فلسفة الفتوحات الإسلامية وأضواء على سياسة دفع الجزية في الإسلام/د. هوار بلو

  • بادئ الموضوع Nabil
  • تاريخ البدء

Nabil

التحالف يجمعنا
مستشار المنتدى
إنضم
4/5/19
المشاركات
10,868
التفاعلات
19,889
فلسفة الفتوحات الإسلامية وأضواء على سياسة دفع الجزية في الإسلام

الدكتور هوار بلو



قد يرى البعض أنّ الإسلام كان يحتل بلدان الناس بالسيف و يفرض عليهم سلطانه ، و أنّه كان ينتزع الجزية من أصحاب الديانات الاخرى بالقوة لمجرد أنّهم لا يؤمنون به .. لكن الصورة النظرية التي جاء بِها الإسلام لم تكن كذلك ، و قد اُسيء الفهم هكذا بسبب أخطاء ارتكبتها الأفراد و احتُسبت على الإسلام بعد ذلك .

إنّ شعوب الأرض في تلك الأيام كانت تعاني الظلم و تتجرع المرارة على أيدي حكّامها ، وكانت في أمسّ الحاجة الى طرف أقوى تستنجد به و تشكو إليه هوانَها لأنّ الأيام كانت قد أثبتت لها أنّ أهل هذا الدين لا يظلمون الناس و لا يجبرون أحداً على اعتناق عقيدتِهم .

إنّ الإسلام - كعقيدة - كان يستشعر المسؤولية الإلهية فلم يكن ليدخل بلداً من بلدان الناس إلاّ استجابة لدعوة ضمنية مِن أهلِها أو تلبية لواقع حالها الذي يستوجب التدخّل الطارئ ، فيزيل الفئات الطاغية المتسلّطة و يبث الحرية و الأمان .. هذه كانت الصورة النظرية التي انطلقت تحت مضامينها حروب التحرير و الفتوحات ، لكن الصورة التطبيقية تمخّضت عنها الكثير من الأخطاء و على أيدي الكثير من الفاتحين و في أزمنة متعددة ممّا أسفرت عن سوء فهم طويل الأمد لهذه الحروب .

إنّ الرحمة التي جاء بِها الإسلام و أقرّها الله له تقضي عليه أنْ لا يرى نفسه قوياً متمكناً و شعوب الأرض تعاني الظلم تحت سمعه و بصره .. و ربما لم تكن غالبية الشعوب المضطهدة تجرأ على الإفصاح بمعاناتِها و لكن واقع حالها كان ينطق بذلك ... و لذلك نجد الرسول (ص) حينما يبعث برسالة الدعوة الى عظيم الروم (هرقل) ، يقول له :
(.... فإن تولّيْت فإنّما عليك إثم الأريسين)
و الأريسين هم الخدم والخول والعبيد الذين كانوا يعانون الظلم على يدَي (هرقل) .

حينما استردّ السلطان (مراد الثاني) عام (1431م) مدينة (سلانيك) من أيدي أمراء البندقية ، جاءه وفد مِن مدينة (يانيا) يرجو المثول بين يديه ... فتعجّب السلطان مِن أمرهم حيث لم تكن ثمّة علاقة تربطهم بِهذه المدينة التي كانت تحكمها إيطاليا آنذاك ، فأمر بإدخال الوفد عليه و دار الحديث ...
السلطان : ما الذي جاء بكم الى هنا ؟ و ماذا تريدون ؟
رئيس الوفد : أيّها السلطان العظيم .. جئنا نلتمس منك عوناً فلا تخيّب آمالنا ؟
السلطان : و كيف أستطيع ذلك ؟
رئيس الوفد : مولاي .. إنّ حكامنا يظلموننا و يتعاملون معنا كالعبيد و الخدم و يغتصبون أموالنا و يسوقوننا كرهاً للحروب الطاحنة ...
السلطان : و ماذا بوسعي أنْ أفعل ؟ إنّها مشكلتكم مع حكّامكم .
رئيس الوفد : أيّها السلطان ... نحن لسنا بمسلمين بل نحن نصارى ، و لكنّنا سمعْنا عنكم الكثير .. سمعنا عن عدالتكم و أنّكم لا تظلمون الرعية و لا تجبرون أحداً على إعتناق دينكم ، فلكلّ ذي حقّّ حقّه لديكم .. و لقد سمعْنا هذا من السيّاح و التُجّار الذين زاروا مملكتكم ، لذلك نرجوا منكم أنْ تشملونا برعايتكم و عدلكم و أنْ تحكموا بلادنا من فضلكم لتنقذوننا من ظلم حكّامنا !؟
ثم قدّموا للسلطان مفتاح المدينة الذهبي .. و استجاب السلطان لرجاء أهل المدينة و فتح لهم بلادهم في نفس السنة .

ورُبّ سائل يسأل :
لو كانت الصورة النظرية للإسلام تقضي بنشر الحرية و الأمان بين الشعوب ، فلماذا خوّلت هذه الصورة السلطات الإسلامية انتزاع الجزية والضرائب من أهل الكتاب (أهل الذمة) الذين كانوا يعيشون تحت سقف الدولة الإسلامية ؟

يقول سبحانه وتعالى في القرآن الكريم : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} (التوبة) .

و الشئ الجدير بالذكر هنا ، هو أنّ هذه الجزية كان لها فقط أنْ تؤخذ من أهل الكتاب الذين يسكنون داخل إطار الوطن الإسلامي والذين اُطلق عليهم (أهل الذمة) وليس الأمر كما يُساء الفهم على أنّ الإسلام كان يغزو بلدان الناس لأنّها كانت ترفض دفع الجزية إلى المسلمين ، إذ لم تكن الجزية سبباً للفتوحات ولا دافعاً وراءها في معتقد الإسلام ... وأنّ هذه الجزية كانت بمثابة ضريبة للدفاع الوطني فالإنسان القادر على حمل السلاح و الذي يعيش تحت سقف الوطن الإسلامي عليه أنْ يؤدي خدمة الدفاع الوطني ، والرافض لتأدية هذه الخدمة هو الملزم بدفع هذه الضريبة .. ولما كان أهل الذمة هم الذين يثقل عليهم تأدية هذه الخدمة ، فانّهم بذلك كانوا ملزمين بدفع الجزية عن يدٍ وهم صاغرون .

إنّ الجزية في الوطن الإسلامي لم تكن تؤخذ إلاّ مِن الذميّ القادر على حمل السلاح ممّن جاوزت أعمارهم الخامسة عشر ، إذ لم يكن يدفعها الطفل و لا الشيخ و لا المرأة ولا ذو العاهة البادية و لا أهل الصوامع و البيع ...

يقول الكاتب (آدم متز) أستاذ اللغات الشرقية بجامعة (بازل)/ سويسرا :
( وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة للدفاع الوطني ، فكان لا يدفعها إلاّ الرجل القادر على حمل السلاح ، ولا يدفعها ذووا العاهات ولا المترهّبون وأهل الصوامع إلاّ اذا كان لهم يسار - أي غنى -)(1)

إنّ الوطن الإسلامي كان وطناً للجميع .. لا لفرد دون آخر .. والمنطق الذي فرض على المسلم أن يضحّي بحياته من أجل هذا الوطن هو نفسه المنطق الذي كلف الذمي بالمساهمة في الدفاع عن هذا الوطن والتضحية من أجله .. لأنّهم أبناء لوطن واحد ، يعيشون تحت سقفه ويأكلون من خيراته ويشربون من مياهه و يتنفسون من هوائه ويمارسون في ظله كافة حرّياتِهم .
و قد راعى الإسلام الإحساس المهزوم لهؤلاء الكتابيين وشعورهم المجروح ، فعفتْهم عن أداء هذا الواجب الوطني و ضمنت لهم فوق كل ذلك حياتَهم وأمنهم و كامل حرياتِهم مقابل ضريبة متواضعة يدفعونَها للسلطة أو دعماً للمجهود الحربية .
ويقول (آدم متز) في كتابه المذكور ص 96 : ( إنّ غالبية دافعي الجزية كانوا يدفعون الحدّ الأدنى)

و أخيراً ... فإنّ المسلمين هم ليسوا الوحيدين الذين فرضوا الضرائب على غيرهم ، فالروم كانوا يأخذون من اليهود والمجوس ديناراً في السنة ، وكذلك فرض النصارى على المسلمين الجزية لما فتحوا بلادهم (2).

عن موقع رابطة أدباء الشام


الهوامش :
(1) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري / آدم متز / ص 96
(2) نفس المصدر / ص 96
 
عودة
أعلى