في كتاب "مرآة الحرمين" يصف إبراهيم رفعت أحوال الأمن في مكة المكرمة في مطلع القرن العشرين بصورة تكشف حجم الخلل والضرر والمأساة التي كانت تُصيب الحُجاج والمعتمرين، فمن يريد زيارة جبل النور وهو جبل قريب من المسجد الحرام الذي يُوجد به غار حراء، كان عليه أن يحمل معه الماء الكافي، وأن يكون الحجّاج على شكل جماعات يحملون السلاح حتى يدافعوا عن أنفسهم من اللصوص الذين يتربّصون بهم لسلب أمتعتهم، ومن الصور البشعة التي ذكرها في كتابه أنه بلغه أن أعرابياً قتل حاجّاً فلم يجد معه غير ريال واحد فقيل له: تقتله من أجل ريال؟ فقال وهو يضحك: الريال أحسن منه
[1]!
كانت تبدو على خلفية مشاهد الفرحة الغامرة على الحجاج قديما، مشاعر من الخوف والقلق من المجهول، بل من المخاطر التي جعلت الذاهبين إلى الحج في تلك الأزمنة القديمة يُقال في شأنهم: الذاهب مفقود والعائد مولود. كان على الحاج أن يودّع أهله، ويكتب وصيته، فلربما لن يعود إليهم، ولن يعرفوا مثواه!
على الرغم من ذلك المجهول في طريق الحج ذهابا وإيابا، فقد امتثل المسلمون في طوال التاريخ الإسلامي نداء الله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]. فمن تلك الفجاج البعيدة في أقاصي الأرض من مشرقها ومغربها يحج المسلمون منذ شُرع الحج في العام التاسع من الهجرة، ومنذ حجة النبي صلى الله عليه وسلم التي عُرفت باسم حجة الوداع وإلى اليوم يفعلون، وفي سبيل ذلك واجهوا – لا سيما في عصور ما قبل الدولة الحديثة – ما لم نكن نتخيله في يومنا هذا لولا تواتره في التاريخ!
الحاجّ رهينة لحمّاله!
حين لا تملك وسيلة مواصلاتك في ذلك الزمن الغابر إلى الحج فأنت في غالب الأحيان تقع تحت رحمة الحمّالين والجمّالين، وكان الأغلب الأعم منهم يستغل موسم الحج في زيادة مضاعفة أرباحه للكساد وقلة الأرباح التي كان يواجهها بقية العام، ولأجل ذلك كان الحُجّاج يُعانون معهم أيما معاناة!
تلك المعاناة التي دوّنها عدد من الرحّالة الأقدمين، منهم الأندلسي ابن جبير البلنسي الذي جاء حاجًا في زمن صلاح الدين الأيوبي سنة 579هـ/1183م، ورأى بنفسه ما كان يلقاه الحجاج من سكان ميناء عيذاب وهم من البجاة السودان، ساكني الجبال، فيستأجر الحجاج منهم الجمال، ويسلكون بهم الصحراء المصرية الشرقية القاحلة، فيصبح الحاج معهم كالأسير!
يقول:" فربما ذهب أكثرهم عطشًا وحصلوا (أي الجمّالين) على ما يُخلّفه من نفقه أو سواها" بل إن الذين يؤثرون أن يعبروا الصحراء الشرقية للوصل إلى ميناء عيذاب على الحدود المصرية السودانية اليوم، كانوا يصلون في صورة مروّعة من الجوع والعطش، بل يصف ابن جبير بعضهم "كأنه منَشر من كفن، شاهدنا منهم مُدّة مقامنا أقوامًا قد وصلوا على هذه الصفة في مناظرهم المستحيلة، وهيئاتهم المتغيرة آيةً للمتوسّمين"
[2].
لم تقف معاناة الحجاج في العصر الوسيط عند ذلك الحد من قسوة الحمّالين وغلظتهم، وإنما كان البحر مهلكة كما البر، وكما كان البُجاة السودان المتحكمون في رقاب حجاج مصر والمغرب في الصحراء، كان أصحاب المراكب والسفن في ميناء عيذاب منهم أيضا يتحكمون به في رقاب الحجيج في البحر، فقد كانوا يكدسونهم في المراكب تكديسا طلبا للربح السريع والوفير على حساب أرواح هؤلاء البؤساء.
يقول ابن جبير في ذلك: "ولأهل عيذاب في الحُجّاج أحكام الطواغيت، وذلك أنهم يشحنون بهم الجلاب (المراكب) حتى يجلس بعضهم على بعض وتعود بهم كأنها أقفاص الدجاج المملوءة، يحمل أهلها على ذلك الحرص والرغبة في الكراء حتى يستوفي صاحب الجلبة منهم ثمنها في طريق واحدة"
[3].
فوق ذلك، وحينما يمر الحجاج إلى العدوة الأخرى من البحر الأحمر، كانت السلطات في مكة وحتى زمن السلطان صلاح الدين الأيوبي تفرض على الحجّاج القادمين من المغرب خاصة ضريبة مرهقة، ومن لم يكن يدفع هذه الفريضة لم يكن يُسمح له بالمرور والحج، يقول أبو شامة في تاريخه: " كان الرسم بمكة أن يؤخذ من حجاج المغرب على عدد الرؤوس، بما ينسب إلى الضرائب والمكوس، ومن دخل منهم ولم يفعل ذلك حُبس (مُنع) حتى يفوته الوقوف بعرفة، ولو كان فقيرا لا يملك شيئا".
وبعد معاناة استمرت عشرات السنوات بفرض هذه الضريبة على الحجاج، ومعاناة الفقراء منهم "رأى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إسقاط ذلك، ويعوض عنه أمير مكة، فقرّر معه أن يحمل إليه في كل عام مبلغ ثمانية آلاف أردب قمح إلى ساحل جدة، ووقف على ذلك وقوفا، وخلّد بها إلى قيام الساعة معروفا، فانبسط لذلك النفوس، وزاد السرور، وزال البؤس، وصار يرسل أيضا للمجاورين بالحرمين من الفقهاء والشرفاء"