يوم دنشواي / كريم رمضان

  • بادئ الموضوع Nabil
  • تاريخ البدء

Nabil

التحالف يجمعنا
مستشار المنتدى
إنضم
4/5/19
المشاركات
10,804
التفاعلات
19,817
يوم دنشواي

كريم رمضان



في يوم الأربعاء 13 يونيو من عام 1906 وصلت كتيبة الميجور كوفين –إحدى كتائب الجيش الإنجليزي- الى منوف قادمة من القاهرة، وكان الميجور كوفين قومندان الكتيبة قد اعتاد ان يمارس هواية صيد الطيور وكان قد علم من زملائه ان قرية دنشواي القريبة من منوف تزدحم بأسراب هائلة من الحمام ولما زار كوفين القرية أذهلته وفره أسراب الحمام بها، وفي صباح ذلك اليوم وجد كوفين نفسه قريبا من دنشواي
لذا فقد أغرى أربعة من ضباط كتيبة بأن يتوقفوا بالقرب منها لتستريح الدواب ويستريح الجنود بينما يتسلل هو وضباطه الأربعة (الكابتن بول – والملازمين بورثر وسميث والطبيب البيطري الملازم بوستك ) لصيد الحمام.
وفور وصولهم الى مشارف القرية أخذا يختبرون بنادقهم بينما احتشد حولهم لفيف من أطفال القرية وصبيانها وسرعان ما انقسموا إلى قسمين اختار أولاهما وكان يضم الميجور كوفين والكابتن بول والملازم سميث أن يصطادوا الحمام من بين أغصان الأشجار على جانبى الطريق الزراعي بينما ابتعد الآخران قليلا حتى وصلا الى أجران القمح وكان الجرن لمؤذن القرية (محمد عبد النبي)، وما ان شاهد الاثنان حمامتين تقفان على كوم القمح حتى أطلق عليهما بورثر تسع طلقات متتاليه اشتعلت على اثرها النيران فى الجرن فصرخت (ام محمد) زوجة المؤذن تستغيث بالرجال لإطفاء النيران، في ذلك الوقت اجتمع حشد كبير من الفلاحين حول الضابطين وحاول بعضهم انتزاع البنادق منهما فانطلقت دفعة آخرى من الخرطوش أصاب احد اعيرتها زوجة المؤذن ومع ان الطلقة لم تكن رصاصا حيا إلا إن الفلاحة انزعجت فسقطت مغشيا عليها فتبادر الى اذهان الجميع ان الانجليز قد حرقوا جرن القمح وقتلوا زوجة المؤذن.
وفي ذلك الوقت كان الميجور كوفين وزميليه يعدوان للحاق بزملائهم فى محاولة لفض المشاجرة لكن الموقف ازداد تدهورا إذ انطلقت رصاصتان حيتان من بندقية أحد الضباط أصابت واحدة منهما شيخ الخفراء في فخذه وأصيب اثنان آخران من الخفراء فرفع الفلاحون عصيهم بينما قذف الصبيان الجنود بالطين والحجارة.
وحاول الضباط استعطاف أهل القرية باستخدام الاشارات اذ لم يكن أحد من الطرفين يعرف لغة الآخر وعلى سبيل الترضية تظاهر الميجور كوفين بالقبض على الملازم بورثر وتجريده من سلاحه كما قدم ساعته وخاتمه وما كان يحمله من نقود على سبيل التعويض وكادت تلك المحاولة تمر بنجاح وتوجه الضباط نحو العربات لكن الاهالي ثاروا وتمسكوا بعدم مغادرتهم قبل أن تصل قوات الحكومة لتثبت التهمة عليهم.
وإذ أدرك الضباط ان الموقف أصبح ميؤوسا منه اتفقوا على أن يحاول بعضهم الهرب طلبا للنجدة بينما يحاول الأخرون التخلص بلباقة من الحصار وبالفعل انطلق الكابتن بول والدكتور بوستك هاربين على الطريق الزراعي وجرى خلفهم بعض الفلاحون، وجذب الفلاحين الضباط الثلاثة الباقين الى جرن القمح واشاروا الى المرأة الجريحة معبرين بالاشارة عن انهم يستحقون قطع رقابهم جزاء قتلهم لها وأخذوا يركلونهم بالأقدام، وحين انتهى الأمر كانت المعركة قد أسفرت عن كسر عظمة من عظام الذراع الايسر للميجور كوفين وإصابات سطحية بالضباط الآخرين .
اما الكابتن بول والدكتور بوستك فقد قطعا الطريق الزراعي عدوا، وعندما التفت بوستك الذى كان فى المقدمة خلفه لم يجد زميله ولم يعرف – إلا فيما بعد – أنه سقط مغشيا عليه، وقطع بوستك ثمانية كيلومترات تحت الشمس الحارقة حتى وصل إلى معسكره الذي كان في (كمشيش) وفي كلمات لاهثة متقطعة أخبر زملائه بما وقع في دنشواي.
وخلال دقائق معدودة تحركت طلائع الكتيبة نحو دنشواى وفى طريقهم وجدوا عددا من الفلاحين يحيطون بالكابتن بول فى المكان الذى سقط فيه فحمله البعض الى المعسكر لإسعافه فى حين طار الباقون للقبض على الفلاحين ظنا منهم أنهم الذين اعتدوا عليه ففر الفلاحين وفى أعقابهم الجنود الذين استطاعوا القبض على خمسة منهم ولكن احدهم وهو (سيد احمد سعيد) فر منهم مختبئا ولكن الجنود أدركوه وانهالوا عليه بالسونكي حتى أصبحت أكبر قطعة فى رأسه –كما ذكرت مجلة “المجلات العربية” التى صدرت بعد الحادث مباشرة – في حجم عملة النقود الصغيرة التي كانت تسمى بالقرش تعريفة !!
وفى خلال دقائق كانت الأمور قد تعقدت ووصلت الأخبار إلى القاهرة ومع إن الإشارة التلفزيونية الرسمية الأولى عن الحادث كانت تقول ان معركة وقعت بين الأهالي والضباط تبادل فيها “الطرفان” إطلاق النار الا ان البحث منذ اللحظة الأولى كان فى اتجاه واحد : لم يبحث أحد عن قتلة (سيد احمد سعيد) الفلاح المصري الذي اصبحت اكبر قطعة فى رأسه فى حجم القرش تعريفه ولم يبحث أحد عن الذين أصابوا زوجة المؤذن وغيرها وانما كان البحث جاريا عن هؤلاء الذين تجرأوا على رفع عصيهم وقذف أحجارهم على جنود جيش الاحتلال البريطاني.
وفي الحقيقة لم يكن هناك جناة اذ لم تكن هناك جناية من الأصل فما حدث كان مشاجرة عادية اما الكابتن بول فقد مات فى السابعة من مساء اليوم نفسه وقال زميله الدكتور بوستك انه كشف عليه طبيا وتبين له انه اصيب باحتقان في المخ من أثر ضربة الشمس التي تعرض لها بسبب مسيرته الطويلة تحت الشمس الحارقة ناهيك عن استحالة ان يتعرف الضباط الانجليز على اشخاص ممن تشاجروا معهم او رفعوا عليهم العصي بين زحام الفلاحين المتشابهي الوجوه والملابس، الا ان الانجليز لم يعدموا وسيلة فباتوا يجوسون أزقة القرية ويفتشون بيوتها بحثا عن الأعداء الذين حاربوا بريطانيا العظمى وتم “اختيار” اثنى عشر متهما اعتقلوا جميعا بمسجد القرية!
وكان فى مقدمتهم مؤذنها وصاحب الجرن المحروق، وأسفرت تلك العملية فى النهاية على القبض على عشرات الفلاحين قدم منهم 60 للمحاكمة وكان منهم 8 هاربين.

إبراهيم الهلباوي .. جلاد دنشواي
هو شيخ المحامين في ذلك الوقت وأكثرهم شهرة وعقب أحداث دنشواي وتقرير الانجليز بان تقوم محكمة مخصوصة بمحاكمة المتهمين فقد قام المستشار ميتشل سكرتير الداخلية الانجليزي بسؤال الهلباوي عما اذا كان قد وُكل من قِبل أحد من المتهمين فى دنشواى فلما نفى ذلك أخبره بأن الحكومة قد اختارته ليمثلها فى “إثبات” التهمة ضد المتهمين ذلك لأن نظام المحكمة المخصوصة يقضي بان يمثل الاتهام شيخ من شيوخ المحاماة.
وتواضع الهلباوى فى تحديد اتعابه فمع إنه – كما قال فيما بعد – كان يتقاضى 500 جنيه فى القضايا الكبرى إلا إنه خفض اتعابه في هذه القضية فقبل ان يترافع فيها بـ 300 جنيها فقط!!
وفى خلال المحاكمة الهزلية وقف الهلباوى يترافع عن الاحتلال ضد وطنه وعن الصيادين ضد ضحاياهم ولم يخطئ مرة واحدة فيلتمس العذر للبؤساء من أهل دنشواي فيما فعلوه فالقضية كما صورها هى صراع بين ضباط إنجليز خيرين طيبين شجعان وبين فريق من الهمج المتوحشين، ضباط ينتمون لجيش الاحتلال الإنجليزيالذي “حرر” المصري وبين هؤلاء السفلة من فلاحى دنشواى .. هكذا ترافع الهلباوي.
ووفق جلاد دنشواي فى لعبته وخان بنى جلدته وصدر الحكم فى اليوم التالي كالأتي ..
- إعدام أربعة
- جلد اثنى عشر
- اشغال شاقة للباقين
لقد قتل الهلباوي شعبه كله.

وما أن وصلت أنباءهذه المحاكمة الهزلية الى الصحف حتى انطلقت كالنار فى الهشيم داخل مصر وخارجها حتى ان الكاتب الايرلندي الشهير “برنارد شو” لم يجد سوى السخرية من عدل سلطات الاحتلال التي أجهدت نفسها بحثا عن “بروجرام” تشغل به المتفرجين على حفل الإعدام وتحول بينهم وبين الملل خلال النصف ساعة التي كان من مفروضا ان ان يظل فيها جسد المشنوق معلقا للتأكد من وفاته ولإتاحة وقت كاف لأسرته كى تشاهده وهو يدور حول نفسه، وقد حلت المحكمة هذه المشكلة فقضت على ثمانية من المتهمين بالجلد لتتيح لفرقة التنفيذ ملء فراغ البروجرام بجلد اثنين بين كل مشنوقين حتى يكتمل الطابع الاحتفالي والاستعراضي لعدل المحتلين ..!!!
وفى ذلك التوقيت كانت مصر تضم رجلا وطنيا من الطراز الأول، عشق ترابها وهام فيها حبا هو الزعيم مصطفى كامل الذى انتابته حالة من العصبية لوطنه لم تصبه من قبل تلك الحادثة لأن ذلك الظلم الذي وقع على المصريين فاق الحد، فجاب مصطفى كامل أوروبا يندد بالاحتلال ويكتب مقالا فى كل صحيفة ويخاطب كل ذي شأن ويخطب فى الناس وعيناه تذرفان الدموع على المصريين الذين كتب عليهم الهوان، فضح الحضارة الانجليزية واثار اشمئزاز البشرية منها حتى اضطرت الحكومة البريطانية الى نقل اللورد كرومر من مصر بعد ان ظل بها فى منصبه ربع قرن من الزمان.

مصير الجلادين
بخلاف اللورد كرومر كان هناك ثلاثة اشتركوا في هذة الجريمة:
بطرس غالي؛ الذي رأس المحكمة.
أحمد فتحي زغلول (شقيق سعد زغلول) ؛ وكان عضوا بالمحكمة وكتب حيثيات الحكم بيده.
والهلباوي؛ ممثل الإدعاء.
فأما أحمد فتحي زغلول، فإن شيئا لم يغفر له ما فعله يوم دنشواي حتى كونه شقيق سعد زغلول، وحدث أنه رُقي لمنصب وكيل وزارة الحقانية (العدل) عام 1907 واقيم له حفل تكريم بهذة المناسبة بفندق “شبرد” وطلب منظمو الحفل من أمير الشعراء أحمد شوقي بالاشتراك فى الحفل بقصيدة فوعدهم بإرسالها لتلاوتها – وكان لا يتلو شعره بنفسه – وفي الميعاد المحدد وصل رسول شوقي بمظروف إلى فندق شبرد وفتحته لجنة الاحتفال فوجدت به أبياتا تقول :
اذا ما جمعتم أمركم وهممتموا * بتقديم شئ للوكيل ثمين
خذوا حبل مشنوق بغير جريرة * وسروال مجلود وقيد سجين
ولا تعرضوا شعري عليه فحسبه * من الشعر حكم قد خطه بيمين
ولا تقرأوه في شبرد بل أقرأوه * على ملأ من دنشواي حزين.
وكانت لطمة…


وأنقذ أحمد فتحى زغلول نفسه فغادر الدنيا كلها بعد ذلك بسنوات قليلة عام 1914 غير مأسوف عليه من أحد.
أما بطرس غالي رئيس المحكمة أو المهزلة فقد لقى مصرعه قتيلا بعدها بسنوات قليلة جزاء لما قدمت يداه وكان قاتله أحد رجال الحزب الوطني ويدعى إبراهيم الورداني ، ومن الطريف أن إبراهيم الهلباوي تطوع للدفاع عن الورداني قاتل بطرس غالي!
أما ابراهيم الهلباوي فلقد عمر طويلا بعد الحادث لأكثر من ثلاثين عاما ذاق خلالها الذل والهوان من المصريين الذين قابلوه بالكراهية فى كل مكان.
يقول الأديب يحيى حقي: “حضرته –أي الهلباوي- يخطب في سرادق ضخم ازدحم فيه أنصار حزب الأحرار الدستوريين من أجل تخليص البلاد من يد المحتلين وقوبل خطابه بالهتاف والتصفيق وامتلأ الرجل ثقة وزهوا وظن أن الدنيا قد صالحته ولكنه لم يكد يفرغ من خطابه حتى أرتفع صوت في آخر السرادق يهتف:
- يسقط جلاد دنشواي.
.. كنا واثقين انها دسيسة بعث بها حزب الوفد لإفساد الحفل بدليل ان المبعوث اتخذ مكانه بجانب الباب ليسهل عليه الهرب ومع ذلك فكأني بالحاضرين وقد مستهم الكهرباء فجأة وإذا بهم كلهم – وهم أنصار الهلباوي – يقفون وقفة رجل واحد ويهتفون بصوت واحد يجلجل كالرعد:
- ليسقط جلاد دنشواي.
انه كان صوت مصر ينطلق من حلوقهم على الرغم من إرادتهم”
وفي عام 1940 مات الهلباوي وهو فى الثالثة والثمانين وخلف جنازته كان الرجال يتذكرون أبياتا من قصيدة حافظ إبراهيم التى يقول فيها:
لا جرى النيل فى نواحيك يا مصر * ولا جادك الحيا حيث جادا
أنتِ أنبتِ ذلك النبت يا مصر * فأضحى عليك شوقا قتادا
أيه يا مدرة القضاء .. ويا من * ساد في غفلة من الزمان وشادا
أنت جلادنا فلا تنس إنا قد * لبسنا على يديك الحدادا

ويهيل النسيان التراب على كل شئ.

ان الذكرى الوحيدة الباقية للهلباوي – كما يرصد الأديب يحيى حقي – تسمعها من كمساري الأتوبيس في خط المنيل بالقاهرة وهو يعدد المحطات فيقول .
- محطة الجراج .. محطة الهلباوي!!
ذلك ان المصري ليس مغفلا ولا ساذجا .. ولا قادرا على نسيان الجراح الكبيرة.
كم انت طيب ايها المصري، لكنك قاسي كذلك.

عن موقع المؤرخ
 
عودة
أعلى