معركة موسكو.. يوم حرق الكرملين

صبيان نجد

التحالف يجمعنا
طاقم الإدارة
مشرف
إنضم
29/9/21
المشاركات
4,226
التفاعلات
11,622
رغم أنَّ الدولة العثمانيَّة مرَّت بحالة من الضَّعف بعد وفاة سلطانها الأبرز "سليمان القانوني" وتولِّي السلطان "سليم الثاني" خلفًا لأبيه (974 هـ)، فإنَّ التاريخ يحفظ لهذا السلطان العثماني محاولته الحفاظ على مَجْد الخِلافة العثمانيَّة في قلب أوروبا بالاعتماد على كِبار رجال دولة أبيه، وعلى رأسهم الوزير والمجاهد الفذُّ "محمد باشا الصقلِّي"، ورغم ما خطَّته كتبُ التاريخ من الصِّفات السلبيَّة للسلطان سليم الثاني وتخلُّصه من كافَّة منافسيه في سبيل الوصول لعرش الخلافة، إلاَّ أنَّ يوم دخول جيش القرم التابع للدَّولة العثمانيَّة العاصمةَ "موسكو"، وفتحها وقهر جيشها - لهو يوم يعدُّ من أيام الماضي الجميل للدَّولة العثمانية، "غول" أوروبا في ذلك الوقت.

وقد تمَّ هذا الفتح في الرابع والعشرين من شهر مايو لعام ألف وخمسمائة وواحد وسبعين؛ حيث اشتكى حكَّامُ خوارزم والقرم من مضايقات الرُّوس للحُجَّاج والتجَّار المسلمين بعد استيلائهم على "أستراخان"، ومهاجمة قوافلهم التجاريَّة، إلى جانب أنَّ الروس طمعوا في التوسُّع على حساب المناطق الإسلاميَّة بعد وفاة السلطان "سليمان القانوني" استغلالاً لقلَّة خبرة السلطان سليم الثاني في إدارة أمور الدولة.

وهنا أرسل السلطان "سليم الثاني" لحاكم منطقة القرم الإسلاميَّة التي كانت تعدُّ من أملاك الخلافة العثمانيَّة في ذلك الوقت - وكان موقعها جنوب أوكرانيا؛ حيث كان يقع تحت سلطانها كثير من بلدان التَّتر حتى حدود روسيا - حيث طلب منه سرعة تأديبِ الروس واحتلال عاصمتهم موسكو، وكان حكَّام الدولة العثمانيَّة يعتبرون روسيا دولةً من الدرجة الثانية، لا يُؤبَه لها ولا لخطرها، وكانوا يوالونها بحملات التأديب والإغارة على حدودها دون أيِّ مقاومةٍ تُذكر من جانب الجيش الروسي.

وقد لبَّى خان دولة القرم "دولت كيراي" الدعوةَ، وسار في ربيع عام 1571م بجيشٍ مكوَّن من مائة وعشرين ألف فارس أكثرهم من القرم، وقِسم منه من الجنود العثمانيين، مستصحبًا معه سريَّة مدفعيَّة عثمانيَّة، واتَّجه مباشرة إلى موسكو؛ حيث قام بالالتفاف حول التحصينات الدفاعيَّة في "سريوخوف" ومباغتةِ قوات خفر الحدود الروسية الذين أُبيدوا بالكامل، وسرعان ما تشتَّت شملُ الجيش الروسي إلى داخل المدينة الذين بُوغتوا بالهجوم، ولم يستطيعوا الصمود أمام نيران المدفعية العثمانية؛ حيث خسر في محاولة صدِّ الهجوم العثماني القوي أكثر من 8000 جندي روسي، والذي لم يتمكَّن بقيَّته من الدِّفاع عن موسكو؛ حيث قاموا بالفرار في مشهدٍ مُزرٍ، وطاردهم الجيشُ الإسلامي الذي قام بِحَرق حاميات الجند الروس ومعسكراتهم.

وكان حظُّ الروس العَثر أن هبَّت ريح قويَّة نشرت النيرانَ في معظم أنحاء موسكو، ممَّا دفع سكان المدينة للهرب إلى البوابة الشماليَّة للعاصمة، وعند البوابة وفي الشوارع الضيقة حدث حَشر كبير من جانب الروس وتدافُع وقتال، حتى إنَّ الناس تدافعوا في ثلاث طبقات فوق رؤوس بعضهم البعض، الأعلى يدوس على مَن هم تحته، كما لجأ بعضُ الروس إلى الكنائس المبنيَّة بالحجر لينجوا من النيران، إلاَّ أنَّ الكنائس الحجريَّة انهارَت إمَّا من شدَّة النيران أو من تَزاحم الناس فيها، وقِسْم من الروس قفزوا إلى نهر موسكو للهرب ولكن أغلبهم غَرق، كما انفجر مستودَع الذخيرة في "سراي الكرملين" كما كان يطلق عليه وقتذاك، ممَّا أدَّى إلى اختناق المختبئين في قَبوه، واحتراقه بالكامل في مشهدٍ مفزع.

وقد قام قيصر روسيا في ذلك الوقت (إيفان الرابع) الملقَّب بإيفان الرهيب بالهرب من وجه الجيش العثماني، تاركًا وراءه 30 ألف فارس و6 آلاف من المشاة من حملة البنادِق الذين لاقوا القتلَ والحرق، إضافةً إلى مقتل أخوي زوجة القيصر الاثنين.

يصف "هاينريش فون شتادين" - وهو ألماني كان في خدمة البوليس السرِّي لإيفان الرهيب - حريقَ موسكو في ذلك الوقت مع هجوم الجيش العثماني بقوله: "المدينة، القصر، قصر أوبريشنينا، والضواحي احترقَت بالكامل في ستِّ ساعات، كانت الطامَّة الكبرى أن لا أحد يستطيع الهرب، فرَّ الناس إلى الكنائس الحجريَّة هربًا من النِّيران، ولكن انهارَت الكنائس الحجريَّة عليهم (إمَّا من شدَّة النار أو ضغط الحشود)، النَّاس أيضًا قفزوا في نهر موسكو؛ حيث غرق الكثيرون، انفجرَت ذخيرة المدافع في الكرملين وأولئك الذين اختبؤوا في القبو ماتوا اختناقًا، وبعد انتهاء الحريق وخروج القوَّات الغازية أمر القيصر بالجثَث في الشوارع أن تُلقى في النهر، الذي فاض على ضفَّتيه وأغرق أجزاء من المدينة".

وكتب "جيروم هورسيي" يصف ما حدث بأنَّ "الأمر استغرق أكثر من عامٍ لإزالة جميع الجثث".

وإلى جانب الكرملين الذي احترق بالكامل، دمر قصر أوبريشنينا أيضًا.

ويقدِّر المؤرخون عدد ضحايا الحريق من عشرة آلاف إلى ثمانين ألف نسمة، ووصف الأجانب الذين كانوا يزورون المدينة قبل وبعد الحريق انخفاضًا ملحوظًا في عدد سكان المدينة، والقيصر "إيفان الرهيب" تجنَّب المدينة لعدَّة سنوات بعد الحريق؛ نظرًا لعدم وجود سكنٍ مناسب له ولحاشيته.

وجاء في كتاب "تاريخ الدولة العثمانية"؛ لمؤلِّفه "يلماز أوزتونا" يصف نتائج هذه المعركة: "دخل الأتراكُ موسكو وأحرقوا المدينة، عاد الخان إلى قرم مع 150 ألف أسير، وعلى إثر انتصاره حصل على لقب "تخت - آلان" (كاسب العرش)، وأحرق الأتراكُ الذين دخلوا منتصرين موسكو حتى سراي الكرملين، وفرَّ معظمُ الأهالي وأسروا البقيَّة".

وقد استولى الجيشُ الإسلامي على خزانة القَيْصر الهارب وقتذاك ضمن ما استولى عليه من غنائم المدينة.

وقد بارك السلطان سليم الثاني وقتها حاكمَ القرم "دولت كيراي" على هذه الانتصارات الباهرة؛ بإرساله سيفًا مرصَّعًا وخلعة وكتابًا سلطانيًّا، فضلاً عن طرد الدِّيوان العثماني للسُّفراء الروس الذين جاؤوا لإيقاف الغزوات القرمية الإسلاميَّة.

وقد جرت محاولة ثانية لاقتحام المدينة بعدها بعام في 1572م أدَّت بإيفان الرَّهيب أن يطلب من الدولة العثمانية الصلح مع القرم وأداء الجزية؛ حيث ظلَّت روسيا تدفع ضريبةً سنوية للعثمانيِّين قدرها ستون ألف ليرة ذهبية بعد تلك الحملتين على موسكو.

وظلَّت روسيا تحسب حسابًا للعثمانيِّين بعد تلك الغزوات؛ حيث كانت تلك المعركة صَدمة كبرى للروس ولقيصرهم، ودرسًا لهم.

شبكة الالوكة
محمد ابوالفضل
 
لمزيد من المعلومات التاريخية الثمينة


@ذياب
 
مقتطفات من المقالة السابقة

"من (السلطان) أوزبك إلى أمرائنا كبيرهم وصغيرهم وغيرهم: إن كنيسة بطرس مقدّسة، فلا يحل لأحد أن يتعرّض لها أو لأحد من خدمها أو قسيسيها بسوء، ولا أن يستولي على شيء من ممتلكاتها أو متاعها أو رجالها، ولا أن يتدخل في أمورها، لأنها مقدسة كلها. ومن خالف أمرنا هذا -بالاعتداء عليها- فهو أثيم أمام الله وجزاؤه منا القتل"!!

هذا نص تاريخي ثمين نقله لنا المؤرخ البريطاني الشهير توماس أرنولد (ت 1348هـ/1930م) في كتابه ‘الدعوة إلى الإسلام‘، عازيا إصداره إلى السلطان المغولي المسلم محمد أوزبك خان (ت 742هـ/1341م) الذي كان يحكم موسكو وكييف، وضمّنه مرسوما خاطب به مطران الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في كييف.

من أجل فهم مشهد اليوم الذي يبدو غريبا وغير مألوف في تاريخ العلاقة بين روسيا وجوارها الإسلامي؛ علينا أن نعود إلى صفحات التاريخ الذي كشف لنا قصة تشابك الروس والشيشان (جاء الاسم أصلا من لفظ: ججان/ججن = تششن) ومسلمي القوقاز والقِرَم في العموم، فلقد شقت الفتوحات الإسلامية طريقها -منذ خلافة عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م)- حين أتم المسلمون فتح العراق وأجزاء من شمال إيران.

وهذه المناطق كانت خاضعة لسلطة مملكة الخزر اليهودية، و"الخزر" خليط من أعراق تركية وشركسية هاجرت من وسط آسيا منذ قرون إلى تلك المناطق، ثم دانوا باليهودية وأقاموا فيها دولة قوية للغاية حكمت الأراضي الواسعة من القرن الأول الهجري/الـ11م بجوار بحر قزوين، ومن بحيرة "وان" جنوبا إلى البحر الأسود -الذي كان يسمى "بحر بنطس"- إلى كييف عاصمة أوكرانيا، ومن بحر "آرال" -الذي كان يسمى "بحر خوارزم"- إلى المجر في وسط أوروبا.

ورغم قوة هذه المملكة وحصانتها الجغرافية؛ فقد استطاع الفاتحون اختراقها نحو سنة 22هـ/642م، ويورد ابن جرير الطبري (ت 310هـ/922م) -في تاريخه- نصَّ معاهدة الصلح التي أبرمها قائد جيش الفتح الإسلامي مع أهل أرمينية، فكان مما جاء فيها:

"بسم اللَّه الرحمن الرحيم؛ هذا ما أعطى سراقةُ بن عمرو -عاملُ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- شهربراز وسكانَ أرمينية والأرمن من الأمان؛ أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وملّتهم ألا يضاروا ولا ينتقضوا، وعلى أهل أرمينية والأبواب أن ينفروا لكل غارة، وينْفذوا لكل أمر ناب".
 
عودة
أعلى