شكيب أرسلان ... أمير البيان

Nabil

التحالف يجمعنا
مستشار المنتدى
إنضم
4/5/19
المشاركات
10,863
التفاعلات
19,883
شكيب أرسلان ... أمير البيان
1286 هـ / 1869 - 1366هـ /1946



جاحظ عصره، وإمام من أئمة الكتاب، وشاعر مجيد، وناثر فذ، سخر قلمه طويلاً لنصرة قضايا العرب والمسلمين، وهو من العلماء بالأدب والسياسة والتاريخ.

يقول عنه الأستاذ علي الطنطاوي:
(إن شكيب أعظم شخصية عربية، وكان لسان الإسلام، وأحسب أن مقالاته لو جمعت لجاء منها كتاب في ضعف حجم الأغاني).

ولد في الشويفات بلبنان سنة 1286 هـ /1869، من أسرة تنوخية الأصل، والتنوخيون هم الذين كانوا ملوك الحيرة، وتقلب في الوظائف والمناصب، فكان قائم مقام في الشوف ثلاث سنوات، وانتخب نائباً عن حوران في مجلس "المبعوثان" العثماني وهو بمثابة البرلمان لكل الشعوب العثمانية، وسكن دمشق في أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم برلين، ثم انتقل إلى جنيف ليعيش في سويسرا خمساً وعشرين سنة يدافع فيها عن قضايا الإسلام والمسلمين، ثم عاد إلى بيروت فتوفي بها ودفن بالشويفات.

تلك كانت سطوراً مختصرة عن سيرته التي تحتمل مجلدات، وهو من طائفة الدروز الذين يسكنون جبل لبنان، لكن شكيباً كان قد تسنن وتعبد وصلى وصام وحج على منوال أهل السنة، وتزوج امرأة من أهل السنة، ولهذا فمن الدروز من لا يراه درزياً ومن أهل السنة من لا يراه سُنياً لكن زوجه أكدت انتسابه إلى أهل السنة ولله الحمد والمنة، كما ذكر ذلك العالم الأديب أحمد الشرباصي نقلاً عن زوجه نفسها حيث قابلها وذكرت له ذلك، وزوجه هذه شركسية قفقاسية تزوجها الأمير شكيب في اسطنبول لما كان عمرها عشرين سنة، وكان هو قد جاوز الأربعين، وليس له غيرها.

وقد نبغ شكيب أرسلان رحمه الله تعالى مبكراً، فأخذ في نظم الشعر وكتابة المقالات وهو لم يتعد الستة عشر عاماً، ولقد رآه الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية لما نُفي إلى لبنان فقال له: إني أعرف اسمك، وستكون من أعظم الشعراء، هذا وقد كان عمره آنذاك سبعة عشر عاماً، ثم توثقت صلته بالأستاذ محمد عبده، وزاره في مصر وخالطه طويلاً، وجلس إلى جمال الدين الأفغاني باسطنبول، ورأى الشاعر أحمد شوقي فيها، واجتمع بالأستاذ رشيد رضا في بيروت، وكل هذا طبع في قلب الشاب وعقله وجوب العناية بالمصادر الإسلامية والبحث في آلام الأمة وآمالها، والاهتمام بشؤون العالم الإسلامي، وهذا جعله يشارك أمته همومها، فمن ذلك أنه شارك في الجهاد ضد الإيطاليين في ليبيا سنة 1911، وقاد ستمائة جمل تحمل المؤمن من مصر إلى برقة، وظل في موطن الجهاد ثمانية أشهر تقريباً.

وقال الزعيم الليبي سليمان الباروني:
(لو أخذت الحكومة العثمانية بتفاصيل الخطة التي رسمها الأمير شكيب ونفذتها بحذافيرها لما ضاع الأمل في إنقاذ طرابلس وبرقه، أو لاستطعنا على الأقل إطالة الحرب ثلاث سنوات أو أربع).

وسافر إلى المدينة المنورة سنة 1914 ليفتح مدرسة فيها.
وفي أثناء الحرب العالمية الأولى سنة 1915 أقام بمعان - في جنوب الأردن الآن- قرابة شهر ومعه مائة وعشرون مجاهداً، ثم انضم إلى الجيش العثماني الحجازي، وكان لا يثق بالحلفاء ويهاجمهم، ويعارض الثوار العرب في ثورتهم ضد الدولة العثمانية، وذلك لإخلاصه إخلاصاً منقطع النظير لها، ولأنه يعلم أن الخلفاء سيستولون على البلاد العربية بعد الحرب، ولذلك أرسل إلى أحد الأشراف الثوار قائلاً:
(ماذا تصنعون؟ أتقاتلون العرب بالعرب؟ وتسفكون دماء العرب بأيدي العرب، ولأجل أن تكون سورية لفرنسا، والعراق لإنجلترا، وفلسطين لليهود؟).

فلما انتهت الحرب وانهزمت الدولة العثمانية رأى أن الدولة العثمانية بقيادة الكماليين أدارت ظهرها للعروبة والإسلام، وأن مصطفى كمال قد أسرف في عداوة الإسلام، فقرر أن يدعو إلى الوحدة العربية بعد أن كان يدعو إلى الجامعة الإسلامية، وله عذره الواضح في هذا؛ إذ بعد إلغاء الخلافة لم يكن هناك دولة إسلامية جامعة، وكانت الدول العربية والإسلامية تتساقط في أيدي الاحتلال واحدة بعد أخرى، وكانت الأحوال غير مواتية آنذاك للدعوة إلى الجامعة الإسلامية فدعا شكيب إلى الوحدة العربية حتى قال الملك فيصل بن الحسين له: (أشهد أنك أول عربي تكلم معي عن الوحدة العربية وأراد أن تكون وحدة عملية).

هذا على أن شكيب لم ينسى الوحدة الإسلامية لكنه كان سياسياً عملياً يعمل في المتاح له حَسَب أحوال زمانه، هذا وقد كان شكيب حريصاً على إعادة الخلافة عقب إلغائها في تركيا، ويكاتب الشيخ رشيد رضا في ذلك، ويقترح في هذه المسألة اقتراحات لكن الأمر كان أكبر منه.

ثم إنه لما احتلت فرنسا سورية الكبرى رفض أن يبقى فيها فخرج إلى ألمانيا التي كان لها صلات بالدولة العثمانية قوية ودخلتا الحرب معاً، فرحب به القوم، وأقام في برلين، ورافق الإمبراطور غليوم في زيارته لسورية بعد ذلك.

ولما كان مقر جمعية الأمم -عصبة الأمم- آنذاك في جنيف بسويسرا ترك الأمير شكيب إقامته في برلين واستقر في جنيف لمدة ربع قرن تقريباً، مدافعاً عن قضايا العروبة والإسلام، وشارك في أعمال ومؤتمرات كثيرة كانت تعقد في سويسرا وأوروبا ومنها مؤتمرات الوفد السوري الفلسطيني الذي كان يرفع ظلامته إلى جمعية الأمم "عصبة الأمم"،
وما أشبه الليلة بالبارحة!!


من اللطائف عن شكيب:
* لما حج كان الوقت صيفاً فلم يستطع أن ينام ثلاثة أيام بلياليهن، فأرسله الملك عبد العزيز إلى بستان عبد الله السليمان في الزاهر بمكة المكرمة فنـزل في بركة البستان فبرد جسده فنام!! ثم أوصى الملك بإصعاده إلى الطائف حتى يأتي وقت الحج.

* ولما كان في الحجاز عرض عليه الملك عبد العزيز أن يرسل له جارية ليتسرى بها فرفض قائلاً: (إنني متزوج، وأنا أحب زوجتي، وفوق هذا فإن زوجتي تغضب علي إذا عرفت)!!

* له رسالة منشورة باسم "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم" قال عنها الأستاذ رشيد رضا:
(اضطربت بها بعض دول الاستعمار، وزلزلت زلزالاً شديداً، حتى قيل لنا إنها أغرت حكومة سورية بمنع نشرها فيها، وهي أحق بها وأهلها، فانفردت بهذه العداوة للإسلام دون مَن أغروها بها. وكذلك منعت فرنسة دخول هذه الرسالة الجزائر حينئذ، وجعلت عقوبة لمن يطالعها).

أسلوب شكيب في الشعر والكتابة:
كان الأمير شكيب أرسلان يُعَدّ شاعراً من مقدمي شعراء عصره لكنه في النثر من أهل الطبقة الأولى، وكان يُغرب أحياناً في عباراته وكلماته فيأتي بها عربية قحة صعبة، وكان يسجع أحياناً، لكنه إذا أطلق ليراعه العنان فإنه يأتي بكلام رائع جليل، أكتفي منه بهذا الذي كتبه بعد زيارته الأندلس شعراً ونثراً:

يقولون كانت أمةٌ عربية * بأندلسٍ سادت بها جَمَّ أَعْصُرِ
وقد عمرت أقطار أندلسٍ بهم * فكم بلدٍ فخم ومِصْرٍ مُمَصّرِ
وكم أَرْبُعٍ خُضْر وحَرث مطبق * وفاكهة رغد وزهر منوِّرِ
وكم قائد قَرْمٍ وجند مدرب * وكم سائس فحل وأمر مُدبّرِ
وكم بطل إن ثار نقعٌ رأيته * يبيع بأسواق المنايا ويشتري
وما شئت من علم ورأي وحكمة * ودرسٍ وتحقيق وقول محررِ
إلى شمم جم ومجد مؤثل * وفي عزة قَعْسا ووَفْر مُوَفّرِ
نعم كان فيها من نزار ويعرب * جموع نخيل الأرض في يوم محشرِ
فراحت كأن لم تغن بالأمس وانقضى * لهم كل رِكْز غير ذكرٍ مُعطرِ

وقد قال في كتابه "الحلل الأندلسية":
(نعم: حواضر كالبحار الزاخرة، كانت تموج بالبشر، وحصون كالجبال الشامخة تحصى بالألوف... وجيوش كانت حصى الدهناء ورمال البطحاء، ومساجد كانت في الجوامع المشهورة تَغَصّ بألوف الألوف من المصلين، ومدارس كانت مكتظة بالألوف من القراء والطالبين، وما شئت من إسلام وإيمان، وحديث وفرقان، وأذان يملأ الآذان، وما أردت من نحو ولغة وطب، وحكمة ومعان وبيان، بلغة عربية عرباء، يحرسها علماء كنجوم السماء، وما أردت من عيش خَضْل وزمن نَضْر... كل هذا عاد كهشيم المحتظر، كأن لم يَغْن بالأمس، ولم يبق منه إلا آثار صوامت، وأخبار تتناقلها الكتب، كأنه لم يعمر الأندلس من هذه الأمة عامر، ولا سمر فيها سامر...
وأما السائح الشرقي فإنه يقضي سياحته في إسبانيا متأملاً غائصاً في بحار العبر، هائماً في أودية الفكر، كلما عثر على أثر قلبي خفق له قلبه، واهتزت أعصابه، وتأمل في عظمة قومه الخالين، وما كانوا عليه من بُعد نظر، وعلو همم، وسلامة ذوق، ورِفق يد، ودقة صنعة، وكيف سمت بهم هممهم إلى أن يقوموا بتلك الفتوحات فيما وراء النهر في بحبوحة النصرانية، وملتطم أمواج الأمم الأوربية، وأن يبنوا فيها بناء الخالدين، ويشيدوا فيها ألوفاً من الحصون، وأن يملأوها أساساً وغراساً كأنهم فيها أبد الآبدين.
فلا يزال قلب السائح المسلم في الأندلس مقسماً بين الإعجاب بما صنعه آباؤه فيها والابتهاج بما يعثر عليه من آثارهم، وبين الحزن على خروجهم من ذلك الفردوس الذي ملكوه، والوَجْد على ضياع ذلك الإرث الذي عادوا فتركوه، وأكثر ما يغلب عليه في سياحته هناك هو الشعور بالألم، فهو لا يزال يسير بين تأمل وتألم، وتفكر وتحسر...".

تدينه وفهمه للإسلام:
كان الأمير شكيب - في الجملة- متديناً، محافظاً على الصلاة في زمن كانت الصلاة فيه مهجورة من أكثر الناس، وكان محافظاً على دين أسرته، وكان عارفاً بشرائع الإسلام - في الجملة- وإليكم هذه الوقائع التي تدل على هذا:
1. في سنة 1935 رأس الأمير شكيب أرسلان المؤتمر الإسلامي الأوروبي الذي انعقد بجنيف، وكانت إحدى جلسات المؤتمر في يوم جمعة، فأوقف الجلسة ليصلي الحاضرون الجمعة، فخطب المصلين في الفندق وصلى بهم إماماً.
2. في سنة 1937 زار حلب، وخطب في جامعها الكبير قائلاً:
( إن المسلم يستمد استقلاله من القرآن، وإن إيمان المسلم غير الكامل إنما هو إيمان ناقص، ولا توجد الوطنية الصحيحة إلا في قلب المؤمن العامر بالإيمان).
3. أرسل بنتيه إلى لبنان ولم يسمح لهن بالبقاء في جنيف، وذكر السبب لولده غالب عندما اشتاق إلى أختيه وطلب من أبيه إحضارهما فقال:
(إنني أشد منك عذاباً في فراقهن، لكني لا أريد أن يخرجن إفرنجيات، فلو ربيتهن في جنيف لخرجن بدون لغة عربية، وبدون عقيدة إسلامية، وما يعود ممكناً إعادتهن إلى الحجاب متى ذهبن إلى الوطن).
4. عند حديثه عن حدود العلاقة بين الدين والدولة مثل لما يحصل في أوروبا من علاقة بين الفاتيكان وإيطاليا، وفي بلجيكا وغيرها فيقول:
(إذن فالمدنيّة تجتمع مع الدين، والحكومات الشرقية التي تزعم أنها تقطع صلتها بالدين الإسلامي اقتداء بحكومات أوروبا - التي تزعم عنها قطع الصلة بالدين المسيحي- إنما هي حكومات تضلل أفكار السُذّج من رعيتها، وتموّه عليهم، وتقصد حرباً وتوري بغيرها، وناشروا دعايتها في مصر والبلاد العربية كاذبون).
فكان شكيب بهذا من أوائل من رد على العلمانيين في العالم العربي.

لكن هذا كله لا يعني أنه بريء من أخطاء شرعية وقع فيها لكن أقول إنه في الجملة متدين بدين الإسلام معتز به، مقيم للشعائر، وهذا من مثله في ذلك الزمان عزيز، والله أعلم.
وبعض ما ذكرته يؤيد ما نقلته في بداية المقالة عن سنيته، والله أعلم.

همة شكيب:
كان الأمير شكيب أرسلان ذا همة عالية متوقدة تسوقه إلى العمل الكثير بدون كلل ولا ملل، ومن صور تلك الهمة:
1. رحلاته:
قد ارتحل الأمير كثيراً إلى بلدان عديدة، في زمن كان الانتقال فيه بالقطار والسيارة والباخرة هو الغالب أما السفر بالطائرة فكان قليلاً؛ إذ لم تنتشر الطائرات آنذاك انتشارها هذا الزمان، فكان قد زار الاتحاد السوفيتي بمناسبة مرور عشر سنوات على بدء الثورة البلشفية، وذلك سنة 1927 فسافر بالقطار إلى موسكو، وفي السنة نفسها زار أمريكا بدعوة من عربها للمشاركة في مؤتمرهم في ديترويت.
وفي سنة 1348/1929هـ حج بيت الله الحرام، وأعجبه أن لم ير في البلاد إلا مسلمين وليس فيها أثر للاحتلال.

وفي سنة 1930 ارتحل إلى الأندلس (اسبانيا) ماراً بفرنسا، وكتب عن هذه الرحلة كتابه "تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط".
وارتحل إلى البوسنة والهرسك، وألف فيها كتاباً ما زال مخطوطاً.
وفي سنة 1934 اشترك في الوفد الذي سعى في الصلح بين الملك عبد العزيز بن سعود والإمام يحيى إمام اليمن، فنجح الوفد في مهمته وتوقفت الحرب.
وفي السنة نفسها قابل موسوليني الطاغية الإيطالي، وتحدث معه ليخفف قبضته على مسلمي ليبيا.
هذا عدا عن رحلاته إلى تركيا ومصر وليبيا.

2. كثرة مؤلفاته ورسائله ومطالعاته:
يعد شكيب من المكثرين جداً في التأليف، وصاحب همة عالية جداً في القراءة وسأورد أمثلة على ذلك:
أ. ما كتبه في سنة واحدة فقط هي سنة 1935:
الرسائل الخاصة:1781، المقالات: 167، قصيدتان، كتاب عن أحمد شوقي في 350 صفحة، وحواشي ابن خلدون في 560 صفحة، طبع ديوان أخيه: روض الشقيق، وترجم لأخيه، وفسر غريب الديوان، الجزء الأول من كتاب الأندلس، تهيئة ديوانه الخاص للطباعة، تلخيص كتاب ليفي بروفنسال.
وهذا مقدار عظيم في سنة واحدة.
ب. وقال سنة 1930:
(نحن هنا في ديار غربة، وجميع أشغالنا نقوم بها بأنفسنا؛ إذ ما معين ولا مساعد، ونكتب بخط بناننا ألفاً وخمسمائة صفحة في كل شهر؛ إذ ليس عندنا كاتب سر ولا حافظ أوراق، ولدينا أشغال كثيرة مدهشة تتعلق بمهمتنا السياسية التي هي قضية سورية وقضية فلسطين وغيرها من القضايا العربية، وعلينا أن نقرأ الصحف اليومية، وكثيراً من المجلات والكتب، وأن نراقب حركة العلم والسياسة، وحق العلم أن يطلب من المهد إلى اللحد، ولقد بلغنا سن الستين).

جـ. وكان قد حفظ أكثر مقامات الهمذاني والحريري، وعكف على مقدمة ابن خلدون، واطلع على كتب كثيرة جداً منها: نفح الطيب، والنهاية لابن الأثير، وطبقات ابن سعد، ورحلة ابن جبير، والمخصص لابن سيدة، ولسان العرب، وتاج العروس، ومعاهد التنصيص للشريف العباسي في شرح شواهد التلخيص، وكتب الجاحظ وابن المقفع، والأغاني والعقد الفريد، وخزانة الأدب.
د. وترجم كثيراً من الكتب والمقالات من الفرنسية إلى العربية.

هـ. أما مؤلفاته فهي شيء عجيب، عبر عنه الأستاذ محمد رجب بيومي حفظه الله بقوله:
(لو تفرغت لجنة علمية مخلصة لجمع آثار الرجل ما استطاعت بعد طول الكد اللاغب أن تبلغ شيئاً ذا بال في طريقها البعيد؛ لأن الأمير -كافأه الله أحسن المكافأة- كان يراسل أمهات الجرائد في مصر وسوريا وتونس والعراق ومراكش والمهجر، ويكاتب أفذاذ الأعلام من ذوي الرأي السياسي والأدبي في شتى ديار الإسلام، ثم يصدر مجلة باللغة الفرنسية تكون لسان العرب في دوائر الاستعمار، وقد ذكر أحد أصدقائه أن الرسالة الواحدة من رسائله كانت تتجاوز العشرين صحيفة يكشف فيها الرجل عن دقائق لا يلم بها سواه، وهي بعد رسالة فردية يكتبها الأمير ليقنع صاحبه وحده بوجهة نظره الخاصة في مسألة عامة!! فماذا نقول في مقالاته المسهبة التي كانت تحتل الصفحات الأولى دائماً من أمهات الصحف الذائعة في الشرق الإسلامي؟ ثم ماذا نقول في مذكراته الضافية عن استعمار إيطاليا في طرابلس، وفظائع فرنسا في سورية ولبنان، ومأساة اليهود في فلسطين، ومحاولة الظهير البربري في المغرب، ودور الخلافة العثمانية في الأحداث العربية، ثم تراجمه الضافية لأصدقائه الأعلام ممن فاجأوه بوفاتهم... هذا غير مؤلفاته المتداولة، وهي على كثرتها المشرفة ليست غير صبابة من كأس تمتلئ وتفيض.

إن من يقف على آثار الأمير القلمية وحدها لا يدهشه أن يسمع عن ابن جرير والسيوطي وابن الجوزي ما سمع...

لقد ألف الكاتب الأمريكي لوثروب ستودارد كتاباً قيماً عن حاضر العالم الإسلامي، قام بترجمته إلى اللغة العربية كاتب فلسطيني قدير هو الأستاذ عجاج نويهض، وشاء إخلاص المترجم أن يُعرض على الأمير ليقول كلمة موجزة تكتب في مقدمته، ولكن الرجل المكافح وجد الكتاب المحدود يتحدث عن العالم الإسلامي كله في القارات المختلفة حديثاً يتطلب الإشباع والتفصيل، وقد غفل عن أمور كثيرة ما كان لمثل مؤلفه أن يدركها مهما واصل البحث وأحسن التعليل، فدفعته همته إلى التعليق على كل صفحة من صفحات الكتاب بما يجلو الغامض في زاوية مبهمة أو يرد الحق في خطأ ناشز حتى صار الجزء الواحد بعد تعليقات الأمير أربعة أجزاء ضخمة لا نظير لها فيما كتب يومئذ عن حاضر الإسلام، وقد نسي الناس كلام الكاتب الأمريكي إذ صار دون التعليقات الضافية بحيث لا يشفي غلة القارئ في شيء.

أما تعليقاته على تاريخ ابن خلدون فتنحو هذا المنحى من التوضيح والبسط والاستطراد... حتى خص الأتراك وحدهم بثلاثمائة صحيفة من ذات الحجم الكبير، وأترك للقارئ أن يتصور تعليقاً عن أمة من الأمم يصل إلى ثلاثمائة، ولو أن الأمير أفرد مؤلفاً خاصاً بالأتراك وخرج مستقلاً في هذا العدد من الصفحات لكان عملاً قائماًً برأسه).

3. كثرة مناصبه ووظائفه وأعبائه:
كان الأمير شكيب كثير المناصب والوظائف، فقد تولى في شبابه قائم مقام قضاء الشوف لبنان لمدة ثلاث سنوات، ثم توالت عليه المناصب والوظائف، فقد كان عضواً في المجمع العلمي العربي (مجمع اللغة العربية) في دمشق ثم رئيساً له، وكان رئيس اللجنة الجرمانية الأفغانية التي تألفت في برلين سنة 1921، ورئيس النادي الشرقي في برلين، وعضو الجمعية الآسيوية الفرنسية، وأمين سر المؤتمر الإسلامي الكبير الذي انعقد بمكة المكرمة، وكان عضواً في كثير من الوفود التي عقدت مؤتمراتها في أوروبا دفاعاً عن قضايا العرب والمسلمين، وكان مفتشاً لبعثات الهلال الأحمر المصري، وكان نائباً عن حوران في مجلس المبعوثان العثماني.. وإذا نظر الناظر إلى هذه الأعمال والأعباء مع أعبائه التي ذكرتها في الفقرتين السابقتين علم أي صنف من الرجال كان شكيب، وأي همة كانت له.

4. استمرار العمل والمطالعة على اعتلال في صحته:
كان جسد شكيب قد كَلّ وتعب من كثرة العمل والجهد في المطالعة، لكنه لم يتوقف قط، وقال عن نفسه:
(بلغنا سن الستين، وأصبحنا مضطرين لمداراة صحتنا، وتجدنا نغسل أعيننا بمغلي البابونج مرتين وثلاثاً كل يوم بدون فتور؛ تسكيناً للحريق الذي يصيبها من فرط الكتابة والمطالعة).

وكان مريضاً بتصلب الشرايين، والكلى، ولما بلغ السابعة والخمسين اضطر للاستعانة بكُتّاب يملي عليهم فيكتبون، وقد منع بعد ذلك من الكتابة بأمر الطبيب بسبب ضعف البصر وارتعاش اليد.

5. معرفته باللغات:
كان يتقن العربية جداً بل يعد في الصف الأول من أدبائها وعلمائها، ويتقن التركية والفرنسية، ويعرف الألمانية معرفة متوسطة، ويعرف الإنجليزية ومعرفته بها أحسن من معرفته بالألمانية، وقد ساعده إتقانه للفرنسية على الاطلاع على علوم وفنون وآداب كثيرة لم تكن متاحة لعارفي العربية وحدها آنذاك.

مكانة شكيب:
ذكر الأستاذ أحمد الشرباصي في كتابه "شكيب أرسلان: داعية العروبة والإسلام" خبراً له دلالته، فقال:
نشرت مجلة الضياء الهندية خبراً مطولاً عن مجمع انعقد في سنة 1935 ليبحث أي الرجال من المسلمين يستحق بأن يوصف بأنه أعظم رجل في العالم الإسلامي اليوم؟ وقد حضر الاجتماع عدد كبير من الأدباء والمفكرين، وخطب كل واحد منهم يؤيد رأيه فيمن يكون أرجح ميزاناً بين رجال الإسلام المعاصرين، وترددت أسماء محمد إقبال وشكيب أرسلان ومحمد رشيد رضا وأبو المكارم الدهلوي وسليمان الندوي وعبد الكريم الخطابي والسيد أحمد الشريف السنوسي ومولانا محمد علي وحسين أحمد المهتدي وغيرهم، ولكن الأمير شكيب أرسلان فاز بأكثرية الأصوات في هذا الاجتماع.
وهذا يدل على مكانة شكيب عند العجم، ولا شك أن مكانته عند العرب أعظم وأجلّ، لكن هذا الجيل اليوم لا يكاد يعرف عنه شيئاً، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفاته:
انتقل إلى وطنه لبنان قبل وفاته بشهور، وسُعد به إذ رآه مستقلاً، وكان ذلك سنة 1946، لكنه لم يبق سوى بضعة أشهر ثم توفي بعدها ليلة الخامس عشر من المحرم سنة 1366/ 9 ديسمبر 1946، وصلي عليه في الجامع العمري ببيروت.
وقبل أن يموت بأيام أوصى وصيته الأخيرة، وكان فيها: (أوصيكم بفلسطين)، وهذا قبل احتلالها بسنة وبضعة أشهر، فرحمة الله تعالى رحمة واسعة، وعوض الأمة عنه خيراً.

مزايا شكيب في سطور:
كان الأستاذ أحمد الشرباصي -رحمه الله- في دراسته عن شكيب قد ذكر مزاياه، وها أنذا أورد بعضها في سطور موجزة مثل العناوين:
1. شارك في الإحياء اللغوي، حيث استعمل مفردات كانت مهجورة، وبذل جهوداً في التعريب، ووضع مصطلحات عربية للألفاظ الاصطلاحية الإفرنجية، وكان هذا عملاً مهماً، بل هو من بواكير التعريب، وله نظريات في الأدب واللغة جليلة، وشارك في إحياء الشعر العربي.
2. بذل جهوداً كبيرة في الترجمة عن الفرنسية والتركية، وكان بهذا أحد الرواد في هذا الباب.
3. بذل جهوداً كبيرة في إحياء تاريخ العرب وتاريخ الإسلام وتتبع مآثر العرب والمسلمين في الشرق والغرب، وعَرّف بحاضر المسلمين في زمانه.
4. شارك في نشر التراث العربي وتحقيق المخطوطات.
5. له آراء قيمة عن السياسة، ومشاركة حسنة فيها، كما بينت في أثناء المقالة.
6. له رحلات جليلة كان لها أثر كبير في تحريك الراكد من الأحوال العربية والإسلامية آنذاك.

هذا وقد ذكرت في أثناء المقالة غير ذلك من المزايا، وإن كان من شيء بقي فهو اعتزازه الكبير بالعربية والإسلام.

تلك كانت سطوراً من سيرة الأمير شكيب الجليلة المطولة، وهي لا توفيه حقه لكن تظهر شيئاً من عمله وجهده وجهاده وهمته، وهذا مما يحتاجه أهل العصر والأجيال القادمة، فرحمه الله وغفر له.

عن موقع التاريخ
 
تعليق للأستاذ محمد خطاب سويدان :

رحم الله الامير شكيب ارسلان كان مثالا للرجل المخلص لدينه وأمته ، أمضى عمره كله مجاهدا بنفسه وقلمه ، أهمته الأمة العربية والإسلامية فكان إماما في القلم والعمل يدعو لنهضتها ، ويدعو الي رقيها وتخليصها من الاستعمار ، وكذلك اصطفاف بعض العرب ضد الدولة العثمانية ، وهو القائل لمن اراد له ان يكون مساندا للانفصال :
ستأتي أيام هي أحلك من السواد على العرب إذا ساهموا في هذا الأمر .
 
عودة
أعلى