لادئاني
مستشار المنتدى
- إنضم
- 16/12/18
- المشاركات
- 28,254
- التفاعلات
- 77,327
بوتين زعيما للعالم المسيحي.. الأبعاد الدينية وراء الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا
محمد شعبان أيوب
17/2/2022
في مشاهد متعددة ولافتة خلال السنوات العشر الأخيرة، ظهر العديد من كبار القساوسة الأرثوذكس الروس وهم يُباركون الأسلحة الحربية والطائرات المقاتلة، الجديدة منها أو المنطلقة للقتال في جبهات مختلفة في العالم، وعلى رأسها البقعة الساخنة في الشرق الأوسط؛ سوريا. يُثير هذا المشهد تحديدا العديد من الأسئلة والإشكالات، على رأسها إمكانية تكرُّر مشاهد العصور الوسطى التي تقاتلت فيها الحضارات والأمم على أساس من الدين والعقيدة، أو شُكِّلت فيها العلاقات الدولية والحضارية على الأساس ذاته.
لكن الاستفسار الأهم يتعلَّق بهذا التحوُّل الدرامي في العقلية الإستراتيجية الروسية تحت قيادة فلاديمير بوتين في ربع القرن الأخير، واللافت أن هذا التحوُّل الذي أحدثه قائد روسيا المخابراتي ارتكز، لا على الأفكار التقليدية التي اعتمدت على تقديس "المجال الحيوي" الروسي الذي مَثَّلته تاريخيا روسيا القيصرية ثم روسيا السوفيتية ضمن بلدان القوقاز ووسط آسيا وأوروبا الشرقية والبلطيق فحسب، ولكن أيضا على رؤيته الأرثوذكسية للعالم والعلاقات الدولية بأسرها، وهي رؤية نحتاج إلى الوقوف معها بعمق وتبصُّر وفهم.
في مارس/آذار عام 2016، اقتحمت الشرطة الروسية منزل "فيكتور كراسنوف" وساقته إلى قاضي التحقيق الذي أمر بإخضاعه إلى كشف عقلي للتأكُّد من أهليته للمحاكمة بتهمة "إهانة مشاعر المؤمنين"، وهي تهمة لعلها من أغرب ما اتُّهِم به شخص في تاريخ روسيا منذ الحقبة السوفيتية، ولم يكن كراسنوف أو غيره يتوقَّعون جدية حكومتهم في تطبيقها، حتى حين أُعلِن عنها رسميا منتصف عام 2013.
رسلان سوكولوفسكيفي ذلك التوقيت أقرَّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قانونا مثيرا للجدل يُجرِّم إهانة مشاعر المتدينين بالبلاد، وينص على عقوبة السجن لمدة تصل إلى سنة إذا صدر الفعل "المُهين" خارج أماكن العبادة، وتصل إلى ثلاث سنوات إذا صدر داخل أحد هذه الأماكن. لم تُثِر قضية كراسنوف الكثير من الجدل آنذاك، ولكن موسكو كانت عازمة على المُضي قُدما في طريقها.
ففي أغسطس/آب من العام نفسه لم يأخذ مُدوِّن الفيديو "رسلان سوكولوفسكي"، البالغ من العمر 22 عاما وابن مدينة كاترينبرغ تهديدات تلفاز بلاده بجدية، والنتيجة كانت وضعه تحت الإقامة الجبرية لمدة 11 شهرا قبل أن يُحكَم عليه بالسجن لمدة عامين وثلاثة أشهر، ورغم تقديمه التماسا لتخفيف الحكم، رفض القضاء الفيدرالي الروسي قبوله.
هذا التحوُّل الجذري من الادعاء بأن "الدين أفيون الشعوب"، وإقامة المذابح الجماعية لرجال الدين من الأرثوذكس والمسلمين وغيرهم من رعايا الدولة السوفيتية الشيوعية، إلى عودة التقدير والاحترام للكنيسة ورجالاتها، والقيم الروحية التي تتأسَّس عليها الجمهورية الاتحادية الروسية اليوم، لا يعني في نظرنا مجرد التعامل البراغماتي مع الكنيسة الروسية لأهداف داخلية وخارجية فقط، بل يعني أيضا في الوقت نفسه عودة روسيا إلى البحث عن النموذج الإمبراطوري الذي ورثته عن الإمبراطورية البيزنطية القديمة، وهو نموذج يتكئ على الأرثوذكسية في النظر إلى العالم المحيط والتعاطي معه.
إشكالية سقوط القسطنطينية
---------
يرجع تاريخ العلاقة الوثيقة لموسكو مع الدين المسيحي إلى لحظة تأسيس روسيا الحديثة؛ إذ تشكَّلت النواة القومية للدولة الروسية نتيجة اتحاد عدد من القبائل السلافية بعد اعتناقها المسيحية في عهد الأمير "فلادمير سفياتوسلافيتش" عام 980م. ومنذ تلك اللحظة ظهرت في مجموعة من الدول الأوروبية المسيحية إمارة "كييف الروس"، وهي دولة ظهرت في القرون الوسطى شرق أوروبا وامتدت بين نهرَيْ "دنيستر" و"الفولجا"، وعاصمتها كييف، عاصمة أوكرانيا الحالية. ونظرا إلى أن روسيا الوليدة كانت متعددة القبائل فقد كانت العقيدة هي الأساس الذي جمع ووحَّد هذه القبائل المُتفرِّقة، وعلى هذا الأساس كان اعتناق الروس للأرثوذكسية لأسباب نفسية وجغرافية، نظرا إلى قُرب الإمبراطورية الرومانية الشرقية وعاصمتها القسطنطينية من حدود العالم الروسي.
سرعان ما أضحت الأرثوذكسية عقل وقلب ومُحرِّك الدولة الروسية في مراحلها التاريخية المختلفة منذ الإمارة ثم الدولة ثم الإمبراطورية القيصرية، وخلافا للحقبة الشيوعية التي حوربت فيها كل الأديان، فإن عودة روسيا للاعتماد على الأرثوذكسية اليوم يحتاج إلى استشراف أبعاده المستقبلية وآثاره على العلاقات الدولية والعالم الإسلامي المحيط بهذا الوحش الجغرافي الكبير المُسمى "روسيا".
يُخبرنا "ويل ديورانت"، مؤرخ الحضارات الأميركي، عن الكنيسة الروسية في زمنها الذهبي قائلا: "كانت الكنيسة هي الحاكم الحقيقي لروسيا؛ لأن خشية الله كانت سائدة في كل مكان، في حين كان سلطان إيفان (الإمبراطور إيفان الرهيب 1530-1584م) محدودا. وكانت قواعد الطقوس الدينية، إن لم تكن قواعد الفضيلة والأخلاق، تُقيِّد الجميع، حتى القيصر نفسه، وكان الكهنة يراقبون هل غسل يديه بعد مقابلته لسفراء الدول من خارج نطاق الأرثوذكسية. وكانت الصلاة وفق الطقوس الرومانية الكاثوليكية غير مُرخَّص بها، أما البروتستانتية فقد تسامحوا معها على أساس المشاركة في العداء للبابا في روما. وكان إيفان الرابع يزهو بعلمه في اللاهوت".
ربما يصدق هذا الوصف حتى على العالم الغربي اللاتيني الكاثوليكي في ذلك الزمن، وعلى "الكنيسة الكاثوليكية الكبرى في روما" التي سيطرت على الأباطرة والملوك، وشكَّلت ملامح العصور الكلاسيكية والعصور الوسطى، وأسَّست لعصر الحروب الصليبية مع العالم الإسلامي في مشرقه ومغربه، وهو ينطبق كذلك على العالم الإسلامي حيث لعبت العقيدة الإسلامية الدور الأبرز في نشر الدين وتوسُّع الدولة، وبذلك يكون الدين هو مَن لعب الدور الأبرز في تشكيل العلاقات الدولية بين العوالم الثلاثة الأرثوذكسي والكاثوليكي والإسلامي. ولهذا السبب كان لسيطرة الأتراك العثمانيين على القسطنطينية وإنهاء الدولة البيزنطية الشرقية دور جذري في تاريخ الأرثوذكسية ومسارها ومستقبلها، وأيضا في خلق معضلة في "الجغرافيا السياسية الأرثوذكسية" كما يصفها المفكر الروسي "ألكسندر دوغين".
يُخبرنا دوغين أن تشكُّل روسيا الجيوسياسي قام على أساس فريد بخلاف الأُسس التي قامت عليها الدول الأوروبية، فهي كما يقول: "ليست دولة وحيدة الإثنية، وليست دولة-أمة. فمنذ البدايات الأولى كانت صورة الدولة الإمبراطورية كامنة، بداية من توحُّد القبائل السلافية-الأوغرية-الفنلندية، وحتى في ظل الاتحاد السوفيتي، كان الشعب الروسي سائرا دون توقف نحو بناء الإمبراطورية والتوسُّع الحضاري. وتجدر الإشارة إزاء ذلك إلى أن التوسُّع الروسي حمل معنى حضاريا بالذات وأنه لم يكن على الإطلاق توسُّعا مصلحيا يُسيِّره السعي وراء المستعمرات أو الصراع المَرَضي في سبيل المجال الحيوي، فلا الافتقار إلى هذا المجال الحيوي، ولا الضرورة الاقتصادية هي ما دفع الشعب الروسي إلى توسيع حدوده شيئا فشيئا نحو الشرق والجنوب والشمال والغرب".
يرجع تاريخ العلاقة الوثيقة لموسكو مع الدين المسيحي إلى لحظة تأسيس روسيا الحديثة؛ إذ تشكَّلت النواة القومية للدولة الروسية نتيجة اتحاد عدد من القبائل السلافية بعد اعتناقها المسيحية في عهد الأمير "فلادمير سفياتوسلافيتش" عام 980م. ومنذ تلك اللحظة ظهرت في مجموعة من الدول الأوروبية المسيحية إمارة "كييف الروس"، وهي دولة ظهرت في القرون الوسطى شرق أوروبا وامتدت بين نهرَيْ "دنيستر" و"الفولجا"، وعاصمتها كييف، عاصمة أوكرانيا الحالية. ونظرا إلى أن روسيا الوليدة كانت متعددة القبائل فقد كانت العقيدة هي الأساس الذي جمع ووحَّد هذه القبائل المُتفرِّقة، وعلى هذا الأساس كان اعتناق الروس للأرثوذكسية لأسباب نفسية وجغرافية، نظرا إلى قُرب الإمبراطورية الرومانية الشرقية وعاصمتها القسطنطينية من حدود العالم الروسي.
سرعان ما أضحت الأرثوذكسية عقل وقلب ومُحرِّك الدولة الروسية في مراحلها التاريخية المختلفة منذ الإمارة ثم الدولة ثم الإمبراطورية القيصرية، وخلافا للحقبة الشيوعية التي حوربت فيها كل الأديان، فإن عودة روسيا للاعتماد على الأرثوذكسية اليوم يحتاج إلى استشراف أبعاده المستقبلية وآثاره على العلاقات الدولية والعالم الإسلامي المحيط بهذا الوحش الجغرافي الكبير المُسمى "روسيا".
يُخبرنا "ويل ديورانت"، مؤرخ الحضارات الأميركي، عن الكنيسة الروسية في زمنها الذهبي قائلا: "كانت الكنيسة هي الحاكم الحقيقي لروسيا؛ لأن خشية الله كانت سائدة في كل مكان، في حين كان سلطان إيفان (الإمبراطور إيفان الرهيب 1530-1584م) محدودا. وكانت قواعد الطقوس الدينية، إن لم تكن قواعد الفضيلة والأخلاق، تُقيِّد الجميع، حتى القيصر نفسه، وكان الكهنة يراقبون هل غسل يديه بعد مقابلته لسفراء الدول من خارج نطاق الأرثوذكسية. وكانت الصلاة وفق الطقوس الرومانية الكاثوليكية غير مُرخَّص بها، أما البروتستانتية فقد تسامحوا معها على أساس المشاركة في العداء للبابا في روما. وكان إيفان الرابع يزهو بعلمه في اللاهوت".
ربما يصدق هذا الوصف حتى على العالم الغربي اللاتيني الكاثوليكي في ذلك الزمن، وعلى "الكنيسة الكاثوليكية الكبرى في روما" التي سيطرت على الأباطرة والملوك، وشكَّلت ملامح العصور الكلاسيكية والعصور الوسطى، وأسَّست لعصر الحروب الصليبية مع العالم الإسلامي في مشرقه ومغربه، وهو ينطبق كذلك على العالم الإسلامي حيث لعبت العقيدة الإسلامية الدور الأبرز في نشر الدين وتوسُّع الدولة، وبذلك يكون الدين هو مَن لعب الدور الأبرز في تشكيل العلاقات الدولية بين العوالم الثلاثة الأرثوذكسي والكاثوليكي والإسلامي. ولهذا السبب كان لسيطرة الأتراك العثمانيين على القسطنطينية وإنهاء الدولة البيزنطية الشرقية دور جذري في تاريخ الأرثوذكسية ومسارها ومستقبلها، وأيضا في خلق معضلة في "الجغرافيا السياسية الأرثوذكسية" كما يصفها المفكر الروسي "ألكسندر دوغين".
يُخبرنا دوغين أن تشكُّل روسيا الجيوسياسي قام على أساس فريد بخلاف الأُسس التي قامت عليها الدول الأوروبية، فهي كما يقول: "ليست دولة وحيدة الإثنية، وليست دولة-أمة. فمنذ البدايات الأولى كانت صورة الدولة الإمبراطورية كامنة، بداية من توحُّد القبائل السلافية-الأوغرية-الفنلندية، وحتى في ظل الاتحاد السوفيتي، كان الشعب الروسي سائرا دون توقف نحو بناء الإمبراطورية والتوسُّع الحضاري. وتجدر الإشارة إزاء ذلك إلى أن التوسُّع الروسي حمل معنى حضاريا بالذات وأنه لم يكن على الإطلاق توسُّعا مصلحيا يُسيِّره السعي وراء المستعمرات أو الصراع المَرَضي في سبيل المجال الحيوي، فلا الافتقار إلى هذا المجال الحيوي، ولا الضرورة الاقتصادية هي ما دفع الشعب الروسي إلى توسيع حدوده شيئا فشيئا نحو الشرق والجنوب والشمال والغرب".
موسكو.. "روما الثالثة" وريثة البيزنطيين
---------
إذا لم تكن العوامل الحيوية والتطلعات الاقتصادية والاستعمارية هي التي حرَّكت روسيا نحو التوسُّع الخارجي في مراحل تاريخها المختلفة، فما الذي جعلها تتوسَّع على حساب العالم الإسلامي التركي والعالم الكاثوليكي في الجنوب والشرق والغرب؟ بعبارة أخرى، كيف نفهم "المعنى الحضاري" الذي سعت ولا تزال تسعى روسيا إلى تحقيقه؟ يعود دوغين قائلا إن "توسُّع الروس بوصفهم حاملي رسالة خاصة شكَّل التمهيد الجيوسياسي لتوحُّد الأراضي هائلة المساحات في الأوراسية القارية، وأن حتمية التكامل السياسي للآماد الأوراسية هي ما يمنح التوسُّع الروسي معنى مستقلا تماما. ويمكن القول إن الروس يشعرون بالمسؤولية أمام هذه الآماد، وقد اعتبر الجغرافي البريطاني هالفورد ماكيندر روسيا الدولة القارية الأهم في عصره، والدولة التي ترث رسالة روما الجيوسياسية، وإمبراطورية الإسكندر الأكبر، وجنكيز خان" في الوقت نفسه.
بتحليل هذه الرؤية لدوغين نجد أنها تُشير إلى التكامل بين الدين والدولة في الفكر السياسي الروسي، حيث إن أحد الأركان الأساسية في الأرثوذكسية كانت التعاليم المتعلقة بالوظيفة اللاهوتية الخلاصية للإمبراطورية البيزنطية، وحين سقطت هذه الإمبراطورية عام 1453م على يد السلطان العثماني محمد الفاتح؛ انقسم العالم الأرثوذكسي إلى قسمين انطويا على خلافات عميقة، القسم الأول منهما أصبح تحت سيطرة الدولة العثمانية، وهم أرثوذكس اليونان والصرب والألبان والبلغار والعرب، والشخصية العليا بين هؤلاء كان بطريرك القسطنطينية وظهر بجانبه بطريرك الإسكندرية ثم بطريرك أنطاكية، والقسم الثاني ظل يتمتع بالاستقلال السياسي والعسكري في روسيا.
بموجب هذا الانقسام، أصبحت روسيا محصورة بين تكتُّلين جيوسيايَّين مُعاديينِ لها؛ هما الكاثوليك والأتراك المسلمون، ما يعني أن إكمال المسؤولية التاريخية استقر بمجموعه في هذه المرة على كاهل القياصرة الروس والكنيسة الروسية والشعب الروسي. وهي مسؤولية نقلت موسكو منذ سقوط القسطنطينية إلى حقبة جديدة تماما، فلم تنعكس فقط على نفسيات الروس خلال القرون الخمسة الأخيرة من عمر البشرية، بل وعلى جوهر التوجُّه الجيوسياسي للدولة الروسية وكنيستها، وتصوُّر الشعب الروسي لنفسه بأنه "شعب متوشِّح بالله"، على حد وصف دوجين.
إذا لم تكن العوامل الحيوية والتطلعات الاقتصادية والاستعمارية هي التي حرَّكت روسيا نحو التوسُّع الخارجي في مراحل تاريخها المختلفة، فما الذي جعلها تتوسَّع على حساب العالم الإسلامي التركي والعالم الكاثوليكي في الجنوب والشرق والغرب؟ بعبارة أخرى، كيف نفهم "المعنى الحضاري" الذي سعت ولا تزال تسعى روسيا إلى تحقيقه؟ يعود دوغين قائلا إن "توسُّع الروس بوصفهم حاملي رسالة خاصة شكَّل التمهيد الجيوسياسي لتوحُّد الأراضي هائلة المساحات في الأوراسية القارية، وأن حتمية التكامل السياسي للآماد الأوراسية هي ما يمنح التوسُّع الروسي معنى مستقلا تماما. ويمكن القول إن الروس يشعرون بالمسؤولية أمام هذه الآماد، وقد اعتبر الجغرافي البريطاني هالفورد ماكيندر روسيا الدولة القارية الأهم في عصره، والدولة التي ترث رسالة روما الجيوسياسية، وإمبراطورية الإسكندر الأكبر، وجنكيز خان" في الوقت نفسه.
بتحليل هذه الرؤية لدوغين نجد أنها تُشير إلى التكامل بين الدين والدولة في الفكر السياسي الروسي، حيث إن أحد الأركان الأساسية في الأرثوذكسية كانت التعاليم المتعلقة بالوظيفة اللاهوتية الخلاصية للإمبراطورية البيزنطية، وحين سقطت هذه الإمبراطورية عام 1453م على يد السلطان العثماني محمد الفاتح؛ انقسم العالم الأرثوذكسي إلى قسمين انطويا على خلافات عميقة، القسم الأول منهما أصبح تحت سيطرة الدولة العثمانية، وهم أرثوذكس اليونان والصرب والألبان والبلغار والعرب، والشخصية العليا بين هؤلاء كان بطريرك القسطنطينية وظهر بجانبه بطريرك الإسكندرية ثم بطريرك أنطاكية، والقسم الثاني ظل يتمتع بالاستقلال السياسي والعسكري في روسيا.
بموجب هذا الانقسام، أصبحت روسيا محصورة بين تكتُّلين جيوسيايَّين مُعاديينِ لها؛ هما الكاثوليك والأتراك المسلمون، ما يعني أن إكمال المسؤولية التاريخية استقر بمجموعه في هذه المرة على كاهل القياصرة الروس والكنيسة الروسية والشعب الروسي. وهي مسؤولية نقلت موسكو منذ سقوط القسطنطينية إلى حقبة جديدة تماما، فلم تنعكس فقط على نفسيات الروس خلال القرون الخمسة الأخيرة من عمر البشرية، بل وعلى جوهر التوجُّه الجيوسياسي للدولة الروسية وكنيستها، وتصوُّر الشعب الروسي لنفسه بأنه "شعب متوشِّح بالله"، على حد وصف دوجين.