكرمة، حيث صحب عبد الله بن عباس وتلقى على يديه العلوم، ويصف ابن سعد لقاء ابن عباس بتلميذه سعيد لأول مرة فيقول على لسان سعيد: قال لي ابن عباس ممن أنت ؟ قلت: من بني أسد، قال من عربهم أو من مواليهم ؟ قلت: لا بل من مواليهم، فقال :فقل أنا ممن أنعم الله عليه من بني أسد .. “.

وقد وجد ابن عباس في سعيد نبوغا عاليا وقابلية على إدراك الحديث فاقت قابليات غيره ممن قدموا عليه لطلب العلم حتى كان سعيد يحدِّث بمحضر أستاذه ابن عباس كما روى ابن سعد وابن خلكان فقالا: “قال ابن عباس لسعيد بن جبير حدّث فقال: أحدثّ وأنت هاهنا ؟، فقال: أوليس من نعمة الله عليك أن تتحدث وأنا شاهد، فإن أصبت فذاك وإن أخطأت علمتك”.

كان سعيد بن جبير، حبشي الأصل، عربي الولاء، أدرك أن العلم وحده هو الذي يرفعه، وأن التقوى وحدها هي التي تكرمه، وتبلغه الجنة، ومنذ نعومة أظفاره كان الناس يرونه إما عاكفاً على كتاب يتعلم، وإما في محراب يتعبد، فهو بين طلب العلم والعبادة، إما في حالة تعلم، أو في حالة تعبد.

مع الصحابة والتابعين

صحب سعيد بن جبير كثيرا من الصحابة والتابعين وروى عنهم لكنه لم يجد ضالته في العلم حتى التقى بالإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) فنهل من هذا المنهل العذب العلوم الإلهية واغترف من المدرسة المحمدية، فقد تشرّف سعيد بصحبة هذا الإمام العظيم فلازمه بعد وفاة ابن عباس فانتقل سعيد إلى المدينة المنورة.

لقد استظل سعيد بظل الشجرة النبوية وتغذى من ثمارها ونهل من علومها، قال أبو القاسم الطبري عن سعيد: “هو ثقة الإمام، حجة على المسلمين”. وقال ابن حبان: “كان فقيهاً عابداً فاضلاً”. وقال ميمون بن مهران: “لقد مات سعيد بن جبير وما على الارض رجلاً إلا يحتاج إلى سعيد”. وقال خصيف: “كان أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب، وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاووس، والتفسير أبو الحجاج مجاهد بن جبر، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير”.

كما أثنى على سعيد بن جبير بمثل هذه الأقوال كلا من : أبو نعيم في حلية الأولياء، وابن شهرآشوب في المناقب، وابن حجر في التقريب، وابن العماد الحنبلي في الشذرات وغيرهم، وأصداء واقعة الطف..وغيرهم كثيرون.

عاصر سعيد بن جبير الكثير من الأحداث المأساوية التي مرت بها الأمة الإسلامية، فقد شهد ثورة ابن الزبير ورمي الكعبة المشرفة بالمنجنيق وكذلك واقعة الحرة واستباحة مدينة الرسول، وغيرها من الأحداث التي أدمتْ قلوب المسلمين وخاصة أمثال سعيد بن جبير من المؤمنين المخلصين فكانت آلامهم أشد وهم يرون المقدسات والحرمات تنتهك والدماء البريئة تسفك والأموال تنهب بغير وازع من دين أو ضمير.

كما شهد سعيد بن جبير وقائع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث مع الحجاج منها: وقعة دُجيل، ووقعة الأهواز، ووقعة دير الجماجم، وذكر الطبري إن الوقعة الأخيرة ــ أي دير الجماجم ــ كانت مائة يوم وكذلك قال ابن الأثير في كامله واشترك سعيد مع القرّاء في تلك الوقائع وكان شعارهم: “يا لثارات الصلاة” وقتل من القرّاء خلق كثير في هذه الوقائع.

ومثل سعيد بمكانته العلمية لا يسكت على مثل هذه الأعمال الإجرامية فرفع راية الرفض وأنكر على عبد الملك هذه الأعمال الشنيعة وصدح بقول الحق أمام الحجاج والي العراق حتى مضى شهيداً فساند القراء من الصحابة والتابعين في ثورتهم على الأمويين وحينما سُئل عن خروجه على الحجاج قال: “إني والله ما خرجت عليه حتى كفر”.

“فررت حتى استحيت من الله”

وذكر المؤرخون أن كل الوقائع كانت على الحجاج إلا الوقعة الأخيرة فإنها كانت على ابن الأشعث، ولمّا قتل عبد الرحمن وانهزم اصحابه من دير الجماجم لحق سعيد بمكة واستخفى مع جماعة من أضرابه، وقيل إنه دخل أصبهان وأقام بها مدة ثم أرتحل منها إلى العراق وسكن قرية سنبلان، وقال ابن كثير : “واستمر ــ أي سعيد ــ في هذا الحال مختفياً من الحجاج قريباً من اثنتي عشرة سنة”. وروي عنه لما قيل له بأن يستخفي قوله: “والله لقد فررت حتى استحيت من الله وسيجيئني ما كتب الله لي”.

كان سعيد من أوائل الثائرين على السلطة الأموية، فكان يرفع صوته قائلا: “قاتلوهم على جورهم في الحكم وخروجهم من الدين وتجبّرهم على عباد الله وإماتتهم الصلاة واستذلالهم المسلمين”.

ويصف السيوطي عبد الملك بن مروان و طاغيته الحجاج فيقول: “لو لم يكن من مساوئ عبد الملك بن مروان إلا الحجاج وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة يهينهم ويذلهم قتلاً وضرباً وشتماً وحبساً وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين فضلاً عن غيرهم وختم عنق أنس وغيره من الصحابة يريد بذلك ذلهم لكفى ذلك في مساوئه فلا رحمه الله ولا عفا عنه”.

قتيل الحجّاج أم قاتله؟

عندما أدرك الحجاج بمكان التابعي الجليل سعيد بن جبير، أمر أن يُساق إليه مقيدا، وعندما وصل إليه أمر الحجاج بذبحه، وأدَّعى أنه عدو لله ودينه، وهكذا استشهد رحمه الله، وباء الحجاج بن يوسف الثقفي بإثمه.

ودارت بين الحجاج وسعيد بن جبير محاورة طويلة تباين المؤرخون في نقلها انتهت بقول الحجاج غاضباً: “أما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً قبلك ولا أقتلها أحداً بعدك”، فقال سعيد: “اللهم لا تحل له دمي ولا تمهله من بعدي”. ثم قال: “اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي”.

ويقال أن سعيد جبير ذُبح من القفا
، وقد استجاب الله دعاءه فقد التبس الحجاج في عقله ودبّ المرض في جسده وجعل ينادي: “مالي ولسعيد” ! ولم يزل الحجاج بعد قتله سعيدا فزعا مرعوبا حتى مُنع من النوم وكان كلما نام رآه آخذا بمجامع ثوبه يقول: “يا عدو الله فيم قتلتني؟ فيستيقظ مذعورا ويقول مالي ولابن جبير؟ ولم يزل متلبساً حتى هلك”.

وروى الدميري: إن عمر بن عبد العزيز رأى الحجاج في المنام بعد موته وهو جيفة منتنة فقال له: ما فعل الله بك ؟ قال قتلني بكل قتيل قتلته قتلة واحدة إلا سعيد بن جبير فإنه قتلني به سبعين قتلة. ويعلل الدميري سبب ذلك: إن سعيد بن جبير لم يكن له نظير في العلم في وقته ثم ينقل عن الحسن البصري قوله: والله لقد مات سعيد بن جبير يوم مات وأهل الأرض من مشرقها إلى مغربها محتاجون لعلمه، ثم يقول الدميري : فمن هذا المعنى ضوعف العذاب على الحجاج بقتله، وقيل إن الذي أفزع الحجاج عندما رأى مقتل سعيد سيلان الدم الكثير الذي لم يرَ بقدره عند من قتلهم قبله مما جعله يستدعي الأطباء ويسألهم عن ذلك فقالوا له: هذا قتلته ونفسه معه والدم تبع للنفس ومن كنت تقتله قبله كانت نفسه تذهب من الخوف لذلك قلّ دمه.

الحجاج وابن جبير ..الحوار التاريخي

لما أوقف سعيد بن جبير بين يدي الحجاج قال له: يا سعيد ألم أشركك في أمانتي؟ ألم أستعملك؟ ألم أفعل؟ ألم أفعل؟ كل ذلك يقول: نعم حتى ظن من عنده أنه سيخلي سبيله حتى قال له: فما حملك على الخروج علي وخلعت بيعة أمير المؤمنين، فقال سعيد: إن ابن الأشعث أخذ مني البيعة على ذلك وعزم علي، فغضب عند ذلك الحجاج غضبا شديدا، وانتفخ حتى سقط طرف ردائه عن منكبه، وقال له ويحك ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير وأخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: بلى، قال: ثم قدمت الكوفة واليا على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة فأخذت بيعتك له ثانية، قال: بلى ! قال فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين وتفي بواحدة للحائك ابن الحائك؟ يا حرسي اضرب عنقه. قال: فضربت عنقه فبدر رأسه عليه لا طئة صغيرة بيضاء، وقد ذكر الواقدي نحو هذا، وقال له: أما أعطيتك مائة ألف؟ أما فعلت أما فعلت. كما دار بينهما هذا الحوار:

الحجاج: ما اسمك؟ سعيد: سعيد بن جبير.

الحجاج: بل أنت شقي بن كسير.

سعيد: بل أمي كانت أعلم باسمي منك.

الحجاج: شقيتَ أنت، وشقيتْ أمك.

سعيد: الغيب يعلمه غيرك.

الحجاج: لأبدلنَّك بالدنيا نارًا تلظى.

سعيد: لو علمتُ أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهًا.

الحجاج: فما قولك في محمد.

سعيد: نبي الرحمة، وإمام الهدى.

الحجاج: فما قولك في على بن أبي طالب، أهو في الجنة أم في النار؟

سعيد: لو دخلتها؛ فرأيت أهلها لعرفت.

الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟

سعيد: لست عليهم بوكيل.

الحجاج: فأيهم أعجب إليك؟

سعيد: أرضاهم لخالقي.

الحجاج: فأيهم أرضى للخالق؟

سعيد: علم ذلك عنده.

الحجاج: أبيتَ أن تَصْدُقَنِي.

سعيد: إني لم أحب أن أكذبك.

الحجاج: فما بالك لم تضحك؟

سعيد: لم تستوِ القلوب وكيف يضحك مخلوق خلق من طين والطين تأكله النار.

رفض المال والدنيا

اتبع الحجاج مع سعيد بن جبير طريقًا آخر، لعله يزحزحه عن الحق، فقد أغراه بالمال والدنيا، لكن سعيد أفهمه أن المال هو أعظم وسيلة لإصلاح الأعمال وصلاح الآخرة.

الحجاج: ويلك يا سعيد!

سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار.

الحجاج: أي قتلة تريد أن أقتلك؟

سعيد: اختر لنفسك يا حجاج، فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلتك مائة قتلة في الآخرة.

الحجاج: أتريد أن أعفو عنك؟

سعيد: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عُذر.

الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه.

فلما خرجوا ليقتلوه، بكي ابنه لما رآه في هذا الموقف، فنظر إليه سعيد وقال له: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة؟ وبكي أيضًا صديق له، فقال له سعيد: ما يبكيك؟ الرجل: لما أصابك.

سعيد: فلا تبك، كان في علم الله أن يكون هذا، ثم تلا: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} [الحديد:22] ثم ضحك سعيد، فتعجب الناس وأخبروا الحجاج، فأمر بردِّه،

فسأله الحجاج: ما أضحكك؟

سعيد: عجبت من جرأتك على الله وحلمه عنك.

الحجاج: اقتلوه.

سعيد: {وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين} [الأنعام: 79].

الحجاج: وجهوه لغير القبلة.

سعيد: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة:115].

الحجاج: كبوه على وجهه.

سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى.

الحجاج: اذبحوه.

سعيد: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، خذها مني يا حجاج حتى تلقاني بها يوم القيامة، ثم دعا سعيد ربه فقال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي.
 


حتى تعم الفائدة ولا ننسى من هم قدوة لنا في الدين ،فيديو عن سعيد بن جبير والحجاج بن يوسف الثقفي
 
تخطيط_كلمة_ابن_تيمية.png

/ فقهاء وأئمة / شيخ الإسلام ابن تيمية شيخ الإسلام ابن تيمية

ما هو مذهب ابن تيمية من هو شيخ الإسلام ابن تيمية

يُعتبر شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله من كبار العلماء في عصره والعصور التي تلت عصره؛ حيث بلغ من العلم والتقى والصلاح ما بلغ، وقد بلغ صيته أرجاء المعمورة في ذلك العصر قبل انتشار وسائل التواصل والمراسلات؛ لما له من قوةٍ في قول الحق، ولما له من حُجَّةٍ عند الاستدلال، فمن هو ابن تيمية؟ وما المجال الذي برع فيه؟ وما سبب اشتهاره في ذلك الوقت وإلى هذا اليوم؟

الاسم والنسب والمولد

هو أبو العباس أحمد بن تقي الدين بن شهاب الدين بن عبد الحليم بن عبد السلام مجد الدين أبي البركات بن عبد الله بن تيمية، ولد بحرّان يوم الاثنين العاشر وقيل الثاني عشر من شهر ربيع الأول من سنة ستمائة وواحد وستين من بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، أبوه الشيخ شهاب الدين بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية، قرأ المذهب الحنبلي على أبيه، وكان إماماً محقّقاً في كثير من الفنون، كان متواضعاً وجواداً، كان شيخاً لدار الحديث السكّرية بدمشق، أما جدّه فهو الشيخ مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحرّاني، فقيه حنبلي، وإمام مقرئ، ومحدّث ومفسّر وأصولي ونحوي.

جدّته لأبيه بدرة بنت فخر الدين أبي عبد الله محمد بن الخضر، وتُكنّى بأم البدر، كانت تروي وتُحدّث بالإجازة عن ضياء الدين بن خريف، أما سبب تسمية عائلته بابن تيمية فقد اختلف العلماء فيه؛ فقيل أن جدّه محمد بن الخضر حجّ البيت على درب تيماء، فرأى طفلة اسمها تيمية، ثم رجع فوجد امرأته ولدت بنتاً فسمّاها تيمية، وقيل أنّ جدّه محمد كانت أمه واعظة اسمها تيمية وبها سمّيت العائلة.

النشأة والعلم

نشأ شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في حرّان حتى بلغ سنّ السابعة، ثم هاجر مع والده وإخوته إلى دمشق، نشأ رحمه الله في أسرة عريقة معروفة بعلمها، اتجّه بدايةً إلى حفظ القرآن الكريم، ثم اشتغل بحفظ الحديث والفقه واللغة، وبرع في النحو، والتفسير، وأصول الفقه وعمره لم يتجاوز بضع عشرة سنة، عُرِف بالذّكاء، وقوّة الحفظ، والنّجابة، وسرعة الإدراك منذ صغره، كان فريد عصره في الزهد، والعلم، والشجاعة، والسّخاء، وكثرة التصانيف. تأهّل للتدريس والفتوى وهو ابن سبعة عشر سنة، كان قويّ التوكّل على الله دائم الذكر، كان أوّل كتاب حفظه في الحديث كتاب الجمع بين الصحيحين للإمام الحميدي، توسَّع رحمه الله في دراسة العلوم وتبحّر فيها، واجتمعت فيه صفات المجتهد وشروط الاجتهاد منذ شبابه، فصار إماماً يعترف له الجهابذة بالعلم، والفضل، والإمامة، أثنى عليه شيوخ عصره وتلاميذه.

وُلِدَ رحمه الله ونشأ في مرحلة كانت فيها الدولة والأمة الإسلامية في حالة من التمزق والضعف، وقت ظهر فيها التتار؛ فقتلوا العباد، ونهبوا الديار، فلم يمنعه طلبه للعلم من المشاركة في الأحداث في عصره، بل شارك رحمه الله في ذلك مشاركة العالم المجاهد؛ شارك بسيفه ولسانه وقلمه في محاربتهم.

الجهاد جمع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في جهاده بين السيف والقلم، ومن مواقفه في ذلك ما يلي: عندما جاء التتار بجموعهم إلى الشام سنة 702هـ، أخذ البعض ينشر الفزع، والهزيمة في قلوب العباد، أما شيخ الاسلام ابن تيمية فأخذ يدعو المسلمين إلى الجهاد، ويثبّت قلوبهم، ويعدهم بالنصر والغلبة على عدوّهم؛ حتى أنّه رحمه الله كان يحلف بالله: (إنكم لمنصورون)، فيقول له بعض الأمراء: (قل إن شاء الله، فيقول: أقولها تحقيقـاً لا تعليقـاً)، فاطمأنت النفوس والقلوب.

ذهب رحمه الله إلى مكان قريب من دمشق يُدعى مرج الصفر، ووقف وِقفة العالم المجاهد في قتال المغول في موقعة حربيّة عُرفت في التاريخ بموقعة شقجب، وكان ذلك في شهر رمضان من سنة 702هـ، وكان رحمه الله قد اجتمع بالسلطان قبل هذه الموقعة يحثّه على الجهاد والقتال، واستمرّ القتال طوال اليوم الرابع من شهر رمضان حتى أذن الله بالنصر، وزال خطر التتار.

المؤلّفات للإمام ابن تيمية

مؤلفات ومصنفات كثيرة، من أبرزها ما يلي: كتاب الاستقامة، كتاب مطبوع في جزأين، وقام بتحقيقه الدكتور محمد رشاد سالم. كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم مطبوع في جزأين، وقام بتحقيقه الدكتور ناصر العقل.

كتاب بيان تلبيس الجهمية، تم تحقيقه في ثمانية رسائل دكتورة.

كتاب الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح.

كتاب درء تعارض العقل والنقل.

كتاب الصفدية.

كتاب منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية.

كتاب النبوات.

الشيوخ

من أبرز شيوخ ابن تيمية الآتية أسماؤهم: أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي، أبو العباس، زين الدين، المولود في عام 575هـ ، وهو من شيوخ المذهب الحنبلي، تلقّى عنه الإمام ابن تيمية علوم الحديث.

عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، المولود في عام 597هـ ، وكان شيخ الإمام في الفقه والحديث والأصول.

شرف الدين أبو العباس، أحمد بن أحمد بن نعمة المقدسي الشافعي، برع في الفقه والأصول والعربية.

التلاميذ

كثر تلاميذ ابن تيمية ومنهم الآتية أسماؤهم: ابن قيّم الجوزية، ابن قدامة المقدسي، الحافظ الذهبي ، الحافظ اسماعيل بن كثير.

الوفاة

توفي شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في ليلة الاثنين الموافق العشرين من شهرذي القعدة من سنة (728هـ) بقلعة دمشق التي كان محبوساً فيها، أُذِن للناس بالدخول فيها عند وفاته، فغُسّل فيها، وصُلّي عليه بالقلعة، ثم وُضِعَت جنازته في الجامع؛ حيث قام الجند بحفظها من الناس من شدة الزحام، صُلّيَ عليه صلاة الجنازة بعد صلاة الظهر، ثم حُمِلَت الجنازة واشتد الزحام، فلم يتخلّف عن تشييع جنازته إلا القليل، ثم خرج الناس من الجامع من أبوابه كلها وهي شديدة الزحام.
 
عمر_بن_عبد_العزيز.png



عمر بن عبد العزيز .. الأموي الراشد.


تبوَّأ الخليفة عمر بن عبد العزيز مكانة سامقة في تاريخنا الإسلامي لم ينلها إلا الأفذاذ من القادة والفاتحين، والجهابذة من أئمة العلم، والعباقرة من الكتاب والشعراء. ويزداد عجبك حين تعلم أنه احتلّ هذه المكانة بسنتين وبضعة أشهر قضاها خليفة للمسلمين، في حين قضى غيره من الخلفاء والزعماء عشرات السنين دون أن يلتفت إليهم التاريخ؛ لأن سنوات حكمهم كانت فراغًا في تاريخ أمتهم، فلم يستشعر الناس تحولا في حياتهم، ولا نهوضًا في دولتهم، ولا تحسنا في معيشتهم، ولا إحساسًا بالأمن يعمّ بلادهم.

وهذا يجعلك تؤمن بأن القادة والزعماء يدخلون التاريخ بأعمالهم التي تغير تاريخ أمتهم لا بالسنوات التي عاشوها يحكمون؛ فالخليفة العباسي الناصر لدين الله قضى ستًا وأربعين سنة في منصب الخلافة (575هـ- 622هـ= 1179-1225م)، ومضى دون أن يحفر لنفسه مكانًا في تاريخ أمته، في الوقت الذي قضى فيه “سيف الدين قطز” سلطانًا في مصر نحو عام، نجح أثناءه في إلحاق أكبر هزيمة بالمغول في معركة عين جالوت “، وإعادة الثقة في نفوس المسلمين، ثم قضى نحبه على أيدي شركائه في النصر، بعد أن جذب الانتباه إليه، ونظر إليه الجميع بكل إعجاب وتقدير، وكان دوره التاريخي -على قِصَر فترته الزمنية- كبيرًا وباقيًا.
وكان عمر بن عبد العزيز واحدًا ممن دخلوا التاريخ بأعماله العظيمة وإدارته العادلة للدولة، حتى تجدد الأمل في النفوس أنه بالإمكان عودة حكم الخلفاء الراشدين واقعًا ملموسًا لا قصصًا تُروى ولا أماني تُطلب ولا خيالاً يُتصوَّر، بل حقيقة يشهدها الناس، وينعمون بخيرها.

واحتاج عمر بن عبد العزيز لإحداث هذا التغيير في حياة الأمة إلى ثلاثين شهرًا، لا إلى سنوات طويلة، ولهذا دلالته ؛ حيث إن الأمة كانت حية نابضة بالإيمان، مليئة بالرجال الذين يجمعون -إلى جانب الصلاح- القدرة والكفاءة، ولو كانت الأمة مُجدبة من أمثال هؤلاء لما استطاع عمر أن يقوم بهذا الإصلاح العظيم في هذه الفترة القصيرة، وسنحاول في هذا العدد رصد التغيير الذي أحدثه عمر بن عبد العزيز في حياة أمته.


المولد والنشأة

في المدينة المنورة وُلد لعبد العزيز بن مروان بن الحكم ولد سمّاه “عمر”، على اسم جدِّه “هو عبد الملك بن مروان إلى دمشق حاضرة دولته، وزوّجه ابنته فاطمة، ثم عيّنه واليًا على إمارة صغيرة من أعمال حلب، وظل واليًا عليها حتى تُوفي عبد الملك بن مروان سنة (86هـ=705م).

والي المدينة

ولما تولى الوليد بن عبد الملك الخلافة بعد أبيه سنة (86هـ=705م) عيّن ابن عمه عمر بن عبد العزيز واليًا على المدينة خلفًا لواليها السابق هشام بن إسماعيل المخزومي، وكان هشام قد أساء السيرة في أهلها؛ فرغبوا عنه، ولم يرضوه حاكمًا عليهم، وقد استقبل أهل المدينة الوالي الجديد استقبالا حسنًا؛ فهم يعرفون خلقه وفضله منذ أن نشأ بينهم، وأحسنوا الظن فيه؛ فلم يخيب آمالهم، وبادر إلى العمل الجاد، واختيار معاونيه من خيرة الرجال، وأفضلهم قدرة وكفاءة، وكان من بينهم شيوخه: عروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، فجمعهم، وأخبرهم بسياسته وطريقته في الحكم، وقال لهم: “إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، ونكون فيه أعوانًا على الحق. ما أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم أو برأي مَن حضر منكم؛ فإن رأيتم أحدًا يتعدَّى، أو بلغكم عن عامل ظُلامة، فأُحِّرج بالله على من بلغه ذلك إلا أبلغني”.

وفي فترة ولايته نعمتْ المدينة بالهدوء والاستقرار، وشعر الناس بالأمن والعدل، وقام بتجديد المسجد النبوي وتحسين عمارته، ثم عزله الخليفة الوليد عن ولايته سنة (93هـ= 711م) بعد أن ظلّ على المدينة ست سنوات، ولم يكن عزله عن تقصير وإهمال أو تقاعس عن مباشرة أحوال الناس المدينة، ولكن عُزل بسبب وشاية استجاب لها الوليد، فأخرجه من منصبه، فعاد عمر إلى الشام، ولم يتولَّ منصبًا.

وظل عمر بن عبد العزيز حتى وفاة الوليد بن عبد الملك سنة (96هـ= 714م) في الشام، فلما تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة من بعده أبقى على عمر، ولم يُولِّهِ منصبًا، وجعله في بلاطه مستشارًا وناصحًا، ومعاونًا له وظهيرًا؛ فلما حضرته الوفاة أُوصى له بالخلافة من بعده؛ لما رأى فيه من القدرة والكفاءة، والتقوى والصلاح، والميل إلى الحق والعدل؛ فتولاها في سنة (101هـ= 719م)


في منصب الخلافة

اجتمع لعمر بن عبد العزيز من الصفات والمواهب ما جعله خليفة قديرًا نادر المثال، ينهض بمسئوليته على خير وجه، وشاء الله أن يعتليَ منصب الخلافة والدولة في أوج قدرتها وعظمتها، بعد أن مرّت بفترات عاصفة، وأوقات حَرِجة، وفتن مظلمة، وثورات مدمرة، لكن الدولة تجاوزت تلك المخاطر، وفرضت هيبتها وسلطانها؛ فعاد الأمن والاستقرار، واستؤنف الفتح الإسلامي، وضمت الدولة إلى أراضيها بقاعا شاسعة في الشرق والغرب، وحسبك أن تعلم أن عمر بن عبد العزيز ولي منصبه وجيوش مسلمة بن عبد الملك تحاصر القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية؛ فكان استقرار الدولة من أسباب ظهور أثر إصلاحات عمر، وسياسته الحكيمة، وإدارته العادلة.

وكان عمر إداريًا عظيمًا، إلى جانب صلاحه وتقواه، وزهده وورعه، وهو ما امتلأت به كتب السِّيَر والتراجم حتى كادت تطغى هذه الأخبار على ملامح شخصيته الثرية بجوانبها الأخرى.

سياسته الداخلية

وقبل أن يلي عمر بن عبد العزيز الخلافة تمرّس بالإدارة واليًا وحاكمًا، واقترب من صانعي القرار، ورأى عن كثب كيف تُدار الدولة، وخبر الأعوان والمساعدين؛ فلما تولى الخلافة كان لديه من عناصر الخبرة والتجربة ما يعينه على تحمل المسؤولية ومباشرة مهام الدولة، وأضاف إلى ذلك أن ترفَّع عن أبهة الحكم ومباهج السلطة، وحرص على المال العام، وحافظ على الجهد والوقت، ودقَّق في اختيار الولاة، وكانت لديه رغبة صادقة في تطبيق العدل.

وخلاصة القول أن عمر بن عبد العزيز لم يكن رجل زهد وولاية وجد نفسه فجأة خليفة؛ بل كان رجل دولة استشعر الأمانة، وراقب الله فيما أُوكل إليه، وتحمل مسؤولية دولته الكبيرة بجدٍّ واجتهاد؛ فكان منه ما جعل الناس ينظرون إليه بإعجاب وتقدير.

وكان يختار ولاته بعد تدقيق شديد، ومعرفة كاملة بأخلاقهم وقدراتهم؛ فلا يلي عنده منصبًا إلا من رجحت كفته كفاءة وعلمًا وإيمانًا، وحسبك أن تستعرض أسماء من اختارهم لولاياته؛ فتجد فيهم العالم الفقيه، والسياسي البارع، والقائد الفاتح، من أمثال أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أمير المدينة وقاضيها، والجراح بن عبد الله الحكيمي، أمير البصرة، وكان قائدًا فاتحًا، وإداريًا عظيمًا، وعابدًا قائدًا، والسمح بن مالك أمير الأندلس، وكان قائدًا فذًا، استُشهد على أرض الأندلس، وكان باقي ولاته على هذه الدرجة من القدرة والكفاءة.

وكان عمر لا يكتفي بحسن الاختيار بعد دراسة وتجربة، بل كان يتابع ويراقب، لكن مراقبته لم تكن مراقبة المتهم، بل كان يراقب تطبيق السياسة العامة التي وضعها للدولة.

وإذا كان قد أخذ نفسه بالشدة والحياة الخشنة، فإنه لم يلزم بها ولاته، بل وسّع عليهم في العطاء، وفرض لهم رواتب جيدة تحميهم من الانشغال بطلب الرزق، وتصرفهم عن الانشغال بأحوال المسلمين، كما منعهم من الاشتغال بالتجارة، وأعطى لهم الحرية في إدارة شئون ولاتهم؛ فلا يشاورونه إلا في الأمور العظيمة، وكان يظهر ضيقه من الولاة إذا استوضحوه في الأمور الصغيرة.. كتب إليه أحد ولاته يستوضح منه أمرًا لا يحتاج إلى قرار من الخليفة، فضاق منه عمر، وكتب إليه: “أما بعد، فأراك لو أرسلتُ إليك أن اذبح شاة، ووزِّع لحمها على الفقراء، لأرسلت إلي تسألني: كبيرة أم صغيرة؟ فإن أجبتك أرسلت تسأل: بيضاء أم سوداء؟ إذا أرسلت إليك بأمر، فتبيَّن وجه الحق منه، ثم أمْضِه”.


سياسته المالية

عرف عمر بن عبد العزيز قيمة مال الدولة؛ فلم ينفقه إلا فيما فيه نفع الأمة، وكان يكره التصرف في المال العام بلا ضابط أو رقيب، وكأنه مال خاص للخليفة أو الوالي ينفقه كيفما شاء، ويعطيه لمن شاء؛ ولذا كان يحترز في إنفاق مال الدولة؛ لأنه أمانة يجب صيانتها، ولكل فرد في الأمة حق فيها يجب حفظه، وأعطى عمر من نفسه القدوة والمثال في حفظ مال الدولة، فتبعه ولاته، وانتهجوا طريقته.

وكان من نتائج هذه السياسة أن تدفقت الأموال إلى خزينة بيت المال من موارد الدولة المتنوعة التي حافظ الولاة عليها، ورَعَوْهَا حقَّ رعايتها، وكانت كفيلة بأن تقوم بكل مسؤوليات الدولة تجاه أفرادها، وتحسين حياتهم إلى الحد الذي جعله يكتب إلى أحد ولاته: “أن اقضوا عن الغارمين”؛ أي أدوا عنهم دَيْنَهم، فكتب إليه: “إنا نجد الرجل له المسكن والخادم والفرس والأثاث”، فكتب إليه عمر: “إنه لا بد للمرء المسلم من سكن يسكنه، وخادم يعينه، وفرس يجاهد عليه.. اقضوا عنه فإنه غارم”.

وبلغ من حرصه على الرفق برعيته، واحترامه لحقوق الإنسان أن جعل لكل أعمى قائدا يقوده ويخدمه، ولكل مريضين مرضًا شديدًا خادما لهما، ولكل خمسة أيتام أو من لا عائل لهم خادما يخدمهم، ويقوم على شؤونهم.

وفاضَ المال في بيت المال بفضل سياسته الحكيمة وعدله الناصع؛ فمكنه من فرض الرواتب للعلماء وطلاب العلم والمؤذنين، وفكّ رقاب الأسرى، وعالَ أسرَهُم في أثناء غيابهم، وقدم الأعطيات للسجناء مع الطعام والشراب، وحمّل بيت المال تكاليف زواج مَن لا يملك نفقاته.

لقد قام بيت المال بكل ما يحتاجه المسلمون حتى إن المنادي لينادي في كل يوم: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟… لقد اغتنى كل هؤلاء فلم تعد لهم حاجة إلى المال.

ويُذكر لعمر بن عبد العزيز أنه أسقط الجزية عن أبناء البلاد المفتوحة الذين دخلوا في الإسلام، وكان بعض عمال بني أمية لما أعوزهم المال بسبب الحروب واشتعال الثورات، أبقوا الجزية على هؤلاء، وأطلق عمر صيحته المشهورة رفضًا لهذا الإجراء: “إن الله بعث محمدًا هاديًا، ولم يبعثه جابيًا”.


تدوين السنة

وكان لعمر بن عبد العزيز جانب مشرق في حياته المضيئة كلها، يكاد يخفي أهمية أعماله الأخرى، وإصلاحاته الكبرى، وعدله، ومناقبه التي امتلأت بها كتب التراجم والسير؛ فالمعروف أن الدولة الإسلامية تبنَّت تدوين السنة رسميًا في عهد عمر بن عبد العزيز بأمر منه، وكانت هذه خطوة بالغة الأهمية في عملية التدوين وظهور المصنفات الكبرى في الحديث وتنوع مناهجها، حتى بلغ بها الإمام البخاري قمة النضج في التصنيف والتبويب، وإذا كانت أعمال عمر الأخرى قد احتفظت بها كتب التاريخ آثارًا تروى، فإن قراره بتدوين السنة لا يزال أثره باقيًا حتى اليوم ينتفع به المسلمون ممثلا في كتب السنة النبوية.

وبدأ عمر الخطوة الأولى في تدوين السنة بكتابته إلى الأمصار يأمر العلماء بجمع الأحاديث وتدوينها، وكان فيما كتبه لأهل المدينة: “انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه؛ فإني خفت دُرُوس العلم، وذهاب أهله”، وكتب إلى أمير المدينة المنورة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: “اكتب إليَّ بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبحديث عمرة، فإني خشيت دُرُوس العلم وذهاب أهله”.

كما أمر ابن شهاب الزهري وغيره بجمع السنن فكتبوها له، وكان ابن شهاب أحد الحفاظ الذين شاركوا في جمع الحديث، ويقول في ذلك: “أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا”.


العلاقات الخارجية

حين تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة كانت الدولة الأموية قد بلغت أقصى اتساع لها في الشرق والغرب، وجيوشها على الحدود تقوم بالفتح، وتضيف للدولة بقاعًا جديدة، وليس ثَم شك في أن تبليغ كلمة الإسلام إلى أنحاء الأرض كلها أمر محمود، وهذه الفتوحات كانت من مآثر الدولة الأموية التي لا تنكر، غير أن الخليفة كان له رأي آخر يقوم على تقديم الأولويات وإعادة تنظيم الدولة من الداخل، والاهتمام بالإنسان ومراعاة حقوقه، والحرص على دمائه؛ لذا أولى الشئون الداخلية عنايته؛ لأنها كانت في حاجة لإصلاح ومزيد من التحسين، واهتم بنشر الإسلام في البلاد التي فُتحت أكثر من الاهتمام بالفتح نفسه، وعُني بإرسال الدعاة والعلماء أكثر من عنايته بإرسال الجيوش والحملات، غير أن هذا لا يعني أنه أوقف حركة الفتوحات بل يعني أنه رشدها، وبدلا من إنفاق الأموال الطائلة على تجهيزها وإعدادها وجّه هذه الأموال إلى العناية بالإنسان، وهذا يفسر أمره برجوع جيش مسلمة بن عبد الملك الذي كان يحاصر القسطنطينية، ولم يوفَّق في فتحها، واشتد بالمسلمين الحال، وضاق بهم العيش؛ فأشفق على الجيش المنهك، وأمره بالعودة حتى يستعيد قواه وعافيته، هذا في الوقت الذي كان واليه على الأندلس “السمح بن مالك” يقوم بفتوحات في الأندلس، وأنهى حياته شهيدًا في إحدى غزواته، فضلاً عن أن حياة عمر القصيرة في الخلافة، وانشغاله بالإصلاح الداخلي لم تتح له أن يقوم بحركة واسعة للفتوحات.

وفاته

كانت خلافة عمر كالنسيم العاطر، تنسم المسلمون هواءه الطيب ورائحته الزكية، وسرعان ما انقطع الهواء العليل، وعادت الحياة إلى ما كانت عليه قبل ولايته، غير أن أهم ما قدمه عمر هو أنه جدّد الأمل في النفوس أن بالإمكان عودة حكم الراشدين، وأن تمتلئ الأرض عدلاً وأمنًا وسماحة، وأنه يمكن أن يُقوم المعوَّج، وينصلح الفاسد، ويرد المنحرف إلى جادة الصواب، وأن تهب نسائم العدل واحترام الإنسان، إذا استشعر الحاكم مسئوليته أمام الله، وأنه مؤتمن فيما يعول ويحكم، واستعان بأهل الصلاح من ذوي الكفاءة والمقدرة.

ولم تطل حياة هذا الخليفة العظيم الذي أُطلق عليه “خامس الخلفاء الراشدين”، فتوفي وهو دون الأربعين من عمره، قضى منها سنتين وبضعة أشهر في منصب الخلافة، ولقي ربه في (24 رجب 101هـ=6 من فبراير720م).
 

نبذة عن حياة عمر بن عبد العزيز ، وذِكر شيء من سيرته​


لا شك أن معرفة سيرة السلف الصالح ، وتراجم الخلفاء : أمر حسنٌ مندوب إليه , وخاصة الحقبة الأولى من القرون المفضلة الذين كانوا مثالاً عالياً في كل الصفات ، وفي معرفة تراجمهم دافع للمسلم للاقتداء بهم ، والتأسي بأفعالهم ، وأخلاقهم ، ومآثرهم , وخاصة في مثل هذا الوقت الذي أصبحت فيه القدوة ، والأسوة ، للساقط من الناس ، من الممثلين ، والمغنيين ، وأشباههم .

عصر عمر بن عبد العزيز

عصرُ عمر بن عبد العزيز كان عصراً مميَّزاً عن العصور التي بعده , وكانت سيرته أشبه بسيرة الخلفاء الراشدين ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصره , وأثنى عليه ، فعَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ : سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( لاَ يَزَالُ الإِسْلاَمُ عَزِيزاً إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً ) ثُمَّ قَالَ كَلِمَةً لَمْ أَفْهَمْهَا ، فَقُلْتُ لأَبِي : مَا قَالَ ؟ فَقَالَ : ( كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ) .

رواه البخاري ( 6796 ) ومسلم ( 1821 ) - واللفظ له - .

قال ابن حجر – رحمه الله - في بيان تعداد أولئك الخلفاء - :

في بعض طرق الحديث الصحيحة ( كُلُّهُم يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ ) ، وإيضاح ذلك : أن المراد بالاجتماع : انقيادهم لبيعته ، والذي وقع : أن الناس اجتمعوا على أبي بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، إلى أن وقع أمر الحكَمين في صفِّين ، فسمِّيَ معاوية يومئذ بالخلافة ، ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن ، ثم اجتمعوا على ولده يزيد ... ثم لما مات يزيد وقع الاختلاف إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان ... ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة : الوليد ، ثم سليمان ، ثم يزيد ، ثم هشام ، وتخلل بين سليمان ويزيد : عمر بن عبد العزيز ، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين ، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، اجتمع الناس عليه ، لمَّا مات عمه هشام .

" فتح الباري " ( 13 / 214 ) .

وقد عدَّ كثير من العلماء عمرَ بن عبد العزيز رحمه الله من مجددي هذا الدين .

عنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا ) .

رواه أبو داود ( 4291 ) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .

قال ابن كثير – رحمه الله - :

فقال جماعة من أهل العلم ، منهم أحمد بن حنبل - فيما ذكره ابن الجوزي وغيره - : إن عمر بن عبد العزيز كان على رأس المائة الأولى ، وإن كان هو أولى مَن دخل في ذلك ، وأحق ؛ لإمامته ، وعموم ولايته ، وقيامه ، واجتهاده في تنفيذ الحق ، فقد كانت سيرته شبيهة بسيرة عمر بن الخطاب ، وكان كثيراً ما تشبَّه به .

" البداية والنهاية " ( 9 / 232 ) .

كان عمر بن الخطاب يقول إما بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم له ، أو برؤيا في منامه : إنه سيلي من ذريته رجل يعدل بين الناس , وكان يقول : إن من ولدي رجلاً بوجهه شين يلي يملأ الأرض عدلاً .

قال ابن كثير رحمه الله :

وكان نافع مولى ابن عمر يقول : " لا أحسبه إلا عمر بن عبد العزيز " , وقد روي ذلك عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب نحواً من هذا ، وقد كان هذا الأمر مشهوراً قبل ولايته ، وميلاده ، بالكلية ، أنه يلي رجل من بني أمية يقال له : " أشج بني مروان " ، وكانت أمه ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب .

" البداية والنهاية " ( 6 / 268 ) .

سيرة عمر بن عبد العزيز

أما سيرته رحمه الله تعالى : فقد كانت مثالاً عظيماً ، ومضرباً للمثل ، في عدله ، وزهده ، وحُسن خلقه , وهذه مقتطفات من سيرته نختارها من كتاب " البداية والنهاية " لابن كثير رحمه الله ( 9 / 217 ) فما فوقها .

1. هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، أبو حفص ، القرشي ، الأموي ، المعروف ، أمير المؤمنين ، وأمه أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، ويقال له " أشج بني مروان " .

2. وكان حكَماً ، مقسطاً ، وإماماً عادلاً ، وورعاً ديِّناً ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، رحمه الله تعالى .

3. قال الزبير بن بكار : حدثني العتبي قال : إن أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز : حرصه على العلم ، ورغبته في الأدب ، إن أباه ولي مصر وهو حديث السن يشك في بلوغه ، فأراد أبوه إخراجه معه إلى مصر من الشام ، فقال : يا أبتِ أو غير ذلك لعله يكون أنفع لي ولك ؟ قال : وما هو ؟ قال : ترحلني إلى المدينة فأقعد إلى فقهائها ، وأتأدب بآدابهم ، فعند ذلك أرسله أبوه إلى المدينة ، وأرسل معه الخدام ، فقعد مع مشايخ قريش ، وتجنب شبابهم ، وما زال دأبه حتى اشتهر ذكره . .

4. وثبت من غير وجه عن أنس بن مالك قال : ما صليتُ وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى - يعني : عمر بن عبد العزيز - حين كان على المدينة .

قالوا : وكان يتم الركوع والسجود ، ويخفف القيام والقعود ، وفي رواية صحيحة : أنه كان يسبح في الركوع والسجود عشراً عشراً ، وقال ابن وهب : حدثني الليث عن أبي النضر المديني قال : رأيت سليمان بن يسار خارجاً من عند عمر بن عبد العزيز ، فقلت له : مِن عند عمر خرجت ؟ قال : نعم ! قلت : تُعلِّمونه ؟ قال : نعم ، فقلت : هو والله أعلمُكم .

5. قال ابن كثير : وقد كان في هذه المدة من أحسن الناس معاشرة ، وأعدلهم سيرة ، كان إذا وقع له أمر مشكل : جمع فقهاء المدينة عليه ، وقد عين عشرة منهم ، وكان لا يقطع أمراً بدونهم ، أو من حضر منهم ، وهم عروة ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وأبو بكر بن سليمان بن خيثمة ، وسليمان بن يسار ، والقاسم بن محمد بن حزم ، وسالم بن عبد الله ، وعبد الله بن عامر بن ربيعة ، وخارجة بن زيد بن ثابت .

وكان لا يخرج عن قول سعيد بن المسيب .

6. وقد ظهرت عليه مخايل الورع ، والدِّين ، والتقشف ، والصيانة ، والنزاهة ، من أول حركة بدت منه ، حيث أعرض عن ركوب مراكب الخلافة ، وهي الخيول الحسان الجياد المعدة لها ، والاجتزاء بمركوبه الذي كان يركبه ، وسكنى منزله رغبة عن منزل الخلافة ، ويقال : إنه خطب الناس فقال في خطبته : أيها الناس ، إن لي نفساً تواقة لا تُعطَى شيئا إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه ، وإني لما أعطيت الخلافة تاقت نفسي إلى ما هو أعلى منها ، وهي الجنة ، فأعينوني عليها ، يرحمكم الله .

7. لمَّا استُخلف عمر بن عبد العزيز : قام في الناس ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ! إنه لا كتاب بعد القرآن ، ولا نبي بعد محمد عليه السلام ، وإني لست بقاضٍ ولكني منفِّذ ، وإني لست بمبتدع ولكني متبع ، إن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بظالم ، ألا إن الإمام الظالم هو العاصي ، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عز وجل .

وفي رواية أنه قال فيها : وإني لست بخير من أحد منكم ، ولكنني أثقلكم حِملاً ، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الله ، ألا هل أَسْمعتُ ؟ .

8. وقد اجتهد رحمه الله في مدة ولايته - مع قصرها - حتى رد المظالم ، وصرف إلى كل ذي حق حقه ، وكان مناديه في كل يوم ينادي : أين الغارمون ؟ أين الناكحون ؟ أين المساكين ؟ أين اليتامى ؟ حتى أغنى كلاًّ من هؤلاء .

9. قالت زوجته فاطمة : دخلتُ يوماً عليه وهو جالس في مصلاه واضعاً خدَّه على يده ، ودموعه تسيل على خديه ، فقلت : مالك ؟ فقال : ويحك يا فاطمة ، قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع ، والمريض الضائع ، والعاري المجهود ، واليتيم المكسور ، والأرملة الوحيدة ، والمظلوم المقهور ، والغريب والأسير ، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير ، والمال القليل ، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد ، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة ، وأن خصمي دونهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته ، فرحمتُ نفسي ، فبكيت .

10. قال مالك بن دينار : يقولون مالك زاهد ، أي زهد عندي ؟ إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز ، أتته الدنيا فاغرة فاها ، فتركها جملة .

قالوا : ولم يكن له سوى قميص واحد ، فكان إذا غسلوه جلس في المنزل حتى ييبس ، وقد وقف مرة على راهب فقال له : ويحك عظني ، فقال له : عليك بقول الشاعر :

تجرد من الدنيا فإنك إنما * خرجتَ إلى الدنيا وأنت مجرد

قال : وكان يعجبه ، ويكرره ، وعمل به حق العمل .

قالوا : ودخل على امرأته يوما فسألها أن تقرضه درهماً ، أو فلوساً يشتري له بها عِنَباً ، فلم يجد عندها شيئاً ، فقالت له : أنت أمير المؤمنين وليس في خزانتك ما تشتري به عنباً ؟ فقال : هذا أيسر من معالجة الأغلال ، والأنكال ، غداً ، في نار جهنم .

11. وقالت امرأته فاطمة : ما رأيتُ أحدا أكثر صلاة وصياما منه، ولا أحد أشد فرقا من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه ، ثم ينتبه ، فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه ، قالت : ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور في الماء ، ويجلس يبكي ، فأطرح عليه اللحاف رحمة له ، وأنا أقول : يا ليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين ، فوالله ما رأينا سروراً منذ دخلنا فيها .

وقال علي بن زيد : ما رأيت رجلين كأن النار لم تخلق إلا لهما مثل الحسن وعمر بن عبد العزيز .

12. في 25 رجب سنة 101 من الهجرة : توفي عمر بن عبد العزيز بـ " دير سمعان " ، وكانت مدة خلافته : سنتين وخمسة أشهر ، وأربعة أيام.

فرحمه الله تعالى , وجزاه عن عدله وفعاله الحسنة خير الجزاء.
 

ذكر سبب وفاة عمر بن عبد العزيز رحمه الله​


كان سببها السل ، وقيل : سببها أن مولى له سمه في طعام أو شراب ، وأعطي على ذلك ألف دينار ، فحصل له بسبب ذلك مرض ، فأخبر أنه مسموم ، فقال : لقد علمت يوم سقيت السم . ثم استدعى مولاه الذي سقاه ، فقال له : [ ص: 715 ] ويحك ، ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : ألف دينار أعطيتها . فقال : هاتها . فأحضرها فوضعها في بيت المال ، ثم قال له : اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك .

ثم قيل لعمر : تدارك نفسك . فقال : والله لو أن شفائي أن أمسح شحمة أذني ، أو أوتى بطيب فأشمه ما فعلت . فقيل له : هؤلاء بنوك وكانوا اثني عشر ألا توصي لهم بشيء ; فإنهم فقراء ؟ فقال " إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين [ الأعراف : 196 ] والله لا أعطيهم حق أحد ، وهم بين رجلين ; إما صالح فالله يتولى الصالحين ، وإما غير صالح فما كنت لأعينه على فسقه وفي رواية : فلا أبالي في أي واد هلك . وفي رواية : أفأدع له ما يستعين به على معصية الله ، فأكون شريكه فيما يعمل بعد الموت ؟ ما كنت لأفعل .

ثم استدعى بأولاده فودعهم وعزاهم بهذا ، وأوصاهم بهذا الكلام ، ثم قال : انصرفوا عصمكم الله ، وأحسن الخلافة عليكم . قال : فلقد رأينا بعض أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على ثمانين فرسا في سبيل الله ، وكان بعض أولاد سليمان بن عبد الملك مع كثرة ما ترك لهم من الأموال يتعاطى ويسأل من أولاد عمر بن عبد العزيز لأن عمر وكل ولده إلى الله عز وجل ، وسليمان وغيره إنما يكلون أولادهم إلى ما يدعون لهم من الأموال الفانية ، فيضيعون وتذهب أموالهم في شهوات أولادهم .

[ ص: 716 ] وقال يعقوب بن سفيان : ثنا أبو النعمان ، ثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، قال : قيل لعمر بن عبد العزيز : يا أمير المؤمنين ، لو أتيت المدينة فإن قضى الله موتا دفنت في القبر الرابع مع رسول صلى اله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر . فقال : والله لأن يعذبنا الله بكل عذاب ، إلا النار فإنه لا صبر لي عليها أحب إلي من أن يعلم الله من قلبي أني لذلك الموضع أهل .

قالوا : وكان مرضه بدير سمعان من قرى حمص وكانت مدة مرضه عشرين يوما .

ولما احتضر قال : أجلسوني ، فأجلسوه ، فقال : إلهي ، أنا الذي أمرتني فقصرت ، ونهيتني فعصيت ثلاثا ولكن لا إله إلا الله ، ثم رفع رأسه فأحد النظر ، فقالوا : إنك لتنظر نظرا شديدا يا أمير المؤمنين فقال : إني لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جان ، ثم قبض من ساعته .

وفي رواية أنه قال لأهله : اخرجوا عني ، فخرجوا وجلس على الباب مسلمة بن عبد الملك وأخته فاطمة ، فسمعوه يقول : مرحبا بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان ، ثم قرأ "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين " [ القصص : 83 ] ثم هدأ الصوت ، فدخلوا عليه فوجدوه قد غمض ، وسوي إلى القبلة ، وقبض .

وقال أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الملك بن عبد العزيز ، عن الدراوردي ، [ ص: 717 ] عن عبد العزيز بن أبي سلمة ، أن عمر بن عبد العزيز لما وضع عند قبره هبت ريح شديدة ، فسقطت صحيفة بأحسن كتاب فقرءوها فإذا فيها : بسم الله الرحمن الرحيم ، براءة من الله لعمر بن عبد العزيز من النار . فأدخلوها بين أكفانه ، ودفنوها معه . وروي نحو هذا من وجه آخر .

وروى ابن عساكر في ترجمة عبد الصمد بن إسماعيل بسنده ، عن عمير بن الحباب السلمي ، قال : أسرت أنا وثمانية في زمن بني أمية ، فأمر ملك الروم بضرب رقابنا ، فقتل أصحابي ، وشفع في بطريق من بطارقة الملك ، فأطلقني له ، فأخذني إلى منزله ، وإذا له ابنة مثل الشمس ، فعرضها علي ، وعلى أن يقاسمني نعمته ، وأدخل معه في دينه ، فأبيت ، وخلت بي ابنته فعرضت نفسها علي فامتنعت ، فقالت : ما يمنعك من ذلك ؟ فقلت : يمنعني ديني ، فلا أترك ديني لامرأة ولا لشيء . فقالت : تريد الذهاب إلى بلادك ؟ قلت : نعم . فقالت : سر على هذا النجم بالليل ، واكمن بالنهار ; فإنه يلقيك إلى بلادك . قال : فسرت كذلك .

قال : فبينا أنا في اليوم الرابع مكمن ، وإذا بخيل مقبلة فخشيت أن تكون في طلبي ; فإذا أنا بأصحابي الذين قتلوا ، ومعهم آخرون على دواب شهب ، فقالوا : عمير ؟ فقلت : عمير ، فقلت : أوليس قد قتلتم ؟ قالوا : بلى ، ولكن الله ، عز وجل ، نشر الشهداء ، وأذن لهم أن يشهدوا جنازة عمر بن عبد العزيز قال : ثم قال لي بعضهم : ناولني يدك يا عمير ، فأردفني ، فسرنا يسيرا ، ثم قذف بي قذفة وقعت قرب منزلي بالجزيرة ، من غير [ ص: 718 ] أن يكون لحقني شر .

وقال رجاء بن حيوة كان عمر بن عبد العزيز قد أوصى إلي أن أغسله وأكفنه ، وأدفنه فإذا حللت عقدة الكفن ، أن أنظر في وجهه ، قال : فلما فعلت ذلك إذا وجهه كالقراطيس بياضا ، وكان قد أخبرني أنه دفن ثلاثة من الخلفاء فيحل عن وجوههم فإذا هي مسودة .

وروى ابن عساكر في ترجمة يوسف بن ماهك قال : بينما نحن نسوي التراب على قبر عمر بن عبد العزيز إذ سقط علينا من السماء كتاب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار . ساقه من طريق إبراهيم بن بشار ، عن عباد بن عمرو ، عن محمد بن يزيد البصري ، عن يوسف بن ماهك فذكره ، وفيه غرابة شديدة . والله أعلم . وقد رئيت له منامات صالحة ، وتأسف عليه الخاصة والعامة ، لا سيما العلماء والزهاد والعباد . ورثاه الشعراء ; فمن ذلك ما أنشده أبو عمرو الشيباني لكثير عزة يرثي عمر بن عبد العزيز


عمت صنائعه فعم هلاكه فالناس فيه كلهم مأجور والناس مأتمهم عليه واحد
في كل دار رنة وزفير يثني عليك لسان من لم توله
خيرا لأنك بالثناء جدير ردت صنائعه عليه حياته
فكأنه من نشرها منشور​

[ ص: 719 ] وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز ، رحمه الله تعالى


ينعى النعاة أمير المؤمنين لنا يا خير من حج بيت الله واعتمرا
حملت أمرا عظيما فاضطلعت به وقمت فيه بأمر الله يا عمرا
الشمس كاسفة ليست بطالعة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا​
وقال محارب بن دثار رحمه الله يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى :


لو أعظم الموت خلقا أن يواقعه لعدله لم يصبك الموت يا عمر
كم من شريعة عدل قد نعشت لهم كادت تموت وأخرى منك تنتظر
يا لهف نفسي ولهف الواجدين معي على العدول التي تغتالها الحفر
ثلاثة ما رأت عيني لهم شبها تضم أعظمهم في المسجد الحفر
وأنت تتبعهم لم تأل مجتهدا سقيا لها سنن بالحق تفتقر
لو كنت أملك والأقدار غالبة تأتي رواحا وتبيانا وتبتكر
صرفت عن عمر الخيرات مصرعه بدير سمعان لكن يغلب القدر​
قالوا : وكانت وفاته بدير سمعان من أرض حمص يوم الخميس ، وقيل : [ ص: 720 ] الجمعة لخمس مضين . وقيل : بقين من رجب وقيل : لعشر بقين من رجب سنة إحدى - وقيل : ثنتين - ومائة والله أعلم .

وقال الهيثم بن عدي : توفي في جمادى سنة ثنتين ومائة . وصلى عليه ابن عمه مسلمة بن عبد الملك وقيل : صلى عليه يزيد بن عبد الملك وقيل : ابنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز . وكان عمره يوم مات تسعا وثلاثين سنة وأشهرا ، وقيل : إنه جاوز الأربعين بأشهر . وقيل : بسنة وقيل : بأكثر وقيل : إنه عاش ثلاثا وثلاثين سنة . وقيل : ستا وثلاثين . وقيل : سبعا وثلاثين وقيل : ثمان وثلاثين سنة وقيل : ما بين الثلاثين إلى الأربعين ولم يبلغها .

وقال أحمد بن عبد الرزاق عن معمر : مات عمر على رأس خمس وأربعين سنة . قال ابن عساكر : وهذا وهم ، والصحيح الأول ، يعني تسعا وثلاثين سنة وأشهرا . وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام وقيل : وأربعة عشر يوما وقيل : سنتان ونصف .

وكان - رحمه الله - أسمر دقيق الوجه حسنه ، نحيف الجسم حسن اللحية ، غائر العينين ، بجبهته أثر شجة ، وكان قد شاب وخضب ، رحمه الله ، والله سبحانه أعلم
 
بعض من حكم عمر بن عبد العزيز تغمده الله بواسع رحمته

هو عمر بن عبد العزيز الأموي القرشي كنيته أبو حفص وهو ثامن الخلفاء الأمويين، لقب بخامس الخلفاء الراشدين، وجده الخليفة عمر بن الخطاب، وعمه الخليفة عبد الملك بن مروان وزوجته فاطمة بنت عبد الملك بن مروان، تلقى علومه وأصول الدين على يد صالح بن كيسان في المدينة المنورة، وله العديد من الحكم والقصص ذات العبر، وفيما يأتي ذكر لبعضها:

حكم عن الأخلاق

فيما يأتي حكم عن الأخلاق تُنسب لعمر بن عبد العزيز: دخل جرير بن عثمان الرحبي مع أبيه على عمر بن عبد العزيز فسأله عن حال أبيه ثم قال له، علمه الفقه الأكبر قال، وما الفقه الأكبر؟ قال القناعة وكف الأذى.

قد أفلح مَنْ عُصم من المراء والغضب والطمع.

مَنْ عَدَّ كلامه مِنْ عمله قَلَّ كلامُه.

حكم دينية

فيما يأتي حكم دينية تُنسب لعمر بن عبد العزيز:

أوصيك بتقوى الله الذي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل .

اجتنبوا الاشتغال عند حضرة الصلاة، فمن أضاعها فهو لما سواها من شعائر الإسلام أشد تضييعا.

قال له رجل أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله وإيثاره تخف عنك المؤونة وتحسن لك من الله المعونة.

أكثر من ذكر الموت، فإن كنت في ضيق من العيش وسّعه عليك.

أيها الناس أصلحوا أسراركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا دنياكم.

حكم عن العدل

فيما يأتي حكم عن العدل تُنسب لعمر بن عبد العزيز: لا ينبغي للرجل أن يكون قاضياً حتى تكون فيه خمس خصال، يكون عالماً قبل أن يستعمل، مستشيراً لأهل العلم، ملقياً للرفع، منصفاً للخصم، مقتديا بالأئمة.

انثروا القمح على رؤوس الجبال ؛ لكي لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين.

كتب أحد الولاة للخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يطلب مالاً كثيراً ليبني سوراً حول عاصمة الولاية، فأجابه عمر، ماذا تنفع الأسوار؟ حصنها بالعدل ونقي طرقها من الظلم.

حكم عن الصحبة

فيما يأتي حكم عن الصحبة تُنسب لعمر بن عبد العزيز: قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى- : من أراد أن يَصحبَنا فلْيَصحبْنا بِخمسٍ: يُوصل إلينا حاجة مَن لا تصل إلينا حاجته، ويدلّنا على العدل إلى ما لا نَهتدي إليه ، ويكون عوناً لنا على الحق، ويؤدي الأمانة إلينا وإلى الناس، ولا يغتاب عندنا أحداً، ثم قال: ومَن لم يفعلْ فهو في حرجٍ من صُحبتنا والدخول علينا، إني لست بخيركم، ولكني رجل منكم غير أنّ الله جعلني أثقَلكم حِملاً.

لا تصاحب الفجار فتتعلم من فجورهم، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلّا الأمين، ولا أمين إلّا من خشي ربه، وتخشع عند القبور، وذل عند الطاعة، واستعصم عند المعصية، واستشر الذين يخشون الله.

قال لعمر بن حفص: إذا سمعت كلمة من امرئ مسلم فلا تحملها على شيء من الشر ما وجدت لها محملاً من الخير
 
عودة
أعلى