ابن الملوك

التحالف يجمعنا
عضو قيادي
إنضم
6/3/19
المشاركات
3,869
التفاعلات
12,293
589a687a4303e.jpg

لم تعد هناك بقعة على وجه الأرض يغيب عن اقتصادها اسم الصين كمورد للبضائع أو مستثمر



المبحث الأول: مظاهر بروز الصين كقوة اقتصادية دولية
  • تعاظم الناتج المحلي الإجمالي
  • اعتماد اليوان ضمن سلة حقوق السحب الخاصة بصندوق النقد
  • احتياطي النقد الأجنبي
  • تصدر التجارة السلعية الدولية
المبحث الثاني: من الصعود إلى الهيمنة
  • بنك البنية الأساسية
  • مبادرة الحزام والطريق
  • صراع التكنولوجيا
  • الحرب التجارية
المحور الثالث: دور الاقتصاد في الدفع بالصين كقطب ثان يواجه أمريكا
الخاتمة


المقدمة

ثمَّةَ مجموعة من الإجراءات والأحداث الاقتصادية جعلت من الصين محط أنظار المجتمع الدولي لأن تكون المنافس القوي والنِّد للغرب وأمريكا، ويرى البعض أنَّ ثمَّةَ تغيرات تعتري النظام الاقتصادي العالمي، لينهي تفرُّد أمريكا بقيادته، في ظل نموذجها للعولمة الاقتصادية، التي سادت منذ مطلع التسعينات من القرن العشرين.

فبعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، طالبت الصين بتغيير قواعد النظام الاقتصادي العالمي، وبخاصة فيما يتعلق بسيادة الدولار على التسويات المالية والتجارية الدولية، كما رفضت غير مرة الاستجابة لمطالب أمريكا والاتحاد الأوروبي لرفع قيمة عملتها أمام الدولار واليورو، واعتبرت أنَّ تحديد قيمة عملتها جزء من سيادتها الوطنية.

وكان لخطوتها الكبيرة إنشاء بنك "البنية الأساسية" مبعث توقعات لدى البعض بأنَّه البديل عن "البنك الدولي" ويأتي ضمن مخطط الصين لأن تكون قوة عظمى، أو العملاق الاقتصادي الذي يُمثِّل النِّد القوي لأمريكا.

كما أنّ اعتماد صندوق النقد الدولي اليوان الصيني ضمن مكونات وحدات حقوق السحب الخاصة للصندوق، وكذلك دخول عملتها ضمن عملات التعامل الحر في السوق الدولية، فتح الباب أمام بكين لأن تكون جزءًا من النظام النقدي العالمي.

وتُعدُّ الأزمة المالية العالمية، محطة بارزة في مسيرة الاقتصاد الدولي، من حيث إعادة توزيع القوة المؤثرة، أذ أنَّ الأزمة خرجت من السوق الأمريكية (البنوك، أسواق المال، سوق العقارات) وألقت بظلالها السلبية على مُقدرات السوق العالمية، ومن هناك بدأت مطالب العديد من القوى الاقتصادية وعلى رأسها الصين بتغيير قواعد النظام المالي والاقتصادي العالمي، ليكون متعدد الأقطاب، بعد أن تربَّعت واشنطن بشكل مُنفرد على مُقدراته على مدار الفترة من 1990 – 2008.

وكانت أولى مطالب الصين مع دول أخرى، تتمثَّل في البحث عن عملة أخرى للتسويات الدولية، بعيدة عن الدولار، الذي أصبح يُهدد اقتصاديات العديد من الدول، إلا أنَّ أمريكا اعتبرت هذا المطلب بمثابة خطوة كبيرة من تطلعات الصين نحو تصدُّر المشهد الاقتصادي العالمي، ويأتي الرفض الأمريكي، من أجل المحافظة على مصالحها التي تتحقق عبر إحكام قبضتها حول عنق اقتصاديات العالم، من خلال إبقاء الدولار العملة الرئيسة لتسوية المعاملات الدولية.


ولم يأتِ موقف الصين تجاه قضايا الاقتصاد العالمي، وتغيُّر قواعد اللعبة من فراغ، إذ ينطلق من امتلاك بكين العديد من مقومات القوة الاقتصادية، فلم تعُد هناك بقعة على وجه الأرض يغيب عن اقتصادها اسم الصين، كمورد للبضائع، أو مستثمر.

وفيما يلي نتناول أهم مظاهر حضور الصين كقوة كبرى على خريطة القوة الاقتصادية العالمية.

مظاهر بروز الصين كقوة اقتصادية دولية
  • تعاظم الناتج المحلي الإجمالي: تُبيِّن إحصاءات قاعدة بيانات البنك الدولي أنَّ أداء الصين في العديد من المؤشرات الاقتصادية الكلية شهد تطورًا ملحوظًا، وبخاصة مع بداية الألفية الثالثة، فعلى صعيد الناتج المحلي، بلغت قيمته في عام 2000 نحو 1.21 تريليون دولار، وبما يمثل نسبة 3.6% من الناتج المحلي العالمي البالغ في ذلك الوقت 33.5 تريليون دولار. ولكن مع نهاية 2018، تطور الناتج المحلي للصين ليصل إلى 13.6 تريليون دولار، وبما يمثل 15.8% من الناتج المحلي العالمي، والبالغ في نفس التاريخ 85.7 تريليون دولار، أي أنَّ الناتج المحلي للصين شهد زيادة قدرها 12.3 تريليون دولار خلال الفترة (2000 – 2018)، ويكون بذلك قد تضاعف الناتج المحلي للصين لأكثر من 10 أضعاف ما كان عليه في عام 2000.
أما عن ترتيب الصين من حيث قيمة الناتج على مستوى الدول، فهي تأتي في المرتبة الثانية في عام 2018 بعد أمريكا التي تُحقِّق ناتجًا محليًا بنحو 20.4 تريليون دولار، ولكن إذا أدرجت بعض التجمعات الاقتصادية في الترتيب، فالاتحاد الأوروبي يأتي في المرتبة الثانية بعد أمريكا في عام 2018 بناتج محلي يقدر بنحو 18.7 تريليون دولار[1].

usa-china-yuan-dollar.jpg
  • اعتماد اليوان ضمن سلة حقوق السحب الخاصة بصندوق النقد: في سبتمبر/أيلول 2016 اعتمد صندوق النقد الدولي "اليوان" ضمن سلة عملات حقوق السحب الخاصة، إلى جوار الدولار واليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني [2]. وهذه نقلة نوعية تُعبِّر عن الثقل الاقتصادي للصين، وهي المرة الأولى التي تنضم فيها عملة لدولة بخلاف الدول المتقدمة على مدار فترة عمل صندوق النقد منذ إنشائه في عام 1947، وكذلك إلغاء العمل بنظام بريتون وودز (تثبيت السياسة النقدية) في 1973. وبناء على الخطوة التي اعتمدها صندوق النقد الدولي دخل اليوان الصيني كعملة مقبولة في التداول الحر بالسوق الدولية، وبالتالي تتمكَّن الدول من اعتمادها ضمن سلة عملاتها، وهناك شروط يضعها صندوق النقد الدولي لاعتماد أي عملة ضمن سلة حقوق السحب الخاصة منها أن يكون الاقتصاد صاحب العملة من أكبر خمسة بلدان مُصدِّرة على مستوى العالم[3].
  • احتياطي النقد الأجنبي: تُعَدُّ الصين واحدة من أكبر الدول التي تستحوذ احتياطيات من النقد الأجنبي، ولكن الطفرة في هذا المضمار، بدأت منذ عام 2000 وحتى الآن، ففي عام 2000 كان لدى الصين احتياطيات من النقد الأجنبي بحدود 171 مليار دولار فقط، ولكن في 2014 بلغت تلك الاحتياطيات ذروتها عند 3.6 تريليون دولار.
pCQCt.jpg


وبعد عام 2014، شهدت احتياطيات النقد الأجنبي للصين عمليات تراجع، حتى وصلت إلى 3.17 تريليون دولار بنهاية 2018 [4]. ويعود تراجع هذه الاحتياطيات بالصين، إلى الآثار السلبية لأزمة انهيار أسعار النفط في السوق الدولية، وما ترتب على ذلك من تراجع في معدلات النمو والتجارة الدولية. وبقدر ما يمثل احتياطي النقد مصدر قوة للاقتصاد الصيني، إلا أنَّه في نفس الوقت مصدر ضعف [5]، لأنَّ امتلاك هذه الثروة التي يشكل الدولار الجزء الأكبر منها، يًعرِّض الاقتصاد الصيني لهزات كبيرة، يمكن أن تصنعها السياسة النقدية والمالية في أمريكا، فانخفاض قيمة الدولار، أو حتى سعر الفائدة، يُؤثر على ثروة الصين المتمثلة في احتياطي النقد الأجنبي، أو سندات الخزانة الأمريكية، حيث تُعتبر بكين أكبر مستثمر في سندات الخزانة الأمريكية منذ عام 2016 وحتى مايو/أيار 2019، وتقدَّمت عليها اليابان في يونيو/حزيران 2019 بقيمة استثمارات بلغت 1.22 تريليون دولار، بينما حلَّت الصين في المرتبة الثانية بقيمة استثمارية بلغت 1.11 تريليون دولار [6].

وبشكل عام، يلاحَظ أنَّ الصين منذ وقوع الأزمة المالية العالمية، تحاول أن تُخفف من مخاطر تركُّز ثروتها في الدولار الأمريكي، لذلك توسَّعت في الاستثمارات المباشرة على المستوى العالمي، سواء في أفريقيا وآسيا، أو في أوروبا وأمريكا، حتى يكون هناك جانباً من ثروتها متمثلاً في أصول رأسمالية، وليس في أوراق النقد الأمريكية، التي تتلاعب بها السياسات المالية والنقدية الأمريكية تجاه أي دولة في العالم.

وتوجُّه الصين بالتوسع في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، يُمكِّنها من مدِّ جسور العلاقات الاقتصادية والسياسية مع مختلف دول العالم، وبما يُؤهلها لتكون منافساً لأمريكا كدولة عظمى.
  • تصدر التجارة السلعية الدولية: تحتلُّ الصين المرتبة الأولى في قائمة الصادرات السلعية على مستوى العالم حسب بيانات عام 2018، حيث حققت تلك الصادرات نحو 2.48 تريليون دولار، وبما يعادل نسبة 12.6% من إجمالي الصادرات السلعية للعالم في نفس العام والبالغة 19.6 تريليون دولار، وتأتي أمريكا في المرتبة الثانية بعد الصين بقيمة 1.66 تريليون دولار، ثم ألمانيا بقيمة 1.56 تريليون دولار [7].
وبالرجوع لبيانات عام 2000 نجد أنَّ القفزة التي حققتها الصادرات السلعية الصينية كبيرة على مدار نحو 18 عامًا، ففي عام 2000 كانت تلك الصادرات لا تتعدى 249 مليار دولار، وبما يعادل نسبة 3.8% من إجمالي الصادرات السلعية العالمية، حيث كان إجمالي الصادرات السلعية على مستوى العالم بقيمة 6.5 تريليون دولار.

وعلى الرغم من أنَّ البعض كان ينظر إلى الصين على أنها مُجرد ورشة العالم في بداية انطلاقها الاقتصادي في التسعينيات وما بعدها، إلا أنها استطاعت أن تطور أداءها، من حيث نوعية صادراتها السلعية، والتي اتسعت لتشمل الصادرات السلعية الإلكترونية، متجاوزة بذلك الصادرات السلعية التقليدية من ملابس وأحذية وأدوات كهربائية. ويبرهن على ذلك البيانات الخاصة بالصادرات متقدمة التكنولوجيا، حيث حققت الصين في عام 2018 صادرات من هذا النوع بنحو 504 مليار دولار [8]، وبنسبة تصل إلى 25.3% من إجمالي الصادرات السلعية للعالم في هذا المجال. بينما في عام 2000، كانت صادرات الصين من السلعة ذات التكنولوجيا المتقدمة لا تزيد عن 41.7 مليار دولار، وبما يمثل نسبة 3.5% من إجمالي صادرات العالم السلعية من نفس التكنولوجيا والبالغة في عام 2000 ما قيمته 1.16 تريليون دولار.

وعلى الجانب الآخر المكمل للصادرات السلعية في مجال التجارة السلعية، وهو الواردات، نجد أنَّ الصين تحتلُّ المرتبة الثانية على مستوى العالم في عام 2018، بقيمة 2.13 تريليون دولار، وبما يمثل نسبة 10.7% من إجمالي الواردات السلعية في العالم البالغة 19.8 تريليون دولار في نفس العام، ويسبق بكين وفق هذا المؤشر أمريكا بقيمة واردات سلعية 2.61 تريليون دولار، بينما تحتلُّ ألمانيا المرتبة الثالثة بعد الصين بقيمة واردات سلعية 1.28 تريليون دولار[9].

وإذا عدنا لبيانات عام 2000 لنرصُد التطور في مشاركة الصين في التجارة العالمية، نجد أنَّ وارداتها السلعية كانت بقيمة 225 مليار دولار، وبما يمثل نسبة 3.3% من إجمالي واردات العالم السلعية في نفس العام، البالغة 6.69 تريليون دولار.
  • التجارة السلعية للصين بين عامي 2000 و2018
القيمة بالمليار دولار

نموذج.PNG



ومن خلال بيانات الجدول، نجد أنَّ كافة مؤشرات التجارة السلعية في عامي المقارنة، إيجابية بالنسبة للصين، فتقريباً تضاعفت حصة الصين في التجارة السلعية الدولية قرابة 10 أضعاف. ومما مكَّن الصين من أداء اقتصادي جيد، أنها ما تزال تحقق فائضاً من تجاراتها السلعية مع العالم.


2018101524616398.jpeg

من الصعود إلى الهيمنة

لم يكن الجُهد الذي بذلته الصين على مدار ما يزيد عن ثلاثة عقود، وتصدُّرِها المشهد الاقتصادي العالمي، ليذهب سُدى دون أن يوظف ويترجم إلى نفوذ، يُمكنها من مشاركة قوية في خريطة القوى الكبرى على مستوى العالم، وأن يصبح لها نفوذ إقليمي ودولي، وفيما يلي نشير إلى أدوات ومظاهر هذا النفوذ.
  • بنك البنية الأساسية: في مطلع 2016 أعلنت الصين عن إطلاق "البنك الآسيوي للبنية التحتية" برأس مال قدر بـ100 مليار دولار، اكتتبت فيه الصين بنحو 30 مليار دولار، وشارك في تأسيسه 74 دولة أخرى، ولم يقتصر طلب العضوية في هذا البنك على الدول الآسيوية أو النامية في إفريقيا أو أمريكا اللاتينية، لكن دول أوروبية عريقة طلبت الانضمام له، ومنها النمسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا. وفي يوليو 2019 وصل عدد الدول الأعضاء في البنك الآسيوي 100 دولة، كما قدر التمويل الذي قدمه البنك لنحو 46 مشروعًا في 18 دولة بنحو 8.5 مليار دولار [10]. وتعوّل الدول النامية كثيرًا على دور البنك الآسيوي ليكون منافسًا للبنك الدولي الذي تسيطر عليه أمريكا ودول غربية أخرى منذ إنشائه في عام 1947. كون أنَّ القروض المنتظرة من هذا البنك لن تكون مشروطة باتباع سياسات معينة كما يفعل البنك الدولي [11]. وبالفعل بدأ البنك نشاطه في الربع الثاني من عام 2016، وأعلن عن حزمة تمويلية تُقدر بـ10 مليارات دولار إلى 15 مليار دولار، خلال السنوات الخمس الأولى من عمل البنك.
29-03-2019-3.png


وتحتاج آسيا وحدها إلى نحو 8 تريليونات دولار لتغطية مشروعات البنية التحتية حتى نهاية 2020، وهو ما يفتح المجال بشكل كبير أمام البنك، للعمل داخل دول آسيا وغيرها من الدول الراغبة في الاستفادة من خدمات البنك.

وفي حين عارضت أمريكا قيام البنك الآسيوي من حيث الفكرة، فإنَّ البعض رأى أنَّ إقدام الصين على هذه الخطوة، أتى بعد أن تيقَّنت من أنَّ مسألة إصلاح المؤسسات المالية الدولية التي نادت بها دول كثيرة عقب الأزمة المالية العالمية عام 2008، أصبح مستحيلًا [12]. وتُعتبر خطوة انضمام دول أوروبية للبنك ومخالفة طلب أمريكا بعدم الانضمام إليه، مؤشراً على قدرة الصين على خلق المصالح الاقتصادية مع أوروبا، وتجاوز نفوذها السياسي والدبلوماسي للمحيط الآسيوي الذي ركَّزت عليه الصين خلال الفترة المالية، سواء فيما يتعلق بالتجارة البينية، أو تسهيلات التبادل عبر العملات المحلية.

وفي خطوة تُعدُّ تكريسًا للنفوذ الصيني في المنطقة، فقد استفادت إيران التي سارعت لطلب عضوية البنك، بالحصول على قرض منه بنحو 100 مليون دولار، وقدَّمت على قرض آخر بنحو 500 مليون دولار، وذلك خلال عام 2017، وهو ما يُعدُّ فرصة لدولة مثل إيران للحصول على التمويل، الذي حرمته منها مؤسسات التمويل الدولية [13].

%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B2%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-2.jpg
  • مبادرة الحزام والطريق: مشروع تهدف الصين من خلاله إلى ربط مصالحها التجارية بين قارات العالم المختلفة، إفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا الجنوبية والوسطى، تمَّ الإعلان عن المبادرة عام 2013، وكانت آخر قمة عقدتها الصين بشأن تطورات مشروعها في أبريل/نيسان 2019، وحضرها ممثلو 150 دولة، إلا أنَّ الحضور الأوروبي كان منخفض التمثيل، إذ اقتصر على مستوى الوزراء، وهو ما يعكس مخاوف أوروبا وأمريكا من المشروع، كونه يُؤصل لدور الصين المتصاعد في الاقتصاد العالمي، كما يعمل على زيادة نفوذها الاقتصادي والسياسي مع الدول التي وقّعت على المشاركة في المبادرة.
ويشير البعض إلى سعي الصين لتوريط البلدان المشاركة في الديون، وبالتالي خضوعها لاشتراطات لاحقة سوف تفرضها الصين على تلك البلدان.

وثمَّةَ رأي آخر يذهب إلى أنَّ الصين اتجهت إلى هذا المشروع لتصريف فائضها الصناعي، ودلَّلوا على ذلك بأنَّ بكين تُنتج سنوياً قرابة 1.1 مليار طن من الحديد، بينما استخدامها المحلي لا يتجاوز 800 مليون طن، وبالتالي فمشروعات البنية الأساسية التي يتضمنها المشروع من طرق وأنفاق وكباري، جديرة بأن تمتصَّ فائض الإنتاج الصيني بشكل كبير.

وبعد أن مضى على إطلاق الصين لهذه المبادرة، نحو 6 سنوات قدرت استثمارات الصين في مشاريع متعددة تخص المبادرة بنحو 80 مليار يورو، كما قدمت المصارف قروضاً تتراوح ما بين 175 و265 مليار يورو. علماَّ بأنَّ عدد الدول التي قبِلت المشاركة في مشروعات مبادرة الحزام والطريق بلغ 123 دولة [14].

ولا يمكن فهم هذا الأداء الصيني من خلال التوسُّع وخلق المصالح المشتركة، بعيداً عن تطلُّعات بكين لأن تكون بالفعل قوة عظمى ومنافس قوي على خريطة القوى الاقتصادية العالمية. فمعظم المنتجات المستخدمة في مشروعات مبادرة الحزام والطريق هي منتجات صينية، كما أنَّ الشركات الصينية هي من تقوم على تنفيذ المشروعات خارج الصين، ما يجعل الاقتصاد الصيني في حالة من التشغيل بشكل مستمر.

ولا تقف المخاوف من قبل بعض الدول على الديون فقط، بل ثمَّةَ مخاوف متعلقة بالبيئة، كما ينظر البعض لهذه المبادرة، على أنها تفتقد إلى التوازن فيما يتعلق بمصالح الصين والدول الأخرى المشاركة في المبادرة [15].
img.png
  • صراع التكنولوجيا: ثمة مجموعة من المؤشرات في هذا المجال تعكس التقدم الكبير الذي أحرزته الصين خلال الفترة من 2000 وحتى عامي 2015 و2016، وذلك وفق ما تظهره أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي. وأهمها ما يلي:
    • الإنفاق على البحث والتطوير: بلغ متوسط الإنفاق على هذا المجال كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي على مستوى العالم 2.23% في عام 2016، وكانت هذه النسبة في الصين 2.11% أي ما يعادل 235 مليار دولار، ونلمس التطور في هذا الجانب، إذا ما اطَّلعنا على بيانات عام 2000، حيث كانت هذه النسبة في الصين بحدود 0.89% [16].
    • تطوُّر عدد الباحثين العاملين في مجال البحث والتطوير: فالمتوسط العالمي عام 2015 هو 1459 باحث لكل مليون شخص، أما الصين فقد ارتقت بنفسها في هذا المجال من 541 شخص لكل مليون في عام 2000 إلى 1206 لكل مليون شخص في عام 2015 [17].
    • عدد المقالات بالمجلات العلمية والتقنية: بلغ المتوسط العالمي في عام 2016، نحو 2.2 مليون مقال، بينما الصين حققت في نفس العام 426 ألف مقال، وبما يعادل نسبة 19.3% من الإنتاج العالمي، في حين كان أداؤها في 2006 لا يتجاوز 86 ألف مقال فقط [18].
لذلك، تغيَّرت بنية الإنتاج في الصين على مدار الفترة من 2000 إلى 2018، وهو ما عكس وضع الصين التنافسي في العالم، فهي تهتم بالتكنولوجيا بشكل كبير، من حيث حجم الإنفاق وعدد الباحثين العاملين في مجال البحث والتطوير، ولها مساهماتها من خلال الإنتاج العلمي. ومثل مجال التكنولوجيا أحد أهمِّ محاور الصراع مع أمريكا، ولعل اتهام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للصين بسرقة التكنولوجيا الأمريكية يعكس هذه الحالة البينة من الصراع، ويمكننا أن نُشير إلى حادثتين فقط لأهمِّ ملامح هذا الصراع:
  • الأولى: التي تتعلق بمنع مجلس الأمن القومي الأمريكي بيع شركة برودكوم الأمريكية لصالح شركة كوالكوم الصينية، على الرغم من أنَّ الصفقة كانت تُعدُّ من أكبر الصفقات في مجال التكنولوجيا، حيث عرضت الشركة الصينية 176 مليار دولار للاستحواذ على الشركة الأمريكية، وفي تقرير مجلس الأمن القومي الأمريكي لترامب تمت الإشارة إلى مخاوف أن تمنع الشركة الصينية أموال البحث والتطوير بعد استحواذها على الشركة الأمريكية، وهو ما يُمكِّن الصين من الاستحواذ على تكنولوجيا الموبايل في الجيل التالي، لذلك اتخذ ترامب قراره بإيقاف الصفقة في مارس/آذار 2014 [19].
  • الحادثة الثانية فتتعلق بالصراع بين شركة جوجل الأمريكية وهواوي الصينية، التي كادت أن تُصيب سوق تجارة الموبايل الصيني بالشلل، بسبب تهديد الشركة الأمريكية بمنع مدِّ شركة هواوي بتكنولوجيا السوفت وير، وقد بدأت المشكلة بقيام السلطات الكندية باعتقال المديرة الصينية لشركة هواوي، بطلب من السلطات الأمريكية، لاتهام شركة هواوي بمدِّ إيران بخدمات تجسُّس عبر تكنولوجيا الاتصالات [20]، إلا أنَّ ملف هذه القضية تمَّ تسويته في إطار ملفات كثيرة عالقة بين أمريكا والصين.
وتلاحق بكين الحركة العلمية في واشنطن عبر مبتعثيها الذين يتزايد عددهم بشكل كبير، فالصين تأتي على قائمة الدول التي لديها بعثة طلابية في أمريكا، فبحسب بيانات يونيو/حزيران 2019، بلغ عدد الدارسين الصينيين 360 ألف طالب في أمريكا. وهؤلاء الطلاب متميزون علمياً، وعادة ما ترتبط البعثات العلمية الصينية الخارجية بمشروع النهضة والتنمية هناك، وإن كان توتُّر العلاقات بين الصين وأمريكا بسبب الحرب التجارية، قد أثَّر على هذا الوجود الطلابي، حيث حذَّرت الصين طلابها غير مرة من مخاطر عدم اكتمال دراستهم بسبب المضايقات التي تمارسها أمريكا مثل استغراق وقت أطول وتأخُّر الحصول على تأشيرات دخول الطلاب الصينيين إلى أمريكا وغيرها من الإجراءات السلبية [21].
1-163.jpg
  • الحرب التجارية: منذ سنوات والميزان التجاري بين الولايات المتحدة والصين، يشهد فائضاً متزايداً لصالح بكين، وقبل مجيئ ترامب في بداية عام 2017، أعلن في برنامجه الانتخابي عن توجهاته فيما يتعلق بالتجارة الخارجية لأمريكا، وأنه سيفرِض رسوماً جمركية على الواردات الأمريكية من العديد من الدول، وعلى رأسها الصين، إلا أنَّ التفعيل الحقيقي لهذه التهديدات دخل حيَّز التنفيذ في عام 2018، حيث فرضت أمريكا رسوماً جمركية على الواردات الصينية في مارس/آذار 2018 بنحو 60 مليار دولار [22]، بالإضافة إلى الواردات من دول أخرى مثل الاتحاد الأوروبي واليابان، ثمَّ توالت قرارات فرض الرسوم الجمركية بين أمريكا والصين منذ ذلك التاريخ، ما أثار مخاوف كبيرة لدى المعنيين بالاقتصاد العالمي، وبخاصة المؤسسات المالية الدولية، كما فرضت قضية حماية التجارة نفسها على أجندة اجتماعات مجموعة العشرين منذ ذلك التاريخ.
وعلى الرغم من أنَّ ترامب صعَّد من حربه التجارية على الواردات الصينية خلال عام 2018، إلا أنَّ إحصاء التعداد الأمريكي يُبيِّن أنَّ التبادل التجاري بين البلدين أسفر عن فائض لصالح الصين بلغ 419 مليار دولار، بعد أن كان بحدود 375 مليار دولار بنهاية 2017 [23]، وهو ما يعني أنَّ الصين استطاعت أن تُجذِّر علاقاتها التجارية داخل أمريكا، وأنَّ ما قام به ترامب على مدار عام 2018 من وضع الحواجز الجمركية أمام الواردات الصينية لم يُفلح في الحدِّ منها، بل زادت عما كانت عليه. وحتى نتائج النصف الأول من عام 2019 حققت فيه الصين فائضاً تجارياً مع أمريكا بنحو 167 مليار دولار.

وبلا شك فإنَّ الحرب التجارية التي أشعل جذوتها ترامب لها آثارها السلبية على الاقتصاد العالمي، وسوف تتأثر بها الصين في الأجلين المتوسط والطويل، إذا ما بقِي ترامب رئيساً لفترة ثانية حتى عام 2024، إلا أنَّ بكين أدارت أزمة الحرب التجارية مع ترامب بحِنكة بالغة، إذ كانت كل قراراتها مساوية لما يقوم به ترامب من فرض رسوم جمركية، دون أن تُغالي في قرارات من شأنها أن تُؤثِّر على صادراتها أو علاقاتها التجارية مع أمريكا، ومن جانب آخر، تبنَّت الصين دومًا في المحافل والاجتماعات الدولية والإقليمية الدعوة إلى احترام حرية التجارة، وهو ما جعل كافة المتضررين من القرارات الأمريكية إلى مناصرة وتبني الموقف الصيني.

وبالتالي، فإنَّ موقف الصين القوي، ظلَّ حريصاً على السوق الأمريكي، فهو مثَّل ما نسبته 21.6% من إجمالي الصادرات الصينية في عام 2018، ومن الصعب على بكين أن تُفَرِّطَ في هذا السوق، كما أنَّه من غير المتصور، أن تتخلى الأسواق الأمريكية عن السلع الصينية التي اعتادت عليها لسنوات طويلة، لما تتمتع به من مزايا انخفاض الأسعار وجودة المنتجات التي تذهب إلى السوق الأمريكي.

وإذا كانت أمريكا تُمثِّل 21.6% من قيمة الصادرات السلعية للصين، فهناك نحو 80% من صادرات الصين موزَّعة على باقي دول العالم، وتجتهد بكين في عدم تركيز صادراتها في دولة أو بقعة معينة، وهذا ما نلمسه من جهودها في مشروع طريق الحرير بما يؤدي إلى تقوية موقفها على خريطة القوى الاقتصادية الكبرى على مستوى العالم، ويزيد من نفوذها.

2019_3_27_8_26_25_842.jpg

دور الاقتصاد في الدفع بالصين كقطب ثان يواجه أمريكا

الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة، وما من إنسان أو مؤسسة أو دولة تتاح له فرصة الثروة الكبيرة، إلا ويسعى للسلطة، بغرض زيادة هذه الثروة وحمايتها، وبقائه لأكبر فترة ممكنة في دائرة الضوء والنفوذ. والصين ليست شاذَّة عن هذه القاعدة، بل كثيرًا ما تماهت مع سلوك أمريكا في العديد من الملفات السياسية، وذلك بحكم أمرين:
  • الأول: الصين ليست دولة ديمقراطية، وبالتالي لا تُعينها قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية أو مواجهة الاستبداد.
  • الثاني: أنَّ ما يهمها في علاقاتها بمختلف الدول مصالحها الاقتصادية وفقط.
فالصين لم يكن لها موقف إيجابي تجاه ما حدث من ثورات مضادة في دول الربيع العربي، بل سعت لمدِّ الجسور مع النظم الانقلابية وقادة الحروب الأهلية في المنطقة العربية، كما تحافظ على علاقاتها مع السعودية والإمارات لاعتبارات اقتصادية، وبخاصة وارداتها من النفط.

ومؤخراً استجابت الصين للتفاعل الإيجابي للعقوبات الاقتصادية التي فرضتها أمريكا على النفط الإيراني، مع مطلع مايو/أيار 2019، على الرغم مما قدمته إيران للصين من النفط الرخيص على مدار عقدين من الزمن تقريباً، وكذلك منحها العديد من المشروعات في قطاع النفط وغيره من القطاعات الاقتصادية، ولكنَّ حسابات المصالح كانت غالبة وحاضرة، فالصين لا تضحي بالسوق الأمريكي الذي يستحوذ على 20% من صادراتها السلعية من أجل الوقوف بجوار إيران.

وهناك العديد من الملفات السياسية شديدة الحساسية بين الصين وأمريكا لكنها تدار فيما يُمْكِن تسميته بالحرب الباردة، وعلى رأسها ملف تايوان، فأمريكا تدعم انفصالها عن الصين، بينما لا تعترِف بكين بها كدولة إلى الآن، وتسعى لضمها مرة أخرى للدولة الصينية.

كما أنَّ العلاقة بين البلدين في شبه القارة الهندية تأتي في إطار الصراع البارد أيضًا ولكن سعيهما لم يتوقف، فكل من الهند وباكستان وبنجلاديش يتمتع بعلاقات كبيرة على الصعيد السياسي والعسكري مع أمريكا، بينما ترى الصين ضرورة طيِّ صفحة علاقاتها السلبية السابقة، وأبرزها الحرب مع الهند في مطلع الستينيات من القرن العشرين، التي انتهت بهزيمة الهند [24].

وعلى نفس المنوال تتمتع أمريكا بعلاقات جيدة مع دول جنوب شرق آسيا، إذ دعمت تجارب هذه الدول على الصعيد الاقتصادي، من خلال مؤسسات التمويل الدولية، وكذلك اندماج دول جنوب شرق آسيا في اقتصاديات العولمة، بينما الصين لديها تاريخ طويل من الصراعات مع الدول الآسيوية، وإن كان هناك دعوات لطيِّ هذه الصفحات الدامية، ولكنها أشدُّ وطأةً فيما يخصُّ علاقة الصين باليابان التي تربطها علاقات قوية بأمريكا.

وثمَّةَ سيناريو لدى كثير من أبناء الدول النامية والصاعدة الذين سئموا من السياسات والممارسات الأمريكية على مدار العقود الماضية، يتمنون صعود الصين كقوة دولية كنِدٍ لأمريكا، بل يحلمون بما هو أكبر من ذلك بتفكك وسقوط أمريكا.

لكن كما يقال "ليس كل ما يتمناه المرء يُدركه" فعلى الرغم من أنَّ أمريكا تشهد تراجعاً في أدائها ونفوذها في بعض المناطق، لكن تظلُّ في ضوء حيوية مؤسساتها بحضور دولي طاغٍ، وستبقى قوة كبرى على الخريطة الاقتصادية والسياسة للعالم.

والمتابع لإدارة الاقتصاد العالمي يلاحِظ أنَّ نفوذ أمريكا والغرب شديد الوضوح فيما يتعلق بإدارة الثروة على مستوى العالم، والسماح برواج هنا وكساد هناك، كما أنَّ النفط الذي يُمثِّل عصب الحضارة في العصر الحديث لا يزال تُمسك به أمريكا، من حيث منابعه وإدارة سوقه [25]، فيكفى خروج أخبار عن الاحتياطي الإستراتيجي الأمريكي أو زيادة أو نقص الحفارات العاملة في الحقول النفطية الأمريكية، أو المتغيرات النقدية والمالية بأمريكا لينقلب سوق النفط رأسًا على عقب. وسيكون للصين نفوذ ودور يحقق لها نديتها كقطب منافس لأمريكا إذا دخلت هذه اللعبة، لإدارة الثروة والمال في العالم.

ولذلك فإن الصراع الذي تخوضه الصين مع أمريكا، هو صراع على الثروة والسلطة والنفوذ بينهما وليس من قبيل أن تكون الصين زعيمة للدول المستضعفة في مواجهة الدول الرأسمالية التي نهبت ثروات الدول النامية، مثل أمريكا والغرب.

الخاتمة
كثيراً ما يتحدَّث أبناء الدول النامية عن معارك الصراع بين القوى الدولية، وبخاصة معارك الكبار، سواء كانت تلك المعارك تستخدم الأدوات الخشنة أو الناعمة، ولكن في الوقت نفسه لا يستخلصون الدروس، ولا يستفيدون من التجارب.

فالعولمة التي طرقت أبواب كافة دول العالم في مطلع التسعينيات، كان حظُّ الدول النامية ومن بينها الدول العربية، الحديث عن التعريف وسمات العولمة وميزاتها ومخاطرها، بينما الصين كان لها أداء مختلف، فلم تتوقف عند تناول الظاهرة بالحديث والتشريح والتشخيص، لكن حدَّدت أهدافها لتكون أحد اللاعبين الفاعلين في هذه الخريطة الجديدة، والنظام العالمي الجديد، الذي قدم الاقتصاد كبوابة ومكون رئيس له.

استقبلت الصين الاستثمارات الأجنبية، حتى أصبحت ثاني دولة تستقبل في هذا المجال على مستوى العالم، وطوَّرت بنيتها التحتية، ووظفت اليد العاملة بها، وخطَّطت للقضاء على الفقر بنسبة كبيرة، ثم تحولت إلى قوى فاعلة خارج حدودها من حيث الصادرات السلعية أولًا، ثم صادرات الخدمات، من خلال السياحة والمقاولات ومؤخرًا التعليم. كما أدركت الصين أدوات الهيمنة الأمريكية واستخدام أدواتها المالية والنقدية للعبث بثروات الشعوب، فعملت على حماية ثرواتها، سواء من خلال مبادرة الطريق والحزام، أو تقديم القروض والاستثمارات في مختلف دول العالم، كما لم تهمل مكوناً مهماً إلى جوار التراكم الأاسمالي، وهو التقدُّم التكنولوجي.

ومن هنا يمكن القول بأنَّ الصعود الصيني قادم بلا شك، وأنَّه سيكون في جزء كبير منه، خصمًا من حصص الدول النامية والصاعدة، وقد يختلف الصينيون والأمريكان في بعض القضايا والملفات، ولكن سيجمعهم تقاسم ثروات العالم أكثر مما يُفرقهم. وسيبقى للدول النامية والعرب الحديث عن أطراف الصراع وأدواته وتوقع سيناريوهاته.


المصدر
 
عودة
أعلى