نفض غبار النسيان عن بعض أمجاد شعب تتارستان/د.عبد الرحيم العطاوي

  • بادئ الموضوع Nabil
  • تاريخ البدء

Nabil

التحالف يجمعنا
مستشار المنتدى
إنضم
4/5/19
المشاركات
10,850
التفاعلات
19,866
نفض غبار النسيان عن بعض أمجاد شعب تتارستان

الدكتور عبد الرحيم العطاوي




لم يبق في ذاكرة الناس حول تاريخ المغول والتتار سوى الحروب وما تسببت فيه فئة منهم من خراب قضى على العديد من الحضارات في أجزاء كثيرة من أوروبا الشرقية وآسيا عامة وفي العالم العربي الإسلامي خاصة . غير أن الناس ينسون ( ومنهم من يتناسى) أن هؤلاء المغول والتتار الذين كانوا في بدايتهم أعداء للإسلام صاروا بعد اعتناقهم هذا الدين دعاة له وأشد المتحمسين لنصرته ، وينسى الناس كذلك أن هذين الشعبين استطاعا فيما بعد تشييد دول كان لها شأن حضاري عظيم في الهند وآسيا الوسطى وفي عدد من المناطق الموجودة ضمن جمهورية روسيا الفيدرالية ...

يصبو هذا المقال المتواضع إلى :
1 - إزالة بعض من غبار النسيان عن الشعب التتاري المسلم والتذكير بعدد من بطولاته في كفاحه الطويل من أجل الحفاظ على هويته الدينية والثقافية .
2 - التذكير بالمفكر التتاري الشيخ أبي نصر الكرساوي الذي كان سباقا إلى التفكير في وضع برنامج إصلاحي للتعليم و إلى نهج سياسة تجديدية إسلامية ، وذلك في مطلع القرن التاسع عشر .
3 - التذكير بأن الطباعة بالحروف العربية لعبت دورا كبيرا عند مسلمي روسيا عموما والتتار خصوصا منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر وأن المطابع العربية في قازان وسان بيترسبرج وغيرهما من المدن الروسية طبعت طيلة القرن التاسع عشر مئات الآلاف من الكتب الدينية وغيرها باللغتين التتارية والعربية ...

يرجع تاريخ دخول الإسلام إلى عدد من المناطق الموجودة حاليا ضمن جمهورية روسيا الفيدرالية إلى فترات زمنية متفرقة كانت أولاها حين تم فتح بلاد الداغستان في جبال القوقاز من قبل الجيش الإسلامي عام 22 هجرية في خلافة عمر بن الخطاب ، وتلتها فترات أخرى امتدت حتى القرن التاسع عشر الميلادي وكان الدين الإسلامي ينتشر خلالها في مختلف الجهات عن طريق الدعاة من علماء وتجار وغيرهم ...
وإذا كانت الأقليات المسلمة تعيش في معظم جهات البلاد فإنها تتوفر حاليا على الجمهوريات وولايات ذات استقلال ذاتي خاصة بها . وقد أقيمت مناطق الحكم الذاتي هذه في تراب جزء من الموطن الأصلي لتلك الأقليات (1) .

شُرع في إحداث هذه الجمهوريات والولايات مباشرة بعد تأسيس الاتحاد السوفياتي . وكان جوزيف ستالين بوصفه آنذاك المندوب السامي (أي الوزير) المكلف بتدبير شؤون الشعوب والأقليات هو الساهر على تنفيذ هذه السياسة التي كانت تبدو ظاهريا أنها تسير في اتجاه ترقية الشعوب والدفاع عن مصالح الأقليات ، غير أنها كانت في باطنها تهدف إلى تشتيت شمل أهم تلك الأقليات وهم المسلمون . وهكذا تم تقسيم القومية التتارية إلى عدة جمهوريات وولايات ، نذكر منها على الخصوص : جمهورية تتارستان وجمهورية باشكيريا وجمهورية ماري وجمهورية أودمورتيا وجمهورية موردوفيا وجمهورية تشوفاشيا ... وقد تفنن " العلماء " في البحث عن كل ما من شأنه أن يعمق الفوارق بين هذه " الجمهوريات " الجديدة في مجالات التاريخ واللغة والأدب الشعبي والاجتماع والاثنوغرافيا ... وتم تدوين نتائج هذه " الأبحاث " وترويجها على نطاق واسع في المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية . ولم يقتصر ستالين على تفكيك القومية التتارية وحدها بل سلك نفس النهج في جبال القوقاز وسيبريا وجهات أخرى من البلاد ... وشكلت نهاية الحرب العالمية الثانية أوج عداء ستالين للمسلمين واضطهادهم حين أقدم على ترحيل عدد من الشعوب المسلمة برمتهم من أوطانهم وتشتيتهم في مناطق نائية وخاصة في سيبيريا وآسيا الوسطى بتهمة التعاون مع الجيش الألماني . وهذا ما حصل للشيشانيين والأنجوشيين والباكادريين وتتار القرم الذين فقدوا الآلاف من إخوانهم خلال عملية الترحيل ، ومنهم من لم يستطع حتى الآن الرجوع إلى وطنهم رغم القرارات الرسمية التي برأتهم ، بعد موت ستالين ، من جميع الاتهامات الموجهة إليهم ، ولا يزال شعب تتار القرم يعيش هذه المأساة (2) ...

تضم جمهورية روسيا الفيدرالية حاليا عددا من الجمهوريات والولايات ذات الاستقلال الذاتي التي أخذت تمارس حقوقها الدستورية بشكل طبيعي بعد سقوط النظام السوفياتي . وإذا كانت الولاية لا تتوفر إلا على حق استعمال لغة أهل البلد في مجالي التعليم والإدارة (بإزالة اللغة الروسية) فإن الجمهورية تتمتع بصلاحيات واسعة نسبيا في تسيير شؤونها الداخلية وخاصة منها تعلق بالسياسة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ... غير أنها لا تستطيع الانفصال عن الجمهورية " الأم " أي روسيا الفيدرالية التي تحتفظ بحق تسيير شؤون السياسة الخارجية والدفاع . وأهم مناطق الحكم الذاتي الإسلامية حاليا هي : جمهوريات تتارستان وباشكيريا وداغستان والشيشان وإنكوشيا وكابارديا - بلكاريا ، وولايات الأدغيين وقرتشاي والشراكسة ...

إن الغزو الروسي لهذه المناطق كان تدريجيا واستمر أزيد من أربعة قرون . فبعد تحررها من الحكم المغولي - التتاري الذي دام زهاء قرنين ونصف القرن (من 1240 إلى 1480 م) استطاعت الدولة الروسية الفتية بقيادة " إيفان " الرابع ، المشهور باسم " إيفان كروزني"، أي الرهيب ، أن تحتل مدينة قازان وهي عاصمة تتار الفولجا . ولقد تمكن الروس من تحقيق انتصارهم هذا وانتصارات أخرى فيما بعد بفضل توفرهم على الأسلحة النارية التي استعملوها لأول مرة في المنطقة (3).

وقد شكل سقوط قازان نقطة تحول سياسية ودينية وثقافية في غاية الأهمية بالنسبة لشعوب المناطق الموجودة شرق وجنوب روسيا ذلك أن هذه المدينة كانت بمثابة مفتاح لتلك المناطق برمتها، كما أنها كانت أهم مركز اقتصادي وثقافي وروحي لشعب التتار . يقول عنها المؤرخ الروسي " فيرسوف " : " كانت مدينة قازان مركزا ثقافيا مهما يعيش في رخاء...وبعد احتلالها تم القضاء على ثرات قديم جمعه منذ قرون كل من التتار والبلُغار..." (4)
والغريب في الأمر أن هذا الحدث التاريخي لم ينل من لدن الباحثين المسلمين ما يستحقه من عناية ، ذلك أن سقوط قازان في أقصى الشمال الشرقي من أوروبا لا يقل أهمية على الصعيدين السياسي والديني عن سقوط غرناطة في أقصى الجنوب الغربي من أوروبا نفسها قبل ستين سنة (5) .

ولقد تبع الغزو العسكري احتلال منظم للأراضي التتارية، وأبعد المسلمون من قازان ومن جميع الأراضي الخصبة التي تم توزيعها في بداية الأمر على المعمرين الروسيين ثم على الأديرة وأسقفة قازان ...واستمر زحف المعمرين إلى هذه المناطق خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر . وهكذا أصبح عددهم في مطلع القرن التاسع عشر يمثل نسبة 52 % من مجموع السكان (6) .
وكان التتار المبعدون من وطنهم يتوجهون صوب جبال " أورال " وجبال القوقاز وسيبيريا وتركستان ...ورغم الحياة القاسية التي كانوا يعيشونها في تشردهم فإنهم كانوا يعملون دوما على نشر الدين الإسلامي في المناطق التي كانوا يلجؤون إليها ...
بإزاء احتلال الأرض كان النظام القيصري ينهج تجاه السكان الأصلين سياسة " التذويب " أو القضاء التام على ما تبقى من ملاكي الأراضي من التتار بإصدار العديد من المراسيم للتضييق بهم وارغامهم على ترك ممتلكاتهم ، أما الخطة الثانية فكانت تسعى إلى تنصير المسلمين بشتى الوسائل . ولقد أخذت هذه الحملات بعدا جديدا في عهد " بطرس " الأول (1672 - 1725 ) ، ففي سنة 1720 تقرر إعفاء كل من تنصل من التجنيد ومن أداء الضرائب لمدة ثلاث سنوات ...

تزايد الاضطهاد بشكل مثير للإنتباه في عهد الإمبراطورة " أنّا" ( 1693 - 1740 ) . ففي سنة 1731 أحدثت " مؤسسة المنضرين الجدد" التي ظلت تعمل طيلة 33 سنة على إرغام الناس بشتى الوسائل على الدخول في النصرانية . ولقد قام أسقف قازان في الفترة ما بين 1738 و 1755 بهدم ما لايقل عن 418 مسجدا من بين ال 536 التي كانت توجد بالمنطقة (7).
لكن نتائج هذه الحملات كانت هزيلة باعتراف المؤرخين الروسيين أنفسهم (8).
بعد أزيد من قرنين من القمع والاضطهاد اتضح جليا أن المسلمين لن يستسلموا وأنهم لا يزالون متشبثين غاية التشبث . وكان ذلك إبان حكم الإمبراطورية " كاتيرينا " الثانية ، ومن بين الإصلاحات التي طبقت نذكر على سبيل المثال :

1 - إغلاق " مؤسسة المنصَّرين الجدد " .
2 - السماح للمسلمين بالسكنى في كافة المدن والقرى التتارية وتشييد مسجدين اثنين في قازان .
وبعد ثلاث سنوات من هذه الإجراءات صدر مرسوم إمبراطوري يمنح بمقتضاه المسلمون الحرية الدينية المطلقة في جميع أرجاء البلاد بما في ذلك حرية بناء المساجد والمدارس الدينية وعُين عام 1782 مفتي مسلمي روسيا وأسِّست الجمعية الروحية للمسلمين سنة 1788(9 )

ولابد من الإشارة كذلك إلى أن عهد الإمبراطورية " كاترينا " الثانية شكل بالنسبة للمسلمين فترة انفراج واسع وتفتح كبير . وتزايد في ذلك العصر اهتمام مختلف الأوساط الثقافية الروسية بالشرق عامة والشرق العربي الإسلامي خاصة ، ففي عام 1782 صدر مرسوم يقضي بتعليم اللغة العربية بجانب اللغتين التتارية والفارسية في الأقاليم الإسلامية من البلاد ، وثم إدخال الحرف العربي بشكل سان بيترسبورك " بحروف عربية رائعة حسب الاختصاصيين الأوروبيين أنفسهم " (10) .
ولقد بقيت هذه الطبعة تعرف " بنسخة سان بيترسبورج " ، وانتقلت هذه الحروف فيما بعد إلى مدينة قازان ثم إلى القرم وتركيا فمصر والهند (11) .
ويكون المسلمون في روسيا قد ساهموا بذلك في نشر الطباعة العربية على نطاق واسع ،غير أن الباحثين لا يعيرون ، وللأسف ، أدنى اهتمام بهذه " المرحلة الروسية الحاسمة" من تاريخ الطباعة العربية .

وكانت الإمبراطورة " كاترينا " الثانية تسعى من وراء هذه الإجراءات إلى استقطاب مسلمي الجنوب والحيلولة دون تحالفهم مع الأتراك العثمانيين ، وهم إخوانهم في الدين وفي اللغة في كثير من الأحيان ، كما أنها كانت تسعى إلى إدخال روسيا أسواق آسيا المسلمة التي كانت محرمة على غير المسلمين والتي لم يكن يستطيع التعامل فيها سوي التتار المسلمين من مجموع سكان الإمبراطورية الروسية .

وهكذا أصبح رؤساء القبائل التتارية وسطاء يصدرون الصناعة الروسية الفتية إلى هذه المناطق ويستوردون منها المواد الأولية ومنتوجات إمارات التركستان (12) ...
ومُنح هؤلاء الوسطاء جميع التسهيلات لتمكنهم من النجاح في أعمالهم الجديدة . فتشكلت بالتالي طبقة مهمة من التجار التتاريين الذين صار لهم نفوذ في مجموع الدولة الروسية الواسعة الأطراف.وسرعان ما ظهرت نتائج الانفتاح والإصلاحات التي قامت بها " كاتيرينا " الثانية.فلقد رجع " المنصَّرون" إلى الدين الإسلامي وقامت نهضة ثقافية إسلامية عارمة استمرت أكثرمن قرن ونشطت خلالها المطبعة العربية التي أنتجت كميات هائلة من الكتب الدينية وغيرها بلغات المسلمين المحليين وباللغة العربية .

وحسب بعض الإحصائيات فإن مطبعة قازان وحدها طبعت في الفترة الممتدة ما بين 1853 و1859 أزيد من 362.700 نسخة من القرآن الكريم ومن مختلف الكتب الدينية ، كما أنها أصدرت خلال عشر سنوات ( من 1854 إلى 1864 ) أزيد من مليون كتاب (13) ...

وكان من نتائج هذه النهضة كذلك أن البورجوازية التتارية أصبحت مع مطلع القرن العشرين تتزعم مجموع الحركات الوطنية الإسلامية داخل الإمبراطورية الروسية إلى أن جاءت الثورة السوفياتية ، فاقسم المسلمون تجاهها . فكان هناك من حارب النظام الجديد بشدة وهناك من آزره لأنه كان يعتقد مخلصا ( ومخطئا ) أن الثورة سوف تمنحه الحرية المنشودة منذ القدم . وكان من أبرز ممثلي التتار الثناني التتاريان نورحيدوف وسلطان علييف اللذان ترأسا " اللجنة التتارية الاشتراكية المسلمة " وبعدها ما كان يعرف ب " حركة الشيوعيين المسلمين " . ولقد تقلد سلطان علييف مناصب عالية في جهاز الدولة السوفياتية منذ إنشائها إلى غاية 1923 وهي السنة التي " اختفى " فيها بعدما ألقى ستالين القبض عليه (14) ...

نعود إلى مسيرة النهضة الثقافية الإسلامية لنشير أنه حصلت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر منافسة قوية بين البورجوازية التي توفرت لديها إمكانيات جديدة في الإنتاج والمواصلات والبرجوازية التتارية التي لم تتح لها فرصة الاستفادة من تلك الإمكانيات . فتدخلت السلطات المركزية للدفاع عن المصالح الروسية ، ولم تتردد في الرجوع إلى أساليب القمع القديمة وسياسة التنصير التي ترأسها أحد المستشرقين وهو "إيلْمِينْسْكي" الذي أسس " المدرسة المركزية للمعلمين التتار المنصّرين" وعددا آخر من المدارس المماثلة لها . وكانت خطته التي تبنتها الشلطات الإدارية رسميا عام 1870 تسعى إلى تحقيق هدفين اثنين ، أولهما تكوين طبقة من المثقفين المحليين مكونة من المنصَّرين وحدهم ، لأنه ، حسب إيلْمِينْسْكي "لا يوجد خطر بالنسبة لروسيا أكبر من خطر المسلم المثقف ! " ، أما الهدف الثاني فكان يتمثل في إحداث ما اصطلح على تسميته آنذاك باللغات الأدبية لشعوب المنطقة واستبدال الحروف العربية لكتابتها بالحروف السلافية ، وذلك قصد القضاء على كل تأثير ثقافي وديني ( إسلامي ) في حياة هذه الشعوب (15) .
وتجندت الكنيسة كذلك للقيام بحملات مناهضة للإسلام .لكن الأمور سرعان ما تغيرت مرة أخرى لصالح المسلمين بفضل تصديهم المنظم والمحكم لهذه السياسة في جميع ربوع الإمبراطورية .

ولقد كان لهذه الحملات المعادية للإسلام أثر عميق في نفوس المسلمين ووقفت النخبة المثقفة المسلمة في كثير من الأحيان وقفة رجل واحد لتدافع عن حقوقها القومية ولتتصدى للخطر الذي كان يتربص بالشعب التتاري ويهدف إلى " ترويسه " وتنصيره والقضاء على هويته بصفة نهائية (16) .

ولقد كتب المفكر التتاري علم جان إبراهيموف عن موقف ومشاعر المسلمين تجاه السياسة القيصرية : " إن السياسة القيصرية جنت من حملاتها عكس ما كانت تصبو إليه : فعوض استقطاب الناس صار الناس يبغضون كل ما هو روسي ..." (17) .
كما أن هذه النخبة المثقفة كانت واعية منذ أمد بعيد بالخطر الذي لايكمن في السياسة العدوانية للنظام القيصري فحسب ، بل يكمن ، ولربما كان هذا هو الأهم في التخلف العلمي والثقافي البين يتخبط فيه المسلمون . غير أنه ومنذ مطلع القرن التاسع عشر بدأت تظهر بوادر حركات إصلاحية تصبو إلى التخلص من جميع أشكال التخلف . وكان الشيخ أبو نصر الكَرْسَاوي (1783-1814 ) سباقا إلى هذه الدعوة . لكن العلماء من معاصريه داخل روسيا وخارجها حاربوه وتسببوا له في كثير من المصاعب . وكان هذا الشيخ في بدايته أستاذا بإحدى مدارس بخارى التقليدية ، وهنا بدأ يحاول القيام بإصلاحات في ميدان التعليم الديني . فحكم عليه بالإعدام في عهد الأمير حيضر البخاري بتهمة البدعة ، ثم فّر إلى تتارستان حيث أسس مدرسة من نمط جديد في قريته " كُرْسة " ، فاتهمه العلماء المحليون بالزندقة ، فاضطر إلى الهجرة إلى تركيا حيث توفي .

وترك الشيخ الكرساوي مؤلفا لا يزال مخطوطا عنوانه " إرشاء العباد " . وقد أنصفه وردّ له الاعتبار فيما بعد الشيخ شهاب الدين المرجاني في كتابه " تنبيه أبناء العصر بتنزيه أبناء أبي نصر " .

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر اتضح جليا أن التجديد والتقدم لن يتما إلا عن طريق إصلاح التعليم الديني احتفظ في شكله ومضمونه بنظامه القديم ، ويرجع سبب ذلك إلى أن الساهرين على التدريس كانوا كلهم من خريجي معاهد إمارة بخارى التي كانت تمثل آنذاك أهم مركز في آسيا الوسطى والتي لم يعرف التعليم بها أي تغيير يذكر منذ قرون . فالبرغم من انتشار الكتاتيب والمدارس الدينية العليا وتوفر الكتب المطبوعة بما فيه الكفاية فإن التعليم في تتارستان بقي ومتحجرا .فتعالت من جديد وبشكل مثير للانتباه أصوات تنادي بالإصلاح ، غير أن المحافظين من العلماء حاربوا هذه الإتجاهات بقوة وعنف ، وهذا ما أدى إلى حدوث انشقاق خطير في صفوفهم ، وخرجت منهم فئتان من العلماء وهما كما اصطلح على تسميتها : أصحاب " الجديد " وأصحاب " القديم " . وكانت الغلبة للأولين الذين استطاعوا فرض آرائهم على الساحة بشعاراتهم التي كانت تنادي بالتخلي عن " العربة الآسيوية " وركوب " الآلة الميكانيكية الأوروبية " (18) .

وهكذا بدأ عام 1880 تطبيق مشروع الإصلاح الذي قدمه إسماعيل باي (1851-1914 ) الذي كان يعرض أفكاره في المقالات التي كان ينشرها على صفحات جريدته"ترجمان"(19) التي كانت تصدر باللغة التتارية في مدينة " باختشي سراي " ( من 1883 إلى 1905 ) . وكان مشروع إسماعيل باي يهدف في واقع الأمر إلى توحيد صفوف المسلمين قاطبة داخل الإمبراطورية ، وكان شعاره : " وحدة اللغة ، وحدة الفكر ، وحدة العمل " (20) .

وقد واكبت إصلاحات التعليم حركات إسلامية تجديدية على نطاق واسع ويعتبر الشيخ شهاب الدين المرجاني ( 21 ) (1818 -1889 ) خير ممثل لهذا الاتجاه التجديدي ومتمم العمل الذي بدأه من قبله الشيخ أبو نصر الكرساوي . وقام الشيخ المرجاني بنشاط ثقافي مهم لإقامة الدليل على أن لا تعارض بين الدين الإسلامي والعلوم الحديثة . ويمكن تلخيص أفكاره حول التجديد في ست نقاط ، هي :

1 - الاجتهاد حر بالنسبة للجميع .
2 - التخلي عن التقليد الأعمى .
3 - التخلي عن الكتب المحافظة في مجال الفكر .
4 - الاعتناء بتدريس القرآن الكريم والحديث وتاريخ الإسلام .
5 - تدريس العلوم الحديثة واللغات الأجنبية وخاصة منها الروسية في مدارس المسلمين.
6 - الرجوع إلى صفاء جو الدين الإسلامي في مراحله الأولى والأخذ من منابع الثقافة الإسلامية القديمة .

وفي ختام هذا المقال المتواضع نريد أن نركز مرة أخرى على أهمية الحركات التجديدية الإسلامية وتاريخ الطباعة العربية عند مسلمي روسيا عامة وعند الشعب التتاري خاصة . ونتمنى أن تُرصد لهذين الموضوعين دراسات معمقة لما كان لهما من أثر بالغ على مستقبل العالم الإسلامي برمته . ويستحق ، في نظرنا، رواد هذه الحركات أمثال الشيخ أبو نصر الكرساوي والشيخ شهاب الدين المرجاني وإسماعيل باي وغيرهم أن يهتم الباحثون بهم وبمؤلفاتهم وبنشاطهم المتنوع في ميادين الدين والتدريس والسياسة والثقافة ...

عن مجلة التاريخ العربي العدد 2

الهوامش:
( 1 ) للمزيد من المعلومات حول تاريخ الشعوب المسلمة في روسيا ، انظر على الخصوص :
A .Benningsen , et Lermercier - Quelquejay , les Musulmans Oubliés - L’Islam en Union Soviétique , Petite collection Maspéro , Paris 1981 ; A .Benningsen , et Lermercier - Quelquejay , Les Mouvements bationaux chez les Musulmans de russie , Mouton , 1960 ; Amir , Tahari , Islam / U.R.S.S La révolte de l'islam en U.R.S.S , éd Tsuru , Paris 1989 .
محمد السيد غلاب وحسن عبد القادر صالح ومحمود شاكر ، " البلدان الإسلامية والأقليات المسلمة في العالم المعاصر " ، الرياض ، 1979؛ عبد الرحيم الرحيم العطاوي ، " الدراسات العربية في روسيا ، كراتشكوفسكي نموذجا " أطروحة لنيل دكتوراه الدولة ، كلية الآداب عين الشق ، جامعة الحسن الثاني ، الدار البيضاء ، 1993 ( مرقونة ) ، انظر الجزء الأول على الخصوص .
( 2 ) انظر : A . Benningsen , ... , Les Musulmans oubliés ... , P : 171
( 3 ) ف ، بارتولد " تاريخ الحضارة الإسلامية " تؤجمة حمزة طاهر ، دار المعارف ، مصر ،1996 ( الطبعة الرابعة ) ، ص : 147 .
(4 ) ن ، فيرسوف ، " ماضي تتاريا " قازان ، 1926 ، ( بالروسية ) ، ص . 25 تجدر الإشارة إلى أن الُبلغار هم من أصل تركي اعتنقوا الإسلام في القرن التاسع الميلادي وكانوا يقطنون بلاد التتار الحالية بجوار نهر الفولجا ، ولقد وصفهم أحمد ابن فضلان ، مبعوث الخليفة العباسي المقتدر إليهم في " رحلته " التي نشرت في بيروت ، انظر : رسالة ابن فضلان في " وصف الرحلة إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة عام 309 هـ - 921 م " ، حققها وعلق عليها وقدم لها الدكتور سامي الدهان ، بيروت 1987 ، ( الطبعة الثانية ) .
وكانت بعض قيائل البلغار قد نزحت في القرن السابع الميلادي إلى المنطقة المعروفة حاليا ببلغاريا وامتزجت كليا مع القبائل السلافية المحلية وفقدت جميع الصلات اللغوية والحضارية مع أبناء عمومتهما - بلغار الفولكا .
( 5 ) Amir Taheri , Islam/U.RSS, ...., P77
( 6 ) ن . فيرسوف ، " ماضي تتاريا ..." ص . 25 .
( 7 ) A.Benningsen...., Les Mouvements nationaux ...,P.23.
( 8 ) نفسه ،ص .27 .
( 9 ) نفسه ، ص .27 .
( 10 ) إ . كراتشكوفسكي ، " دراسات في تاريخ الاستعراب الروسي " ، منشورات أكاديمية العلوم للإتحاد السوفياتي ، موسكو - ليننجراد، 1950 ، ( بالروسية) ، ص . 53 .
( 11) نفسه ، ص . 58 .
( 12 ) A.Benningsen,...Les Mouvements nationaux ...,P.28 .
( 13 ) نفسه ، ص . 25 .
( 14 ) ع . العطاوي ، " الدراسات العربية في روسيا ..." ، ص . 208 - 209 .
( 15 ) لقد تبنى ستالين فيما بعد هذه السياسة وطبقها بالفعل .
(16 ) توجد عدة كتب مخطوطة تعرض للأحوال القاسية لحياة المسلمين في روسيا القيصرية نذكر منها على الخصوص كتاب " أحوال المسلمين في الممالك الروسية " ، وهذا المخطوط يوجد في ملحقة مكتبة معهد الإستشراق بسان بيترسبورك ، رقمه 1219 A. ويرجع تاريخ هذه المخطوطة التي يجهل مؤلفها إلى عام 1902 . وقد كتبت باللغة العربية في مدينة قازان .
( 17 ) علم جان إبراهيموف ، " التتر في ثورة 1905 " قازان ، 1926 ، ( الترجمة الروسية ) ، ص . 27 .
( 18 ) .A. Benningsen ,..., Les Mouvements nationaux ..., P.36 .
( 19 ) يستحق موضوع تاريخ الصحافة عند مسلمي روسيا أن تكرس له دراسات لما له من أقدمية وأهمية . وتجدر الإشارة إلى أن أولى جرائدهم وهي " أخبار قازان " كان من المفروض ضأن تصدر عام 1808 لولا اعتراض النظام القيصري عليها . ونشير كذلك إلى أن المسلمين كانوا يصدرون من حين لآخر جرائد باللغة العربية خاصة في قازان وفي داغستان وسان بيترسبورك . ومن أهمها نذكر على الخصوص : " التلميذ " و " المرأة " ...
( 20) .A. Benningsen ,..., Les Mouvements nationaux ..., P.39.
( 21 ) من مؤلفات الشيخ شهاب الدين المرجاني نذكر على الخصوص : عرفة الحواكين ، " تاريخ آسيا الوسطى من القرن الرابع إلى القرن السادس الهجريين " ، قازان 1864 ( باللغة العربية ) ؛ " مستفاض الأخبار في أحوال قازان وبلغار " ، قازان ، ج 1 ، 1865 ، ج 2 ،1900 ( بالتتارية ) ؛ " وفيات الأسلاف " في سبعة أجزاء ، طبع منهم الجزء الأول فقط بقازان عام 1883 .
 
عودة
أعلى