بوتين زعيما للعالم المسيحي.. الأبعاد الدينية وراء الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا

لادئاني

مستشار المنتدى
إنضم
16/12/18
المشاركات
27,908
التفاعلات
76,796

بوتين زعيما للعالم المسيحي.. الأبعاد الدينية وراء الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا

%D8%A8%D9%88%D8%AA%D9%8A%D9%86-111.jpg
===================



محمد شعبان أيوب
17/2/2022


في مشاهد متعددة ولافتة خلال السنوات العشر الأخيرة، ظهر العديد من كبار القساوسة الأرثوذكس الروس وهم يُباركون الأسلحة الحربية والطائرات المقاتلة، الجديدة منها أو المنطلقة للقتال في جبهات مختلفة في العالم، وعلى رأسها البقعة الساخنة في الشرق الأوسط؛ سوريا. يُثير هذا المشهد تحديدا العديد من الأسئلة والإشكالات، على رأسها إمكانية تكرُّر مشاهد العصور الوسطى التي تقاتلت فيها الحضارات والأمم على أساس من الدين والعقيدة، أو شُكِّلت فيها العلاقات الدولية والحضارية على الأساس ذاته.

لكن الاستفسار الأهم يتعلَّق بهذا التحوُّل الدرامي في العقلية الإستراتيجية الروسية تحت قيادة فلاديمير بوتين في ربع القرن الأخير، واللافت أن هذا التحوُّل الذي أحدثه قائد روسيا المخابراتي ارتكز، لا على الأفكار التقليدية التي اعتمدت على تقديس "المجال الحيوي" الروسي الذي مَثَّلته تاريخيا روسيا القيصرية ثم روسيا السوفيتية ضمن بلدان القوقاز ووسط آسيا وأوروبا الشرقية والبلطيق فحسب، ولكن أيضا على رؤيته الأرثوذكسية للعالم والعلاقات الدولية بأسرها، وهي رؤية نحتاج إلى الوقوف معها بعمق وتبصُّر وفهم.

في مارس/آذار عام 2016، اقتحمت الشرطة الروسية منزل "فيكتور كراسنوف" وساقته إلى قاضي التحقيق الذي أمر بإخضاعه إلى كشف عقلي للتأكُّد من أهليته للمحاكمة بتهمة "إهانة مشاعر المؤمنين"، وهي تهمة لعلها من أغرب ما اتُّهِم به شخص في تاريخ روسيا منذ الحقبة السوفيتية، ولم يكن كراسنوف أو غيره يتوقَّعون جدية حكومتهم في تطبيقها، حتى حين أُعلِن عنها رسميا منتصف عام 2013.
Ruslan-Sokolovsky-11-%D8%B1%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%86.jpg

رسلان سوكولوفسكي


في ذلك التوقيت أقرَّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قانونا مثيرا للجدل يُجرِّم إهانة مشاعر المتدينين بالبلاد، وينص على عقوبة السجن لمدة تصل إلى سنة إذا صدر الفعل "المُهين" خارج أماكن العبادة، وتصل إلى ثلاث سنوات إذا صدر داخل أحد هذه الأماكن. لم تُثِر قضية كراسنوف الكثير من الجدل آنذاك، ولكن موسكو كانت عازمة على المُضي قُدما في طريقها.

ففي أغسطس/آب من العام نفسه لم يأخذ مُدوِّن الفيديو "رسلان سوكولوفسكي"، البالغ من العمر 22 عاما وابن مدينة كاترينبرغ تهديدات تلفاز بلاده بجدية، والنتيجة كانت وضعه تحت الإقامة الجبرية لمدة 11 شهرا قبل أن يُحكَم عليه بالسجن لمدة عامين وثلاثة أشهر، ورغم تقديمه التماسا لتخفيف الحكم، رفض القضاء الفيدرالي الروسي قبوله.

هذا التحوُّل الجذري من الادعاء بأن "الدين أفيون الشعوب"، وإقامة المذابح الجماعية لرجال الدين من الأرثوذكس والمسلمين وغيرهم من رعايا الدولة السوفيتية الشيوعية، إلى عودة التقدير والاحترام للكنيسة ورجالاتها، والقيم الروحية التي تتأسَّس عليها الجمهورية الاتحادية الروسية اليوم، لا يعني في نظرنا مجرد التعامل البراغماتي مع الكنيسة الروسية لأهداف داخلية وخارجية فقط، بل يعني أيضا في الوقت نفسه عودة روسيا إلى البحث عن النموذج الإمبراطوري الذي ورثته عن الإمبراطورية البيزنطية القديمة، وهو نموذج يتكئ على الأرثوذكسية في النظر إلى العالم المحيط والتعاطي معه.

إشكالية سقوط القسطنطينية

---------


يرجع تاريخ العلاقة الوثيقة لموسكو مع الدين المسيحي إلى لحظة تأسيس روسيا الحديثة؛ إذ تشكَّلت النواة القومية للدولة الروسية نتيجة اتحاد عدد من القبائل السلافية بعد اعتناقها المسيحية في عهد الأمير "فلادمير سفياتوسلافيتش" عام 980م. ومنذ تلك اللحظة ظهرت في مجموعة من الدول الأوروبية المسيحية إمارة "كييف الروس"، وهي دولة ظهرت في القرون الوسطى شرق أوروبا وامتدت بين نهرَيْ "دنيستر" و"الفولجا"، وعاصمتها كييف، عاصمة أوكرانيا الحالية. ونظرا إلى أن روسيا الوليدة كانت متعددة القبائل فقد كانت العقيدة هي الأساس الذي جمع ووحَّد هذه القبائل المُتفرِّقة، وعلى هذا الأساس كان اعتناق الروس للأرثوذكسية لأسباب نفسية وجغرافية، نظرا إلى قُرب الإمبراطورية الرومانية الشرقية وعاصمتها القسطنطينية من حدود العالم الروسي.

%D9%83%D9%8A%D9%8A%D9%81-11.jpg


سرعان ما أضحت الأرثوذكسية عقل وقلب ومُحرِّك الدولة الروسية في مراحلها التاريخية المختلفة منذ الإمارة ثم الدولة ثم الإمبراطورية القيصرية، وخلافا للحقبة الشيوعية التي حوربت فيها كل الأديان، فإن عودة روسيا للاعتماد على الأرثوذكسية اليوم يحتاج إلى استشراف أبعاده المستقبلية وآثاره على العلاقات الدولية والعالم الإسلامي المحيط بهذا الوحش الجغرافي الكبير المُسمى "روسيا".

يُخبرنا "ويل ديورانت"، مؤرخ الحضارات الأميركي، عن الكنيسة الروسية في زمنها الذهبي قائلا: "كانت الكنيسة هي الحاكم الحقيقي لروسيا؛ لأن خشية الله كانت سائدة في كل مكان، في حين كان سلطان إيفان (الإمبراطور إيفان الرهيب 1530-1584م) محدودا. وكانت قواعد الطقوس الدينية، إن لم تكن قواعد الفضيلة والأخلاق، تُقيِّد الجميع، حتى القيصر نفسه، وكان الكهنة يراقبون هل غسل يديه بعد مقابلته لسفراء الدول من خارج نطاق الأرثوذكسية. وكانت الصلاة وفق الطقوس الرومانية الكاثوليكية غير مُرخَّص بها، أما البروتستانتية فقد تسامحوا معها على أساس المشاركة في العداء للبابا في روما. وكان إيفان الرابع يزهو بعلمه في اللاهوت".

ربما يصدق هذا الوصف حتى على العالم الغربي اللاتيني الكاثوليكي في ذلك الزمن، وعلى "الكنيسة الكاثوليكية الكبرى في روما" التي سيطرت على الأباطرة والملوك، وشكَّلت ملامح العصور الكلاسيكية والعصور الوسطى، وأسَّست لعصر الحروب الصليبية مع العالم الإسلامي في مشرقه ومغربه، وهو ينطبق كذلك على العالم الإسلامي حيث لعبت العقيدة الإسلامية الدور الأبرز في نشر الدين وتوسُّع الدولة، وبذلك يكون الدين هو مَن لعب الدور الأبرز في تشكيل العلاقات الدولية بين العوالم الثلاثة الأرثوذكسي والكاثوليكي والإسلامي. ولهذا السبب كان لسيطرة الأتراك العثمانيين على القسطنطينية وإنهاء الدولة البيزنطية الشرقية دور جذري في تاريخ الأرثوذكسية ومسارها ومستقبلها، وأيضا في خلق معضلة في "الجغرافيا السياسية الأرثوذكسية" كما يصفها المفكر الروسي "ألكسندر دوغين".

%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%86%D9%8A%D8%B3%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7-11.jpg


يُخبرنا دوغين أن تشكُّل روسيا الجيوسياسي قام على أساس فريد بخلاف الأُسس التي قامت عليها الدول الأوروبية، فهي كما يقول: "ليست دولة وحيدة الإثنية، وليست دولة-أمة. فمنذ البدايات الأولى كانت صورة الدولة الإمبراطورية كامنة، بداية من توحُّد القبائل السلافية-الأوغرية-الفنلندية، وحتى في ظل الاتحاد السوفيتي، كان الشعب الروسي سائرا دون توقف نحو بناء الإمبراطورية والتوسُّع الحضاري. وتجدر الإشارة إزاء ذلك إلى أن التوسُّع الروسي حمل معنى حضاريا بالذات وأنه لم يكن على الإطلاق توسُّعا مصلحيا يُسيِّره السعي وراء المستعمرات أو الصراع المَرَضي في سبيل المجال الحيوي، فلا الافتقار إلى هذا المجال الحيوي، ولا الضرورة الاقتصادية هي ما دفع الشعب الروسي إلى توسيع حدوده شيئا فشيئا نحو الشرق والجنوب والشمال والغرب".

موسكو.. "روما الثالثة" وريثة البيزنطيين

---------


إذا لم تكن العوامل الحيوية والتطلعات الاقتصادية والاستعمارية هي التي حرَّكت روسيا نحو التوسُّع الخارجي في مراحل تاريخها المختلفة، فما الذي جعلها تتوسَّع على حساب العالم الإسلامي التركي والعالم الكاثوليكي في الجنوب والشرق والغرب؟ بعبارة أخرى، كيف نفهم "المعنى الحضاري" الذي سعت ولا تزال تسعى روسيا إلى تحقيقه؟ يعود دوغين قائلا إن "توسُّع الروس بوصفهم حاملي رسالة خاصة شكَّل التمهيد الجيوسياسي لتوحُّد الأراضي هائلة المساحات في الأوراسية القارية، وأن حتمية التكامل السياسي للآماد الأوراسية هي ما يمنح التوسُّع الروسي معنى مستقلا تماما. ويمكن القول إن الروس يشعرون بالمسؤولية أمام هذه الآماد، وقد اعتبر الجغرافي البريطاني هالفورد ماكيندر روسيا الدولة القارية الأهم في عصره، والدولة التي ترث رسالة روما الجيوسياسية، وإمبراطورية الإسكندر الأكبر، وجنكيز خان" في الوقت نفسه.

بتحليل هذه الرؤية لدوغين نجد أنها تُشير إلى التكامل بين الدين والدولة في الفكر السياسي الروسي، حيث إن أحد الأركان الأساسية في الأرثوذكسية كانت التعاليم المتعلقة بالوظيفة اللاهوتية الخلاصية للإمبراطورية البيزنطية، وحين سقطت هذه الإمبراطورية عام 1453م على يد السلطان العثماني محمد الفاتح؛ انقسم العالم الأرثوذكسي إلى قسمين انطويا على خلافات عميقة، القسم الأول منهما أصبح تحت سيطرة الدولة العثمانية، وهم أرثوذكس اليونان والصرب والألبان والبلغار والعرب، والشخصية العليا بين هؤلاء كان بطريرك القسطنطينية وظهر بجانبه بطريرك الإسكندرية ثم بطريرك أنطاكية، والقسم الثاني ظل يتمتع بالاستقلال السياسي والعسكري في روسيا.

بموجب هذا الانقسام، أصبحت روسيا محصورة بين تكتُّلين جيوسيايَّين مُعاديينِ لها؛ هما الكاثوليك والأتراك المسلمون، ما يعني أن إكمال المسؤولية التاريخية استقر بمجموعه في هذه المرة على كاهل القياصرة الروس والكنيسة الروسية والشعب الروسي. وهي مسؤولية نقلت موسكو منذ سقوط القسطنطينية إلى حقبة جديدة تماما، فلم تنعكس فقط على نفسيات الروس خلال القرون الخمسة الأخيرة من عمر البشرية، بل وعلى جوهر التوجُّه الجيوسياسي للدولة الروسية وكنيستها، وتصوُّر الشعب الروسي لنفسه بأنه "شعب متوشِّح بالله"، على حد وصف دوجين.

 

بوتين والأرثوذكسية السياسية

--------


في السنوات العشرين الأخيرة، عادت هذه المفاهيم بقوة وانعكست على السياسة الخارجية الروسية تجاه العدوَّيْن التقليديَّين؛ العكازة اللاتينية المُمثَّلة في أوروبا الغربية وأميركا، والعمامة التركية المُمثَّلة في العالم التركي والعربي الإسلامي، وكلاهما يجمعهما اليوم حلف عسكري واحد وهو "الناتو"، وهما أيضا العالَمان المحيطان إحاطة السوار بالمعصم بـ"المجال الحيوي" الروسي، ومن ثم لم يكن من المُستغرَب أن نجد اهتماما متزايدا بعودة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في المجال السياسي الدولي، فضلا عن احترام القادة الروس وعلى رأسهم بوتين للرؤية الأرثوذكسية للعلاقات الدولية.

%D8%A8%D9%88%D8%AA%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%86%D9%8A%D8%B3%D8%A9-11.jpg

لقد تأكَّد حضور الرؤية الدينية أو "الروحانية" في السياسة الروسية، وهو الوصف الذي استخدمه الرئيس وبوتين ووزير خارجيته "سيرغي لافروف" في أكثر من مناسبة في السنوات العشرين الأخيرة، ففي خطابه السنوي أمام مجلس الاتحاد في ديسمبر/كانون الأول 2013، انتقد الرئيس بوتين النزوع نحو ما وصفه بتدمير القيم التقليدية باسم حرية الفكر والرأي، رغم أن غالبية الناس ترفض هذه الاتجاهات، وذكر أن هناك تأييدا لتوجُّه روسيا لحماية القيم التقليدية التي تُعَدُّ الأساس الروحي والأخلاقي للحضارات، وفي خطابه قال: "نحن نُقدِّر الأسرة التقليدية والحياة البشرية الحقيقية بما في ذلك الحياة الدينية لشخص ما وليس فقط وجوده المادي، ونُقدِّر أيضا القيم الروحية الإنسانية والتنوع في العالم".

في فبراير/شباط 2012 نشرت العديد من وكالات الأنباء الروسية والعالمية خبرا بأن بوتين -وكان حينها رئيسا للوزراء- وعد خلال لقائه مع قادة الكنيسة الأرثوذكسية بالدفاع عن المسيحيين الذين يتعرَّضون للظلم في كل أنحاء العالم، وجعل هذا من مهام السياسة الخارجية الروسية. كما أكَّد بوتين في لقاء آخر مع قادة الكنائس المحلية في يوليو/تموز 2013 أن العلاقة بين الدولة والكنيسة بلغت مستويات متقدمة، وقال: "علينا أن نعمل كشركاء حقيقيين لمعالجة القضايا الداخلية والدولية الأكثر إلحاحا وتطوير مبادرات مشتركة لصالح وطننا وشعبنا".

بدوره، جسَّد وزير الخارجية الروسي لافروف هذه الرؤية في العديد من تصريحاته ولقاءاته، ففي حديث له أمام مجلس سياسات الدفاع والخارجية الروسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2014، وجَّه نقدا حادا للدول الأوربية لتجنُّبها الحديث عن حقوق المسيحيين في الشرق الأوسط رغم اهتمامها المكثَّف بظاهرة الإسلاموفوبيا في أوروبا. واتهم لافروف الأوروبيين بالخجل من الحديث عن ظاهرة كراهية المسيحية، كما خجلوا من تضمُّن دستور الاتحاد الأوروبي نصا يؤكد الجذور المسيحية لأوروبا. ولذلك فقد تقدَّمت روسيا بمقترح لتخصيص لقاء ضمن الاجتماعات السنوية لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي السنوية لبحث هذه الظاهرة.

قبل ذلك في عام 2007، وخلال مشاركته في احتفال أقامته الكنيسة الأرثوذكسية، أثنى لافروف على دور الكنيسة في الدفاع عن حقوق المواطنين الروس المقيمين خارج روسيا، ودورها في تأكيد مبدأ التنوع الحضاري في العالم المعاصر، وعبَّر أيضا عن رضاه باستمرار التواصل بين وزارة الخارجية والكنيسة، ووصف التعاون بينهما بأنه تقليد عريق في الدبلوماسية الروسية. وقد عبَّر البطريرك عن تقديره لتعاون الوزارة مع الكنيسة لحماية الحقوق الثقافية والدينية للروس في الخارج، وللتفاهم المشترك حول ضرورة إنشاء نظام دولي عادل يستند إلى أُسس روحية.
%D9%84%D8%A7%D9%81%D8%B1%D9%88%D9%81-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%86%D9%8A%D8%B3%D8%A9-11.jpg


بمناسبة مرور خمسة وستين عاما على تأسيس إدارة الشؤون الخارجية في الكنيسة، بعث لافروف خطابا إلى البطريرك أثنى فيه على دور الكنيسة في تعزيز الأُسس الأخلاقية للعلاقات الدولية.
في احتفال مماثل عام 2009، كرَّر الوزير لافروف ثناءه على دور الكنيسة الأرثوذكسية في الدفاع عن القيم الروحية داخل روسيا وخارجها، وأكَّد عدم إمكانية مواجهة التحديات في العالم المعاصر دون تعزيز القيم الأخلاقية، ما يستدعي المواءمة بن قضايا السياسة الخارجية وقيم الأديان العالمية من أجل ضمان محافظة النظام الدولي على تنوُّعه الثقافي والحضاري ضد مساعي فرض الثقافة الغربية. وبمناسبة مرور خمسة وستين عاما على تأسيس إدارة الشؤون الخارجية في الكنيسة، بعث لافروف خطابا إلى البطريرك أثنى فيه على دور الكنيسة في تعزيز الأُسس الأخلاقية للعلاقات الدولية، وسعيها للمساهمة في حل القضايا الدولية المهمة.

تتعدَّد الأمثلة على تداخل الديني الأرثوذكسي والجيوسياسي في الإستراتيجية الروسية خلال السنوات العشرين الأخيرة، وليس أدل على ذلك من تدخُّلات موسكو المباشرة في آسيا الوسطى والبلقان والقرم وأوكرانيا، فضلا عن الإستراتيجية الروسية في سوريا التي يندرج ضمن أهدافها ترسيخ النفوذ الروسي بين مسيحيي المشرق الأرثوذكس، فضلا عن الإحاطة بتركيا من الجنوب باعتبارها تاريخيا أحد عنصرَيْ التهديد الإستراتيجي لروسيا.

مما لا شك فيه أن الروس استفادوا في هذا التمدُّد الجيوسياسي من الضعف التدريجي للهيمنة الأميركية على العالم، وقد استشرف الإستراتيجي الأميركي الشهير "زبغينو بريجنسكي" هذه الحقيقة قائلا: "إن تورُّط أميركا المستمر في المنطقة عمل على إضعاف مكانتها العالمية، وذلك في ميزان الحسابات الإستراتيجية العريضة مزدوج الفائدة بالنسبة إلى روسيا التي لا تزال ساخطة، وبالنسبة إلى الصين الصاعدة بحكمة، وبالنسبة إلى الهند القلقة إقليميا، فعلى الصعيدين الإقليمي والعالمي على حدٍّ سواء لا بد لأوزان هذه القوى على المستوى الجيوسياسي من أن تزيد مع تضاؤل الحجم العالمي لمكانة أميركا تدريجيا".

وهكذا يبدو أن فكرة "روما الثالثة" التي يؤمن بها الإستراتيجيون والقادة العسكريون الروس فيما بعد حقبة بوريس يلتسن، وفي ظل الرئيس بوتين، تُعَدُّ أصلا من أصول تقييم العالم المحيط بهم على أُسس دينية أرثوذكسية، ولا شك أن هذه الرؤية الإستراتيجية في العلاقات الدولية سيكون لها مآلاتها، فحتى إذا ذهب بوتين فإن مستقبل روسيا يبدو أنه مليء برجالات على إيمان عميق بما آمن به وعمل من أجله القيصر-الرئيس، وما آمن به قياصرة عديدون من قبل.

___________________________________

المصادر:
  1. جوليا ترويتسكايا: دور الكنيسة األرثوذكسية يف دعم السياسات الروسية.
  2. ديورانت: قصة الحضارة 26/23.
  3. ألكسندر دوغين: أسس الجغرافيا السياسية، مستقبل روسيا الجيوسياسي ص239.
  4. المصدر السابق
  5. المصدر السابق
  6. المصدر السابق
  7. Presidential Address To The Federal Assembly,Http://En.Kremlin.Ru/Events/President/News/19825
  8. صالح محمد الخثلان: الدين والسياسة الخارجية الروسية ص12.
  9. المصدر السابق
  10. المصدر السابق
  11. بريجنسكي: رؤية إستراتيجية ص88.

المصدر : الجزيرة

 

Baha Alhaj Hasan

الأرثذوكسية كانت حاضرة دوما بروسيا ومحيطها.. وحتى ديورانت اعتبر ان هناك حضارة أرثوذكسية باقية. المسيحية الارثوذكسية كانت حاضرة بكل معارك روسيا من بورودينيو 1812 ضد نابليون لمعركة موسكو 1941 في ظل للاتحاد السوفيتي والتي استخدم فيها الدين لاثارة الوطنية الروسية حيث تم خلالها مباركة كهنة روس للقوات المدافع عن موسكو وتم التساهل بالسماح للجنود بحمل الأيقونات الكنسية. ولا زالت بعض الصور الأيقونة لمعركة كيرسك بعدها بعامين تظهر صليبا ارثوذكسيا بيد جندي روسي في أم معارك الحرب العالمية الثانية تلك
 

روسيا وأوكرانيا: لماذا يتطلع بوتين للاحتفال بعيد الفصح في كييف؟

===============


27 فبراير/ شباط 2022
بوتين وكيريل خلال قداس عيد الفصح عام 2017

بوتين وكيريل خلال قداس عيد الفصح عام 2017

كانت مساعي أوكرانيا للانضمام إلى حلف الناتو، السبب المباشر المعلن للحملة العسكرية الروسية ضد كييف. وبينما يشير بعض المحللين إلى أسباب تتعلق بطموح بوتين لإحياء إرث الاتحاد السوفيتي، الذي قال الرئيس الروسي إن انهياره عام 1991، كان بمثابة "تفكك لروسيا التاريخية"، يعتقد آخرون أن هناك أسباباً مبطنة أخرى للغزو، من بينها رغبة فلاديمير بوتين بالاحتفال بعيد الفصح في كييف.

يرى بعض المؤرخين أن العامل الديني لعب دوراً في قرار الغزو، وهو ما تذهب إليه المؤرخة الأمريكية البارزة ديانا باتلر باس، المختصة بتأريخ المسيحية.
تقول باتلر باس في مقال نشرته قبل أيام إن الغزو الروسي لأوكرانيا الذي نشهده اليوم، ليس إلا فصلاً جديداً من حكاية قديمة، ستكون نهايتها "السعيدة" من وجهة نظر بوتين، الاحتفال بقداس الفصح في كييف.

بدأت تلك القصة مع سقوط الإمبراطورية الرومانية، وما تلاه من تنافس على إرثها السياسي والديني بين الإمبراطوريات التي خلفتها عبر التاريخ.
بحسب المؤرخة فإن كييف تعدّ بالنسبة للمسيحيين الأرثوذكس بمثابة القدس، لذلك فإن الصراع "على أوكرانيا هو أيضاً صراع على أي أرثوذكسية ستطبع وجه شرق أوروبا".

بالنسبة لها، فإن العملية العسكرية التي أعلنها الروس لا تقل أهمية، من وجهة نظرهم، عن "حملة صليبية لاستعادة الأراضي الأرثوذكسية المقدسة من الهراطقة الغربيين".

معمودية الروس الأولى

----


يعود السبب في ذلك إلى رمزية كبرى تتحلّى بها مدينة كييف في تاريخ المسيحية الأرثوذكسية، إذ أنها لعبت دوراً تأسيسياً، وتعدّ الموطئ الأول للمذهب في الوعي الجمعي الروسي.

يقارن الصحافي والقس البريطاني جيل فرايزر، في مقال نشر على موقع "أن هيرد"، بين فلاديمير بوتين اليوم، وفلاديمير الأول، أمير كييف بين عامي 978 و1015، المسمّى بفلاديمير الكبير.

تختلف الروايات التاريخية حول قصة اعتناق فلاديمير الأول، أمير كييف الروسية، المسيحية، بعدما كان وثنياً. ولكن، يرد في عدد من المراجع أنه كان قد طلب يد الأميرة آنا، شقيقة الإمبراطور البيزنطي باسيل الثاني، لبناء حلف سياسي، وكان شرط الإمبراطور أن يعتنق فلاديمير المسيحية.

ساعد فلاديمير الإمبراطور في قمع متمردين عليه، واحتفالاً بنصره، لم يعتنق المسيحية فحسب، بل جعلها ديانة لشعبه.

وتقول المرويات أنه في طريق عودته إلى كييف، حطّم فلاديمير الأوثان، وقاد معمودية جماعية على نهر دنيبر عام 988 (ينبع النهر من روسيا، ويعبر بيلاروسيا، وأوكرانيا).

ونظراً لأهمية تلك اللحظة المؤسسة في التاريخ الروسي، يرى فرايزر أن بوتين يطمح لاستعادة كييف، "المدينة الأم للأرثوذكسية الروسية"، تذكيراً بأمجاد فلاديمير الكبير.

كنيسة متنقلة ترافق وحدة عسكرية روسية في تدريباتها

كنيسة متنقلة ترافق وحدة عسكرية روسية في تدريباتها

استقلال الكنيسة الأوكرانية

---------


في هذا السياق، يرى البعض أن أحد العوامل الممهدة للغزو الروسي الراهن، كان انفصال الكنيسة الأوكرانية عن الكنيسة الروسية، عام 2018، إذ كانت جزءاً منها منذ عام 1686.

عند إعلان الانفصال قبل سنوات، وصفه الرئيس الأوكراني السابق بترو بوروشينكو بأنه "انتصارٌ للشعب المؤمن في أوكرانيا على شياطين موسكو". فيما لام بوتين السياسيين الأوكرانيين على "التدخل في شؤون الكنيسة"، وأكد على حق بلاده في حماية "حرية العبادة".

استقلال الكنيسة الأوكرانية أدى إلى انقسام أوسع على مستوى الكنائس الأرثوذكسية، مع إعلان الكنيسة الروسية انفصالها عن العائلة الأرثوذكسية الجامعة، احتجاجاً على دور برثلماوس الأول، بطريرك القسطنطينية المسكوني، في إصدار مرسوم الاعتراف بالكنيسة الجديدة.

بوتين والبطريرك كيريل خلال احتفال تدشين نصب الأمير ألكسندر نيفسكي في سبتمبر 2021

بوتين والبطريرك كيريل خلال احتفال تدشين نصب الأمير ألكسندر نيفسكي في سبتمبر 2021

وكما هو معروف، لا سلطة لبرثلماوس الأول، ومقره في تركيا، على باقي الكنائس الأرثوذكسية. فصحيح أن هذه الكنائس تنتمي لجسد واحد، إلا أن إدارتها وقياداتها مستقلة عن بعضها البعض. ولا يعدو برثلماوس كونه متقدماً بين متساوين، إذ لا توجد لدى الأرثوذكس والكنائس الشرقية البنية الهرمية الإدارية نفسها الموجودة في الكنيسة الكاثوليكية.

ويقول الكاتب مايكل خوداركوفسكي في "نيويورك تايمز"، إن إعلان الكنيسة الأوكرانية انفصالها عن الكنيسة الروسية، شكّل "ضربة خطيرة لطموحات بوتين والكنيسة الروسية على مستويات عدة، إذ يمثل الأوكرانيون الأرثوذكس 30 بالمئة من مجمل المسيحيين التابعين لبطريرك موسكو. ويعني الانفصال، خسارة ملايين الأتباع، وملايين الدولارات من أملاك الكنيسة".

الفخر الأرثوذكسي

-------


خلال سنوات حكم بوتين، تنامى دور الكنيسة بشكل ملحوظ. وفي كتاب بحثي بعنوان "القوي وكلي القدرة" صادر عن مركز أبحاث "ثيوس" عام 2017، يقول الباحث بن راين إن العلاقة بين الرئيس الروسي والكنيسة الأرثوذكسية "علاقة حيوية تكافلية غير عادية".

في عهده، سمح بوتين للكنيسة باستعادة صدارتها وقدم لها الدعم كما لم يفعل أي حاكم روسي منذ الثورة البولشيفية. ومن جهتها، مدت الكنيسة الرئيس بالدعم الفكري والثقافي لتوفير أرضية لرؤيته الدولاتية، وتوسيع مجال نفوذ روسيا حول العالم.

وبحسب دراسة أجراها مركز "بيو" الأمريكي للأبحاث، فإنّ المسيحية الأرثوذكسية شهدت نهضة كبرى في أوروبا الشرقية خلال العقدين الماضيين، سواء في روسيا أو في الدول المحيطة لها، حيث يعرّف 70 بالمئة من السكان أنفسهم كأرثوذكس.

وتزامنت تلك النهضة بحسب المركز، مع تنامي المشاعر المؤيدة لروسيا في المنطقة، "كقوة ضرورية لموازنة تأثير الغرب"، وذلك "لأن الهوية الأرثوذكسية مرتبطة بشكل وثيق بالهوية القومية، وبمشاعر الفخر والتفوق الثقافي".

ويكتب خوداركوفسكي أن الصلات بين الكرملين وبطريركية موسكو، قديمة قدم روسيا نفسها. "على امتداد تاريخها، كانت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تابعة للدولة، وداعمة للحكم. ومنذ القرن السادس عشر، عززت الكنيسة الحكام بلاهوت سياسي مبني على فكرة "القدر المتجلي أو المصير الواضح"، الذي يؤكد أن موسكو باتت القدس الثانية وروما الثالثة (بعد روما والقسطنطينية)".

خلال حفلة أقيمت في الكرملين عام 2004 لتكريم البطريرك ألكسي الثاني

خلال حفلة أقيمت في الكرملين عام 2004 لتكريم البطريرك ألكسي الثاني

خلال سنوات حكم الاتحاد السوفيتي، تراجع دور الكنيسة لتنهض بعد عقود من الإمحاء خلال التسعينيات. ومنذ تولي بوتين الحكم، اعتمد على الكنيسة كقوة جامعة في البلاد، لتعزيز مكانته كحامٍ للروس.

بحسب راين فإن روسيا لم تشهد منذ عهد القياصرة قائداً مثل بوتين، "يظهر الحاجة والرغبة لاستخدام الكنيسة بطريقة مفيدة لدعم سياساته الداخلية والخارجية"، حتى في عهد بوريس يلتسن، حين أرادت الدولة الروسية التكفير عن ذنوب الحقبة السوفيتية التي قمعت الممارسات الدينية بالكامل.

ويعتقد الباحث أن الكنيسة باتت رمزاً من رموز قوة بوتين، وللدلالة على علاقتهما العضوية، يذكّر بالحركة الاحتجاجية التي نفذتها فرقة "بوسي رايوت" الغنائية داخل كاتدرائية موسكو. ويقول: "من الصعب التفكير بقائد أوروبي علماني آخر، يكون الاعتراض الأشد رمزية ضده، موجهاً من داخل كنيسة".

قلادة الصليب

----


بحسب موقع مؤسسة "هريتدج" الأمريكية، فإنّ بوتين ينصب نفسه كمدافع عن التقاليد المحافظة وعن مكانة الكنيسة، من خلال خطاب معلن يرفض الطلاق، والمثلية الجنسية، ويشجع قيم الأسرة التقليدية.

ويرى مراقبون أن بوتين، وبغض النظر عن قناعاته الدينية الشخصية، يريد توظيف تلك القيم المسيحية التقليدية، من أجل التأثير السياسي.

ولكن، يعتقد آخرون أن الأمر يعدو كونه أداة وظيفية، إذ يحرص بوتين على إظهار جانب تقيّ ورع في صورته العامة، بالرغم من تكتمه الشديد حول نشأته وحياته الخاصة.

على سبيل المثال، يمتلك بوتين قلادة صليب، لا تفارق رقبته، يقال إنها هدية من والدته يوم عمدته في السرّ مطلع الخمسينيات.

من المرويات حول القلادة أيضاً، أن بوتين برّكها على قبر المسيح، خلال زيارة قام بها لإسرائيل أثناء عمله ضابطاً في الاستخبارات الروسية في التسعينيات. ويقال أيضاً إن الصليب كان من الأغراض القليلة التي نجت من حريق أتى على منزل عائلته.

خلال مشاركة بوتين بقداس عيد الميلاد عام 2020 في كاتدرائية التجلي في سانت بطرسبرغ



كل تلك التفاصيل حول الصليب، تبدو منتقاة لتعطيه بعداً أسطورياً، ولتثبيت صورة بوتين كشخصية مؤمنة.

إلى جانب ذلك، تربط بوتين علاقة متينة بالأرشمندريت تيخون شيفكونوف، رئيس دير سترينسكي للرهبان، ويعتقد أنه من أبرز العارفين بسيرة بوتين، لكونه كان لسنوات كاهن الاعتراف الخاص بالرئيس الروسي.

تولى تيخون الإشراف على مشروع المعرض التفاعلي الدائم "روسيا، تاريخي" الذي افتتح في مدينة سانت بطرسبرغ عام 2016.

المعرض الممتد على مساحة شاسعة، يسرد تاريخ روسيا خلال ألف عام، ويحتفي ببطولات العظماء الروس. وفي السياق ذاته، لعب تيخون دوراً في إعادة تسمية مطارات روسيا بأسماء الأبطال العسكريين والعلماء الروس.


الحضارة الروسية المقدسة

-----------

يعدّ ذلك من المؤشرات الأساسية على رغبة بوتين في جعل الكنيسة الأرثوذكسية رأس حربة في مشروعه لإعلاء القومية الروسية، وأداة قوية لدعم أيديولوجيته السياسية عن روسيا المقدر لها أن تكون قوة عظمى.

لذلك بذل بوتين جهوداً كبرى في دعم الكنيسة مادياً ومعنوياً وسياسياً، بدءاً من استعادة مقتنيات الكنائس التي بيعت خلال الحقبة الشيوعية، وبناء آلاف الكاتدرائيات، إلى جانب إدراج مادة عن الثقافة الأرثوذكسية في المناهج الدراسية.

كاتدرائية قيامة المسيح الخاصة بالقوات الروسية المسلحة في موسكو

كاتدرائية قيامة المسيح الخاصة بالقوات الروسية المسلحة في موسكو

يضاف إلى ذلك أن الكنيسة تلعب دوراً مهماً في الجيش الروسي، وقد شوهدت خلال العمليات الأخيرة في أوكرانيا تسجيلات لكنائس متنقلة، ترافق الوحدات العسكرية الروسية، إذ يبارك كاهن الأسلحة أحياناً في ساحات القتال، ويقيم الصلاة مع الجنود.

وللدلالة على العلاقة الوثيقة بين الكنيسة والجيش، شيدت القوات الروسية المسلحة كاتدرائية خاصة بها في موسكو، افتتحت في عام 2020، احتفالاً بالذكرى 75 لانتصار روسيا في الحرب العالمية الثانية، واحتفاء بمآثر الشعب الروسي العسكرية في الحروب التي خاضها.

من جهته، يبادل بطريرك موسكو كيريل الكرملين والجيش الروسي مشاعر الفخر ذاتها، ويتحدث في أحد خطاباته عن دور الكنيسة في ضمان وحدة الشعوب الروحية في الدول القائمة على أراضي "روسيا التاريخية"، وأهميتها في حماية منظومة "القيم الأرثوذكسية التي تحملها الحضارة الروسية المقدسة للعالم".

 
عودة
أعلى