كيف تستفيد تركيا من تعاظم الخلافات بين الحلفاء في الناتو والاتحاد الأوروبي؟
إسطنبول- “القدس العربي”:
على الرغم من أن تركيا عضو تاريخي في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ودولة مرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إلا أن خلافاتها المتتالية مع المعسكر الغربي وتعثر جهود انضمامها للاتحاد الأوروبي عزز مساعيها لترسيخ نفسها كقوة مستقلة “أكبر من إقليمية” باتت تتغذى في صعودها على الخلافات المتعاظمة بين الحلفاء الغربيين سواء داخل الناتو أو الاتحاد الأوروبي.
وتسعى تركيا لاستغلال التغيرات الكبيرة التي شهدها المعسكر الغربي في السنوات الأخيرة من الأزمات المتلاحقة التي عصفت بالاتحاد الأوروبي وخروج بريطانيا واحتمال خروج دول أخرى وصولاً للأزمة الأخيرة بين فرنسا وأستراليا وأمريكا على خلفية إلغاء استراليا صفقة الغواصات الفرنسية وهو ما اعتبر بمثابة بداية تغير استراتيجي في مستقبل العلاقات بين الحلفاء الغربيين.
وفي مقابل ما يراه سياسيون ومحللون أتراك بأنه ضعف وترهل وتراجع متواصل في بنية المعسكر الغربي التقليدي متمثلا في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، يؤكدون أن ذلك فتح الباب واسعاً أمام تنامي تركيا كقوة مستقلة بشكل أكبر وفتح آفاق واسعة لها للعب على وتر الخلافات الداخلية الغربية لتحقيق مصالحها القومية ويعزز فرصها لبناء تحالفات ثنائية وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية مختلفة بأبعاد استراتيجية.
يتوقع تقرير للتلفزيون الرسمي التركي أن الأزمة الكبيرة التي تفجرت قبل أيام بين فرنسا من جانب وبريطانيا وأمريكا وأستراليا من جانب آخر ربما تصب في مصلحة تركيا مستقبلاً وسوف تساهم على الأغلب في تحسين العلاقات التركية- الفرنسية بعدما شعرت باريس بخذلان كبير من قبل حلفائها التقليديين، وهو ما قدر بدفعها نحو تحسين علاقاتها مع تركيا التي تجيد اللعب على حبال الخلافات الغربية وتسخيرها لصالحها كما برز في العديد من المناسبات في السنوات الماضية.
الأزمة الكبيرة التي تفجرت قبل أيام بين فرنسا من جانب وبريطانيا وأمريكا وأستراليا من جانب آخر ربما تصب في مصلحة تركيا مستقبلاً وسوف تساهم على الأغلب في تحسين العلاقات التركية- الفرنسية
وفي هذا السياق، يقول البروفيسور آرمال غوزكامان، رئيس قسم العلاقات الدولية في جامعة بيكوز، “قد تبدو تركيا ليس لها أي علاقة بأزمة الغواصات، لكن الأمر ليس كذلك، ستلجأ فرنسا لإعادة تقييم علاقاتها مع كافة الدول المهمة في العالم”، مضيفاً: “على الرغم من أن العلاقات الفرنسية- التركية شهدت توتراً خلال السنوات الماضية إلا أنها بدأت مؤخراً تعود إلى طبيعتها، وهذا الأمر يلقى قبولاً وترحيباً من صناع القرار في باريس”.
وأضاف غوزكامان: “فرنسا التي تلقت ضربة قوية من حلفائها التقليديين الولايات المتحدة وبريطانيا ستتجه إلى تعزيز علاقاتها مع قوى إقليمية أخرى وستكون تركيا خياراً مهماً لفرنسا كونها تربطها علاقات سياسية واقتصادية جيدة يمكن البناء عليها بسهولة خلال المرحلة المقبلة”.
وكان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بمثابة فرصة كبيرة لتركيا لبناء علاقات ثنائية قوية ومباشرة مع بريطانيا في المجالات السياسية والاقتصادية وحتى الصناعات الدفاعية بعيداً عن ضغوط الاتحاد الأوروبي والقرارات الجماعية التي تستطيع دولة واحدة إيقافها، حيث كانت أي قرارات إيجابية تتعلق بتركيا يتم إعاقتها بفيتو يوناني أو قبرصي في معضلة باتت ترى تركيا أنها ستبقى لعقود تلازم العلاقة بين تركيا والاتحاد.
وفي تركيا، يرى كثير من الباحثين أن بريطانيا لن تكون آخر دولة تغادر الاتحاد الذي يتوقع أن تتصاعد داخله الكثير من الأزمات في السنوات الأخيرة، وهو ما استغلته أنقرة للتعبير عن ترفعها في المرحلة الحالية عن الانضمام والتركيز على العلاقات الثنائية مع دول الاتحاد.
كما لعبت تركيا مؤخراً على وتر العلاقات الثنائية والملفات المؤثرة التي راكمتها في يدها في السنوات الأخيرة لتشكيل حالة من الضغوط الداخلية في إطار الاتحاد الأوروبي وظهر ذلك واضحاً في تضارب مصالح فرنسا واليونان ودول أخرى كانت ترغب في فرض عقوبات كبيرة على تركيا في أزمتي قبرص وشرق المتوسط مع مصالح دول أخرى على رأسها ألمانيا التي كانت تخشى خسارة علاقاتها الثنائية مع تركيا وردود فعلها في ملف اللاجئين.
هذا التضارب بدا واضحاً بقوة أيضاً داخل أطر الناتو الذي لم تنجح فرنسا في استصدار موقف معاد لتركيا منه بعدما اتهمت سفن حربية تركية بمضايقة سفن عسكرية فرنسية قبالة ليبيا في شرق المتوسط وهو ما أغضب باريس بقوة، حيث أظهر هذا الحدث زيادة النفوذ التركي في أطر الحلف وعدم رغبة قيادته في استصدار قرارات يمكن أن تغضب تركيا وتدفعها لردود فعل لا سيما وأن أنقرة مساهم مهم في مهام الناتو بالعديد من أماكن انتشاره.
استغلت تركيا الشروط الصعبة التي تفرضها دول كبيرة في الناتو في دول شرق أوروبا بتعزيز علاقاتها مع تلك الدول وهو ما ظهر مؤخراً على شكل صفقات سلاح كبيرة وبيع طائرات مسيرة
وفي السياق ذاته، وعلى خلاف الموقف الأمريكي المتشدد من شراء تركيا منظومة اس- 400 الدفاعية الروسية وفرض عقوبات على أنقرة، فإن الأمين العام للحلف حافظ على حياده، مؤكداً أن دول الحلف لديها الحرية في اتخاذ قرار سيادي بشراء أسلحة ما، وهو توجه يظهر الخشية من رد فعل تركي قد يتمثل على شكل مزيد من التقارب مع روسيا وهو ما يتعارض مع الرؤية الاستراتيجية للحلف الذي يرى في تركيا عضوا اصيلا صاحب موقف جيوسياسي حساس لا يمكن التفريط به على الإطلاق.
وإلى جانب ذلك، استغلت تركيا الشروط الصعبة التي تفرضها دول كبيرة في الناتو في دول شرق أوروبا بتعزيز علاقاتها مع تلك الدول وهو ما ظهر مؤخراً على شكل صفقات سلاح كبيرة وبيع لطائرات بيرقدار المسيرة على حساب مزودي السلاح التقليديين في الناتو وعلى رأسهم الولايات المتحدة وفرنسا.
كما استغلت تركيا مؤخراً التناقضات الأوروبية الداخلية والأوروبية – الأمريكية في الملف الليبي، حيث نجحت أنقرة في البناء على الموقف الإيطالي المعادي لخليفة حفتر وتحييد الموقف الأمريكي لدرجة كبيرة والتفرغ لضرب حلفاء فرنسا في أوضح مشهد يظهر مدى استفادة أنقرة من أي خلافات أوروبية وغربية بشكل عام.