معضلة الجو: استراتيجية مواجهة التفوق الجوي – تقييم القوة الجوية المعادية

عــمــر الـمـخــتــار

رئاسة الأركان العامة للجيش الليبي
عضو قيادي
إنضم
14/5/19
المشاركات
5,688
التفاعلات
30,121
بسم الله الرحمن الرحيم
1441/5/25 - 2020/1/20

معضلة-الجو.png


منذ بداية الحرب العالمية الثانية برز دور سلاح الطيران في الحروب بشكل واضح وكان قبل ذلك غير مؤثر لعدة أسباب أهمها البدائية وعدم التطور سواء في المواصفات التصنيعية أو في الاستخدام التكتيكي.


ثم بعد الحرب العالمية الثانية وتميز استراتيجية الحرب الخاطفة الألمانية القائمة على التعاون بين الدبابات والطيران ازداد الاهتمام بشكل ضخم جدًا بسلاح الطيران من ناحية التطوير التكنولوجي في الطائرة نفسها والتسليح خصوصًا الصواريخ ووسائل الاتصال مما خلق بيئة حرب جديدة يلعب البعد الرأسي فيها دورًا أساسيًا، وأصبحت الجيوش تهتم في المقام الأول بتحقيق السيادة الجوية في المعركة كعامل حسم رئيسي في أي عمليات برية. ومع تطور الطائرة استدعى تطور أسلحة الدفاع الجوي بعد أن كانت قائمة على الأسلحة الرشاشة كبيرة العيار أصبحت ترتكز على الصواريخ والرادارات الحديثة.

كل هذه المتغيرات ومع النظام العالمي بعد الحرب العالمية أصبح احتكار تفوق الطيران -والسلاح النووي بالطبع- هو العامل الأكبر في الهيمنة العسكرية على معظم دول العالم، لذا ونحن نشهد في هذه الأيام انتفاضة الشعوب المسلمة بالذات للخروج عن الهيمنة الدولية والوكلاء المحليين؛ الذين يحكمون دولهم باسم أمريكا والنظام الدولي كان لابد على كل الشعوب والحركات التي تتوق لنيل الحرية أن تولي المجالات العسكرية الاهتمام البالغ؛ لأن الواقع يقول أن القوى الدولية لن تسمح لأي شعب ولا أي رقعة أرض حتى إن كانت في حجم قرية صغيرة أن تخرج من فلكها بدون معركة شاملة سياسية ونفسية واقتصادية، وبالطبع عسكرية.

تمثل مواجهة التفوق الجوي الشاغل الأول للدول والحركات والشعوب التي تنوي أن تواجه الاستعمار والنظام العالمي، أو حتى في مواجهة الطغاة المحليين كمرحلة أولى. ولأن السبيل الأول للمواجهة هو المعرفة الجيدة والشاملة كان لابد علينا من المساهمة في مناقشة الاستراتيجية الممكنة لمواجهة العدو في ظل سيطرة جوية مطلقة من قبله في مسرح العمليات.

قد يظن القارئ أن المعركة في ظل سيطرة العدو الجوية أمرًا خاصًا بالحركات التحررية فقط أو الانتفاضات الشعبية، ولكن الحقيقة أن هذا الوضع ممكن أن تكون فيه أي دولة -حتى لو حديثة-؛ أنها تضطر لخوض المعركة في ظل سيادة جوية للعدو، ومثال على ذلك الدول العربية بعد حرب الأيام الستة ضد الكيان الصهيوني، ودولة كوبا في مواجهة الأطماع الأمريكية بعد الثورة الكوبية، وحرب الخليج الثانية بين العراق والتحالف الدولي، وحرب البلقان بين القوات الصربية والتحالف الدولي، وغيرها.

بالنسبة للحركات التحررية التي تتبنى نهج حرب العصابات يبدو وضع استراتيجية شاملة لمواجهة التفوق الجوي عاملًا رئيسيًا قبل التحول من المرحلة الأولى؛ وهي الإنهاك والاستنزاف إلى المرحلة الثانية؛ وهي التوازن والمعارك شبه النظامية. في المرحلة الأولى تأثير السماء بالنسبة للعمل العسكري سيكون محدودًا وفي ظروف معينة، ويمكن تلافيه في معظم الأحيان، أما في المرحلة الثانية والثالثة سيمثل التحدي الأول من الناحية العسكرية، ويتوقف النجاح والفشل في الناحية العسكرية على نتيجة هذا التحدي.

الهدف من هذه الدراسة هو الاستراتيجية؛ بمعنى أننا لن نتطرق إلى التفاصيل التكتيكية إلا بشكل عارض، أو لتوضيح بعض العنوانين غير المشتهرة، أو تبيين الإمكانية العملية للبعض الآخر.

تتكون هذه الدراسة من خمسة أبواب؛ الباب الاول: كيفية تقييم القوة الجوية المعادية، ثم أربعة أبواب تمثل الاستراتيجية في مواجهة التفوق الجوي؛ وهي الباب الثاني: الدفاع الجوي السلبي، والباب الثالث: الدفاع الجوي الايجابي، والباب الرابع: بناء قوة الردع، والباب الخامس: الاستراتجية العسكرية في مواجهة عدو متفوق جويًا.


الباب الأول: تقييم القوة الجوية المعادية

1067353074.jpg


قبل البدء في استعراض المحاور الاستراتيجية لمواجهة التفوق الجوي المعادي كان ولابد من البدء أولًا في ذكر كيفية تقييم القوة الجوية المعادية، وكيفية تحديد حجم تأثيرها على خطط المواجهة -سواء دفاعية أو هجومية-، وكما ذكر صن تزو قديمًا:


(إذا عرفت نفسك وعرفت عدوك تستطيع خوض مائة معركة دون أن تخسر).

إذًا المهمة الأولى قبل وضع خطة المواجهة في أي حرب هي معرفة العدو، وتقييمه تقييم واقعي؛ لا يميل إلى المبالغة والتهويل أو التقليل والتهوين؛ فالتقديرات العسكرية لابد أن تكون واقعية ومجردة، ولا تخضع للمشاعر أو الأهواء أو الرغبات الشخصية والأمنيات.

في العقائد العسكرية التقليدية الخاصة بالحرب النظامية في شكلها التقليدي آراء تقول أن لابد من وجود تكافؤ في السلاح الجوي بين الجيشين لخوض المواجهة، ثم بعد تطور الدفاع الجوي وظهور أنظمة الدفاع الجوي المتحرك خفتت قليلًا هذه الآراء، ومع وجود أشكال من الحروب المحدودة لا ينطبق عليها هذا المبدأ غير الحروب الشاملة، وأيضًا مع تنامي الحروب غير المتوازية وحروب العصابات أصبح المجال واسعًا جدًا.

سوف نركز في استعراضنا لتأثير القوة الجوية بعد تقييمها على: تأثيرها على سير العمليات البرية، وتأثير مهمات القصف الأرضي لسلاح الجو، ولن نفصل في مجالات تأثير القوة الجوية في المعارك الجوية أو المهمات الاعتراضية؛ لأننا نعنى بالأساس بالحديث عن مواجهة التفوق الجوي، وليس عن تقدير وتقييم مهمات سلاح الجو بشكل كامل.


هناك العديد من العوامل المهمة عند تقييم القوة الجوية المعادية ومنها:


ــ عدد ونوعية الطائرات

ــ عدد وكفاءة الطيارين وأماكن التدريب

ــ حالة الصيانة وقطع الغيار والذخائر

ــ القواعد الجوية والمطارات

ــ أسلوب القيادة والسيطرة ومدى الترابط مع القوات البرية

ــ قواعد وطرق التموين بالوقود والذخائر

ــ الحليف أو الداعم وإمكانيات تعويض الخسائر والحدود لذلك والزمن اللازم.


قبل تفصيل هذه العناصر لابد من ذكر العوامل التي يتوقف مدى تأثير وفعالية القوة الجوية عليها، خصوصًا في عمليات القصف والهجوم الأرضي -بغض النظر عن إمكانيات القوة الجوية كقوة مجردة-:

ــ المعلومات الكاملة عن المهمة

ــ المسافة بين القاعدة الجوية والهدف أو منطقة العمليات

ــ وجود قوات برية موالية.


أولا : الــمــعــــلــــومـــــات

161004-F-DQ193-038-e1521805893902.jpg


أهمية المعلومات بالنسبة لأي عملية عسكرية أهمية مطلقة، وتعتبر الأولوية الأولى للجيوش؛ فأي خطة تبنى على المعلومات التي يتم جمعها عن طريق أجهزة الاستخبارات العسكرية أو العامة.

بالنسبة للعمليات الجوية الخاصة بالقصف الأرضي، ومهاجمة الأهداف البرية المعادية ترتفع أهمية وجود معلومات متكاملة إلى الحد الأقصى؛ أي نقص أو خطأ في المعلومات عن أي جزء من العملية تؤدي إلى فشلها تمامًا سواء بعدم تحقيق الهدف أو خسارة القوة الجوية، أو على الأقل ضعف التأثير والفاعلية للعملية الجوية.


وتشمل المعلومات المطلوبة لعمليات القصف الأرضي كلًا من :

الهدف المراد قصفه أو مهاجمته بحيث يتم تحديد (هدف ثابت أو متحرك – إحداثيات موقعه بدقة – طبيعته – مستوى تحصينه – إمكانية تحركه أو نقله).

المسار المتاح من قاعدة الانطلاق إلى الهدف ذهابا وعودة ويتم تحديد الارتفاع المناسب في كل جزء من العملية والسرعة المناسبة بناء على المعلومات المتاحة.

طبيعة التهديدات والأخطار الأرضية من الدفاع الجوي والرادارات ووسائل الرصد والتشويش أو أخطار جوية من طائرات معادية في كل أجزاء العملية من التحرك نحو الهدف وأثناء مهاجمة الهدف وفي طريق العودة بعد التنفيذ.

بعد ذلك يتم وضع الخطة المناسبة وتوصيف المهمة في ضوء المعلومات التي تم جمعها ويتم تحديد عدد الطائرات ونوعيتها وحمولتها من الوقود والأسلحة والمسار ذهابًا وإيابًا وطريقة مهاجمة الهدف.

إذًا إذا حدث أي خلل او نقص في عملية جمع المعلومات تصبح القوة الجوية مثل شخص عملاق، ولكنه أعمى أو نظره ضعيف؛ وبالتالي هذا أول ضلع ينبغي العمل عليه -كما سنوضخ لاحقًا في استراتيجية المواجهة-، ونذكر هنا أن عمليات الاستطلاع الجوي كوسيلة لجمع المعلومات ليست بالبساطة التي يتصورها البعض، وترتبط ارتباطًا كليًا بالمساحة المطلوب الاستطلاع فيها، وكلما كبرت المساحة كلما صعب جمع معلومات ذات أهمية خصوصًا عند الحديث عن أهداف صغيرة أو غير واضحة بشكل كبير عن محيطها الطبيعي، من هنا لابد أن ندرك أن عملية جمع المعلومات عملية متكاملة، ولا يكفي فيها وجود استطلاع جوي كوسيلة وحيدة لجمع المعلومات.

هناك نقطة أخرى أن القوات الجوية في أي جيش هي قوات مكلفة من ناحية الثمن، أو من ناحية الزمن اللازم لإعدادها، أو القدرة على الاستعاضة؛ لذا لا تتم المخاطرة بها بسهولة في بيئات عمل ومهمات غير واضحة التفاصيل أو متكاملة المعلومات.


ثـانـيــا : الـمـســــــافــة

عند الحديث عن هذه النقطة نرجع لتاريخ بدء استعمال الطائرات في الحروب؛ فكانت أكبر عيب دفع القادة إلى الزهد في البداية في الطائرة كسلاح استراتيجي: هو ارتباطها بالأرض أي بالقواعد والمطارات؛ فهي عند انتهاء الوقود لا تستطيع مثل الدبابة -مثلًا- التوقف إلى حين وصول التموين والوقود، ومثلت هذه النقطة أكبر عيب من وجهة النظر العسكرية حينها، لذا كان أكبر اهتمام لدى مصنعي ومطوري الطائرات هو زيادة مدى الطائرة؛ لأن المدى هو أهم عنصر مؤثر في استعمالها الاستراتيجي، لذا مع تطور التكنولوجيا حصلت 3 تطورات لتلافي هذا العيب؛ أولها المطارات المتحركة أو حاملات الطائرات، والمحركات الحديثة التي سمحت بزيادة المدى ذاتيًا، وثالثهما هو إمكانية التزود جوًا بالوقود.

ترجع صناعة حاملات الطائرات إلى الحرب العالمية الثانية؛ وهي سفن ضخمة يبلغ طولها إلى أكثر من 300 م، وعرضها إلى أكثر من 130 م، وطول الغاطس إلى حوالي 12 م أو أكثر. ومع اختراعها ساعدت في حل مشكلة المدى قليلًا؛ لكونها أيضًا هي تعمل بالمحركات التقليدية والتي لها مدى معين وخصوصًا مع ضخامة الحجم أصبح احتياجها للوقود ضخم جدًا مما حد من فاعلية الحل لهذه المشكلة.

واستغنت معظم الدول عن هذه الحاملات بعد الحرب، ثم ساهم استعمال الطاقة النووية كمحرك في حاملات الطائرات على إعادة إحياء الأهمية؛ لكونها تستطيع الإبحار بلا توقف إلى أكثر من عشرين عامًا، ولكن بقيت نقطة أخرى بدون حل؛ وهي الطاقم البشري الذي يصل إلى حوالي خمسة آلالاف شخص اللازمين لتشغيل هذه القاعدة المتحركة وتوفير الاحتياجات الأخرى من المياه والطعام ووقود الطائرات والذخائر وقدرة الطاقم البشري على البقاء في المياه بشكل متواصل.

التطور الثاني الخاص بتكنولوجيا الطائرات؛ وهو زيادة مدى الطائرات الحديثة إلى آلاف الكيلومترات، ولكن هذا التطور سنناقشه بالتفصيل تحت عنوان المدى القتالي. التطور الثالث الخاص بالقدرة على التزود بالوقود جوًا هو خيار جيد أُتيح لبعض الطائرات الحديثة، ولكنه يصلح في بيئات العمل الآمنة فقط، ويحتاج لتجهيزات وحماية مما يجعله أقل التطورات الثلاثة تأثيرًا في قضية زيادة المدى للطائرات.


الـمـدى الـعـمـلـيـاتـي أو الـقـتـالـي

F15-Mach-Loop.jpg

جميع الأرقام التي تعلنها الشركات المصنعة والتي تتواجد في المصادر المتاحة دائمًا ما تتحدث عن المدى الأقصى للطائرة وليس المدى القتالي، وهو ما سيجعلنا نذكر الفرق بينهما بشكل بسيط.

المدى الأقصى: هو أقصى مسافة يمكن للطائرة قطعها -سواء بخزانات وقود إضافية أو بلا- من غير إعادة التزود بالوقود، وأغلب الأرقام تكون مقاسة، والطائرة تكون غير محملة بالحمولة القتالية، وتطير على الارتفاعات العالية، ولذا لابد لأي رقم يذكر المدى أن يذكر نقطتين:


1) هل هو باستعمال خزانات وقود خارجية (إضافية) أو بخزان الوقود الداخلي.
2) ما هو الوزن الذي كانت تحمله الطائرة من حمولة قتالية من الأسلحة والذخائر.


وهذا المصطلح لا يعنينا كثيرًا في الحسابات العسكرية، ولكن يمكن استعماله في تقدير المدى القتالي تقريبيًا.

المدى العملياتي أو القتالي: هو المسافة التي يمكن للطائرة قطعها إنطلاقًا من قاعدتها وصولًا إلى مهمتها وتنفيذ المهمة والعودة إلى القاعدة من غير إعادة التزود بالوقود.


يعتمد حساب المدى القتالي على عاملين مهمين:


1) الوزن الذي تحمله الطائرة.

2) الارتفاع الذي تطير عليه الطائرة.


كلما زاد الوزن يقل المدى والعكس بالعكس، والطيران على الارتفاعات المنخفضة يقلل المدى وعلى الارتفاعات العالية يزيد المدى.

يمكن حساب المدى القتالي تقريبيًا عند معرفة المدى الأقصى؛ فهو يمثل ثلث -1/3- من المدى الأقصى، ولكن حسابه بشكل دقيق يحتاج لمعرفة المدى الأقصى بشكل دقيق محسوبًا بالحمولة، ومشمولًا بذكر الارتفاع منخفض أم عالي.

وجود تهديدات غير متوقعة في المهمة أو نسبة خطورة عالية يقلل من المدى القتالي من الناحية التخطيطية، وليس من الناحية الفنية.

متوسط المدى الأقصى لأحدث الطائرات المقاتلة باستعمال خزانات الوقود الخارجية يتراوح حول 4 آلاف كم أقل أو أزيد، والمدى القتالي من ألف إلى ألف وستمائة كم تقريبيًا. وذكرنا أن سبب عدم الدقة في الأرقام مقصود أحيانًا بعدم ذكر الحمولة أو الارتفاع المقاس عليها هذا المدى بشكل دقيق، وطبعًا في الطرازات الأقدم المدى يقل بشكل واضح، وسنذكر لاحقًا مقارنة بين أهم أنواع الطائرات المتواجدة حاليًا سواء شرقية أو غربية للطائرات المقاتلة والمروحية، وسنورد الأرقام المتاحة للمديات سواء قصوى أو قتالية بشكل مفصل.


مثال على ذلك الطائرة الأمريكية الأف – 16:

المدى الأقصى: يصل تقريبًا إلى 3900 كم باستعمال خزانات الوقود الإضافية (الخارجية).

أقصى وزن للحمولة عند الإقلاع: 17500 رطل -غير وزن الطائرة فارغة- منهم 7 آلاف رطل زنة خزان الوقود الداخلي (الأساسي).


المدى القتالي: 1370 كم بحمولة كالآتي:

  • 2 قنبلة زنة الواحدة 2000 رطل.
  • 2 صاروخ جو جو سايدوندر زنة الواحد تقريبًا 200 رطل.
  • 1040 جالون من الوقود الإضافي يبلغ وزنهم حوالي 6500 إلى 6900 رطل حسب درجة الحرارة.
أو 630 كم بحمولة كالآتي:
  • 4 قنابل الواحدة زنة 2000 رطل.
  • 2 صاروخ جو جو سايدويندر زنة الواحد تقريبا 200 رطل.
  • 340 جالون من الوقود الإضافي يبلغ وزنهم حوالي 2200 إلى 2300 رطل حسب درجة الحرارة.
أو 370 كم مع تحليق ساعتين و10 دقائق (مهمة دورية أو تجوال استطلاع) مع حمولة:
  • 2 صاروخ جو جو سبارو زنة الواحد 500 رطل.
  • 2 صاروخ جو جو سايدوندر زنة الواحد 200 رطل.
  • 1040 جالون من الوقود الإضافي يبلغ وزنهم من 6500 إلى 6900 رطل حسب درجة الحرارة.
المدى القتالي الرقم الأول والثاني محسوب على أساس مهمة قصف يكون فيه التحليق على ارتفاع عالي، ثم منخفض؛ للانقضاض على الهدف، ثم ارتفاع عالي مرة أخرى في العودة، وإذا تم التحليق على ارتفاع منخفض يقل المدى كما ذكرنا سابقًا.

الرقم الثالث للمدى القتالي يعطينا لمحة من أهمية المعلومات المسبقة والكاملة عن الهدف والمهمة كما ذكر سابقًا في العامل الأول من عوامل قياس تأثير وفعالية القوة الجوية.

نعيد التذكير بأن المدى القتالي هو الذي يعنينا في التقديرات العسكرية، وهو بشكل تقريبي يمكن تقديره وإن لم يكن متاحًا بشكل دقيق، ونذكر مثالًا على ذلك: عملية قصف المفاعل النووي العراقي من قبل الكيان الصهيوني تم فيها استعمال 8 طائرات f-16 و 6 طائرات f-15، وكانت المسافة بين القاعدة التي انطلقت منها الطائرات والهدف حوالي 900 كم تزيد أو تقل قليلًا، وتم استعمال خزانات الوقد الإضافية الخارجية -أي: الطاقة القصوى لحمل الوقود- لهذه الطائرات.

وتم اعتبار هذه العملية جريئة جدًا، ومن العمليات المعدودة، وكان لهذا التقييم سببان هما: عبور مجالي السعودية والأردن من غير إنذار العراق، والسبب الاخر المسافة البعيدة. وذكر في تفاصيل العملية أن الطائرات اضطرت للطيران في رحلة الذهاب على ارتفاعات منخفضة جدًا؛ لتفادي الرصد من قبل الرادرات، وتم اختيار طيارين يتحدثون العربية بطلاقة حتى يخدعوا المراقبين الجويين عند رصدهم؛ لتحقيق المفاجأة، وذكر أن الطائرات في رحلة العودة طارت على ارتفاعات عالية لتتمكن من توفير الوقود للعودة إلى القاعدة.

وذكرنا هذا المثال العملي لعملية حربية فعلية، بالإضافة إلى المثال الفني المجرد الخاص بالطائرة الإف 16 الأمريكية؛ لنقرب التصور لكيفية تأثير المدى، وحسابات الارتفاع والوزن على المدى القتالي، وتصور كيفية أداء وتخطيط العمليات الجوية.

ثالث عامل من عوامل تأثير وفعالية القوات الجوية هو:



ثـالـثـا : وجـود قــوات بـريـة مـصـــاحـبــة

القوة-البرية-e1521807343236.jpg

ظهرت نظرية الثورة في الشئون العسكرية مع تطور تكنولوجيا الأسلحة الحديثة عالية الدقة، وبعيدة المدى، وكبيرة القوة التدميرية، ومضمون فلسفتها يتمحور أنه يمكنك القضاء على جيش عدوك، وهزيمته وانت تقبع خلف شاشة إلكترونية عبر الضغط على عدة أزرار.

وكان أول حدث جعل لهذه النظرية أهمية هو حرب الخليج الثانية أو حرب تحرير الكويت بين العراق والتحالف الدولي الغير مسبوق، مما أضفى بريقًا ورونقًا على هذه النظرية، واعتبرها البعض كما اعتبر آخرون مثلهم عند تفجير القنبلة الذرية أن هذه النظرية -أي: الثورة في الشئون العسكرية- هي الجيل الجديد من الحروب، وأنه عصر جديد لا يخضع لقوانين الحرب، والاستراتيجية التقليدية التي حكمت الحروب منذ بداية التاريخ.

وزاد اللغط كثيرًا، ولكن مع توالي الحروب مثل حرب البلقان وحرب أفغانستان وحرب العراق والحرب الشيشانية الاولى و الثانية وحروب الكيان الصهيوني مع حركة حماس ومع حزب إيران اللبناني، دار الأمر مرة أخرى كما دار قديمًا على أصحاب نظريات الحرب النووية. ولذا هذه التجارب الكبيرة علمتنا العديد من الدروس الهامة جدًا، وكان أهمها:


ــ لا يمكن حسم حرب بالسلاح الجوي، والأسلحة بعيدة المدى فقط.

ــ الشعوب التي لديها قضية مؤمنة بها تستطيع الصمود لفترات لا يمكنها توقعها في وجه القصف الجوي.

ــ أدى هذا الضغط التكنولوجي إلى ظهور أشكال من الحرب لا يصلح معها أي تفوق تكنولوجي في تحقيق الحسم، وإخضاع العدو الذي تواجهه.


لذا تبقى الصيغة السحرية للحروب التقليدية هي التعاون الوثيق بين سلاح الطيران في إحداث الصدمة، والاستغلال السريع لهذا التأثير عبر قوات مدرعة متحركة على الأرض. وكما هو معروف أن هذه هي المدرسة العسكرية الألمانية في الحرب العالمية الثانية، وأكثر من ورث نهج هذه المدرسة هو جيش الاحتلال الصهيوني، وطبقها في كل الحروب التقليدية التي خاضها تقريبًا بلا أي تعديلات تذكر.

لذا نربط كل ذلك، ونقول أن من أهم العوامل التي تقيم تأثير الضربات الجوية الاستراتيجي هو وجود قوات برية؛ لاستغلال تأثير الضربات الجوية، وجني ثمار أثرها التدميري والمفاجئ، وبدون هذه القوات البرية يمكن امتصاص صدمة الضربات الجوية مهما كانت قوية؛ لأنها محكومة بزمن محدد، فمهما بلغت كثافة وقوة الضربات الجوية فلها وقت تنتهي فيه، مع الوضع في الإعتبار التكلفة المادية الكبيرة للضربات الجوية، والتي دائمًا ما تجعل وقت استعمالها له حدود ليست كبيرة.

بهذا نكون انتهينا من ذكر بعض أهم العوامل التي تحكم حجم التأثير والفعالية للقوة الجوية -بغض النظر عن قوتها المجردة-، وسننتقل الآن إلى مناقشة أهم العوامل التي يمكننا من خلالها قياس القوة الجوية المعادية، وتقييمها بشكل مناسب.



أهــم عــوامـــل قــيـــاس الـقــوة الـجـــويــة

gettyimages-894969602-2048x2048.jpg


1. عـدد ونـوعـية الطـائرات

تعتبر الطائرة مع الطيار هما العمود الفقري للقوة الجوية. وتطور الطائرات وقدرتها على المناورة العالية سواء في المهمات الاعتراضية أو للتملص من أسلحة الدفاع الجوي يعتمد على قدرات الطائرة، واستغلالها بشكل أمثل من قبل الطيار، وهو عامل هام للغاية، ولكن لا يمكن قياسه بشكل سليم إلا في المعركة الحقيقية.

سنذكر الآن مقارنة بين أهم الطائرات على الساحة -سواءً غربية أو شرقية.

أولًا: الطـائـرات الـعـمـوديـة

2.jpg


الطائرات-العمودية-2.png


بـعـض الـمـلاحـظـات

ــ الحمولة المقصود بها: الوزن الكلي الذي تستطيع الطائرة حمله، ويشمل الركاب والوقود والأسلحة.

ــ التسليح يذكر الأسلحة التي يمكن استعمالها على متن المروحية، وليس يلزم وجودها كلها، ويتم التسليح في ضوء الوزن ونقاط التعليق حسب كل مهمة.

ــ بالنسبة للمدى وضحنا سابقًا كيفية حساب المدى القتالي، ونكتفي هنا بذكر الأرقام الدقيقة المتاحة.

ــ كل الطائرات التي تم ذكرها -ما عدا الجازيل- تتحمل طلقات من عيار 12.7، وللأجزاء الحساسة تتحمل طلقات 23 وطبعًا معرفة التدريع بدقة من الأسرار، ولكن الميدان يكشف الحقيقة

ــ منظومة التوجيه والحماية الالكترونية ومنظومات الرصد في الأباتشي تحتاج لصفحات لشرحها، ولكن هي سر تفوقها الكبير بالنسبة لباقي الطائرات الهجومية.

ــ الطائرات الهليكويتر الغير هجومية يكون تدريعها وتسليحها ضعيف للغاية بالمقارنة بالطائرات الهجومية؛ التي تعتبر أقوى الطائرات العمودية في المواصفات التصنيعية والفنية.


ثـانـيًـا: الـطـائـرات الـحـربـيـة

GLD-082299.jpg


الطائرات-الحربية-4.png


بـعـض الـمـلاحـــظـات

ــ 1 ماخ يساوي 1234 كم \س، وهي سرعة الصوت.

ــ لمعرفة وزن الوقود الخاص بالطائرات من لتر إلى كجم نضرب في 0.79.

ــ يرجى ملاحظة ما تم شرحه سابقًا من طريقة حساب المدى القتالي، وتأثير الوزن وارتفاع الطيران وسرعته على حسابات المدى القتالي.

ــ تتميز المقاتلات الحديثة والأمريكية خصوصًا بالتفوق في التصميم، والمناورة، والحركية، والتكنولوجيا الحديثة للغاية في التخفي ورصد الأهداف، والسيطرة الجوية، والحرب الالكترونية مما يعطيها ميزات ضخمة في القتال الجوي خاصة.

ــ لم يكن هدفنا سوى عقد مقارنة بين أهم الطائرات الموجودة، وليس ذكر جميع الطائرات، أو جميع التفاصيل الخاصة بكل طائرة، فهذا ليس مجال بحثنا.

2. عـدد وكـفـاءة الطـياريـن وأمـاكـن الـتـدريـب

gettyimages-932829668-2048x2048.jpg

عتبر الطيار الحربي هو أهم ركن في القوة الجوية؛ لأن السلاح الجوي غير أي سلاح آخر يحتاج لنوعية معينة من المرشحين، ويستغرق تدريب الطيارين وتأهيلهم فترات كبيرة، لا يمكن اختصارها منذ دراسته في الكلية الجوية، وبداية تدريبه؛ الذي يحتاج ساعات طيران كبيرة تكلف وقتًا ومالًا وجهدًا ضخمًا، لذا من الصعب تعويض نقص الطيارين حتى مع توافر الإمكانيات.

يحتاج إلى وقت من الصعب جدًا اختصاره؛ لأن الطيار يقوم بالعديد من المهمات في نفس الوقت؛ ففي السلم عليه مهمات التدريب والدوريات الروتينية والمهمات الاعتراضية (الدفاع الجوي)، وفي وقت الحروب يضاف مهمات القصف الأرضي، ودعم القوات البرية إلى المهمات السابقة.

وعدد الطلعات الجوية التي يمكن القيام بها للطيار الواحد في اليوم قليلة جدًا، لذا من أهم عوامل تقييم أي قوة جوية هو عدد الطيارين المؤهلين فعليًا، ونسبتهم إلى عدد الطائرات المدربين على قيادتها، ويمثل هذا العنصر رقم صعب وهام جدًا لما تقدم.

3. حـالـة الـصـيـانـة وقـطــع الـغــيـار

مجرد امتلاك الطائرة كرقم لا يعبر عن مدى القدرة على استعمالها، ولا على القدرة على الاستمرار في أداء المهمات المنوطة بها، ومعظم الحوادث الجوية التي تقع تكون نتيجة ضعف الصيانة، أو تقادم الطرازات. وعملية إبقاء الطائرة في حالة جيدة عملية مستمرة، ليست مرتبطة بالسلم ولا بالحرب، والإهمال فيها يؤدي إلى نتائج بالغة السوء تظهر عند الاستعمال الفعلي في الحرب، ولذا كما قال كلاوزفيتز قديمًا:

(الاختبار النهائي لأي سلاح هو باستعماله فعليًا في الحرب).

فالحكم على قوة سلاح الجو يكون في الحرب الفعلية مهما بلغت الدعاية، وأيضًا كما نناقش هنا، فالعمليات الجوية ليست امتلاك طائرة وطيار فقط، بل هناك العديد من الجوانب الكثيرة بعضها أهم من الطائرة والطيار.

4. الـقـواعــد الـجـويـة والـمـطـارات

F4G-SP-DF-ST-92-00200.jpg


عدد وأماكن وطريقة توزيع القواعد الجوية لها ارتباط كبير -كما ذكرنا- بالمدى العملياتي أو القتالي للقوة الجوية -كما فصلنا سابقًا-، بالإضافة إلى مدى حماية هذه القواعد ضد الهجمات البرية والجوية، وكيفية توزيع وحماية طرق إمدادها وتموينها، كل هذه العناصر لابد أن يتم جمع المعلومات الكافية عنها، ووضع القواعد الهندسية من حيث طول وكفاءة المدرجات والأجهزة المعاونة، كل ذلك لابد أن يوضع في الاعتبار عند تقييم هذه النقطة.

5. أسلوب القيادة والسيطرة ومدى الترابط مع القوات البرية

هذه النقطة تعنى بمعرفة أسلوب قيادة القوة الجوية وكيفية اتخاذ قرار استخدامها، وهل تتبع قيادة واحدة كقيادة القوات الجوية أم هل هناك جزء موزع على القوات البرية أو البحرية، هل أسلوب القيادة مركزي؛ بحيث يمكن شلها بضربة منفردة، أم القيادة لا مركزية، أم خليط من الطريقتين.

لذا تحديدنا لهذه النقطة وتوصيفها بشكل سليم يمكّننا من تقييم دقيق لرد فعل القوة الجوية في الأحداث المفاجئة لها، أو الغير مخطط لها مسبقًا، بالإضافة إلى معرفة أقصر طريق لتحييدها أو شلها.

في الجزئية الخاصة بالترابط مع القوات البرية، كلما زاد تطور وتفوق سلاح الجو في المعركة نجد الترابط كبير مثل القوات الأمريكية أو الاسرائيلية؛ التي يستطيع قائد سرية أو مجموعة طلب دعم جوي عند محاصرته أو مهاجمته، على عكس باقي الجيوش العربية أو ذات العقيدة الشرقية؛ التي يكون استخدام الطيران فيها في الأحداث الغير مخطط لها مسبقًا أو المفاجئة شديدة التقييد والمركزية.

6. قـواعـد وطـرق الـتـمـويـن بـالـوقـود والـذخـائـر

إن العمليات الجوية المستمرة تتطلب نظامًا دقيقًا في التموين، خصوصًا بوقود وذخائر الطائرات. تكون المخازن -في الغالب- موجودة في المطارات والقواعد، وعلى حسب أهميتها تكون كمية التموين الموجود بها، وفي غالب الأحوال في وقت السلم وعدم التأهب تكون كميات كافية لمدد صغيرة. لذا لابد من تحديد الطرق البرية التي يتم من خلالها نقل التموين من المخازن الكبرى والمعامل والمصانع الحربية إلى المطارات. أو إذا كانت الدولة تعتمد على الاستيراد، ما هو الميناء أو الطريق أو المطار الذي يتم استيراد المتطلبات منه، وما هي الطرق التي تربطهم بالقواعد الجوية.

7. الحليف أو الداعم وإمكانيات تعويض الخسائر والحدود لذلك والزمن اللازم

معظم دول العالم -عدا أمريكا، وعدد قليل من الدول لا يتعدى أصابع اليد الواحدة- لا تستطيع خوض حرب حقيقة بدون الاعتماد على وجود حليف أو داعم أو صديق يقوم بتوريد الذخائر، وقطع الغيار والأسلحة؛ لتعويض الفاقد والخسائر. وبالنسبة للسلاح الجوي، تزيد أهمية هذا العنصر؛ لأن معظم عناصرها في الأغلب تعتمد على الاستيراد الخارجي، ولذا على حسب الحليف وشكل دعمه ومداه؛ هل هو مفتوح ومطلق، أم مقيد بشكل محدد. والقرب أو البعد الجغرافي لهذا الحليف، وقوة اقتصاده، وصناعته العسكرية، ومدى إمكانياته اللوجستية في النقل، والزمن الذي يستغرقه. كل هذه الجوانب تحدد بشكل كبير مسار واستمرارية الحرب بالنسبة للعمليات الجوية بشكل خاص أكثر من أي فرع آخر في القوات العسكرية.


بعد أن ذكرنا النقاط الرئيسية الهامة التي من خلالها نستطيع القيام بعملية تقييم القوة الجوية المعادية بشكل علمي، سنبدأ من الفصل التالي: ذكر الأسس الاستراتيجية لمقاومة التفوق الجوي، والتي يمكن الأخذ بها كلها أو بعضها أو أجزاء منها -حسب الظرف والمكان والإمكانية-، ولكن لابد من إدراكها في أثناء وضع الخطة لمجابهة التفوق الجوي للعدو.



tipyan



 
مشكور أخي , على الموضوع المهم

سأنشر الموضوع الآخر المرتبط والمكمل لهذا الوضوع عما قريب إن شاء الله
 
شكراً على هذا الموضوع الهام ...

هناك العديد من العوامل المهمة عند تقييم القوة الجوية المعادية ومنها:

ــ عدد ونوعية الطائرات

ــ عدد وكفاءة الطيارين وأماكن التدريب

ــ حالة الصيانة وقطع الغيار والذخائر

ــ القواعد الجوية والمطارات

ــ أسلوب القيادة والسيطرة ومدى الترابط مع القوات البرية

ــ قواعد وطرق التموين بالوقود والذخائر

ــ الحليف أو الداعم وإمكانيات تعويض الخسائر والحدود لذلك والزمن اللازم.

هناك عوامل أخرى هامة إضافية مثل :

1- قدرات الاستطلاع الاستراتيجى والتكتيكى .
2- قدرات الحرب الالكترونية (التشويش ومكافحة التشويش .... إلخ) .
3- نوعية وحجم الصواريخ والقنابل الدقيقة التوجيه وخاصة الشبحية .
4- نوعية واعداد الطائرات بدون طيار والتى أصبحت ذات أدوار رئيسية فى الحروب .
5- كفاءة القيادات العسكرية الجوية على التخطيط والقيادة والسيطرة على المستوى التكتيكى والاستراتيجى .
وغير ذلك من العوامل الهامة .

أخيراً : هناك فارق كبير بين القدرة القتالية والكفاءة القتالية .
 
في ضرورة دراسة القوة الجوية

مقدمة عن دراسة القوّة الجويّة

تتضمن دراسات القوّة الجوّية مداخلَ عدّةً، منها ما هو نظريّ، ومنها ما هو عملياتيٌّ- تكتيكيٌّ يختصّ في دراسة استخداماتها بهدف استقصاء المعلومات الاستخباراتية، وصولاً إلى التّدخلات في الحروب البريّة التّقليدية وغير التّقليدية. وتتضمن هذه الدراسات كذلك المعرفة بالطّائرات المستخدمة، وطبيعية القذائف والصّواريخ التي تحملها، وقدرات الطّائرات من حيث سرعتها، ومدى طيرانها، وغيرها من أمور تفصيلية.

تحاول الكثير من النّقاشات والنّظريات الأكاديمية ضمن دراسات القوّة الجوّية الإجابة على أسئلة جوهريّة، أهمّها ما ارتبط بنجاعة هذه القوّة في إطار الصّراعات السّياسيّة ما بين الدّول، أو ما بين الدّول والمنظمات العسكريّة المختلفة. الأسئلة الأكثر أهميةً في هذا السّياق هي: هل يمكن لسلاح الجوّ أن يحسمَ الحرب دون الحاجة إلى القوّة البحريّة أو البريّة؟ كيف يجب استخدام القوّة الجويّة، وما هي طبيعية الأهداف التي يجب التّركيز عليها من الجوّ؟ هل تختلف استخدامات القوّة الجويّة في الحروب التّقليدية عنها في الحروب اللامتماثلة؟

وفي هذا الإطار، وظّف الكولنيل جون واردن [1] حديث كلاوزفتيز[2] عن "مركز الثّقل" في مجتمعات الخصم من أجل تطوير تقسيمٍ خماسيٍّ لطبيعية ونوع الأهداف التّي يُمكن للقوّة الجويّة استهدافها، وهي القيادة، والقدرة الصّناعيّة، والبُنية التّحتية، والبشر، والقوات العسكريّة.

يقول الكولونيل واردن إن الاستخدام الأنجع هو ضرب كلّ الحلقات في محاولةٍ لإضعاف الإرادة القتالية لدى الخصم، وذلك مع التّركيز على القيادة، والتي إن تمّ القضاء عليها، يتم شلُّ بقية الأطراف في البُنية العسكريّة، وخلق حالة من الفوضى في قدرات القيادة والتّحكم، ما يؤدي إلى انهيار العدوّ واستسلامه. وقد تزاوجت نظرية "واردن" مع التّطور التّكنولوجي في الأسلحة وخاصةً القذائف الذكيّة، ومع التّطور في البُنية المعلوماتية العسكريّة، وهو الأمر الذي أدى إلى بزوغ نظريات تروّج لإمكانية الحسم العسكريّ بواسطة القوّة الجوّية.

لكن مثل هذه النّظريات اصطدمت بعوائقَ عدّةٍ، أهمُها انتهاء عصر الخصوم العسكريّين التّقليديين للهيمنة الأمريكية، والتّحول إلى نمط التّنظيمات الهجينة، والتي تستخدم أدوات الحرب غير التّقليدية أو حرب العصابات، والتي أثبتت قدراتها على التّأقلم مع حروب الجوّ والاستمرار بالرغم من التّفوق الجويّ الغربيّ.

وبالتّالي، أصبح الحديث عن القوّة الجويّة وقدراتها في الحسم أمراً مثيراً للسخرية لدى كثير من كبار العقول العسكريّة الغربيّة. ولعل أوضح الأمثلة التّي تستدعي مثل هذه السّخرية هي الحروب التّي خاضتها أمريكا، والتي افتقرت فيها إلى قوّةٍ بريّةٍ متمكنةٍ، ولم تستطع فيها تحقيق الأهداف السّياسية المرجوة، مثل الحرب في فيتنام، وعمليات القصف الجوّيّ التّي أمر بها بيل كلنتون في صربيا والعراق وأفغانستان.

لماذا نهتم بدراسات القوّة الجوّية؟

بالرغم من أهمية القوّة الجويّة في تحديد معالم وأسباب الهزيمة في الحروب العربيّة- الصّهيونيّة المتتالية، وكذلك أهميتها ومركزيتها في البُنية العسكريّة الأمريكية، إلا أن دراستها ودراسة مختلف الأبعاد العسكريّة اتخذّت مقعداً خلفياً وانحسرت أمام تأويلاتٍ ثقافيةٍ-اجتماعيةٍ للهزائم العربيّة.

وقد بدأ الكثيرون بجلد الذات واتهام الواقع الحضاريّ العربيّ والإسلاميّ. وعليه، تعددت الأجوبة ما بين "الإسلام هو الحل" إلى أجوبةٍ اتخذت من الماركسية أو الليبرالية، أو غيرها من أيديولوجيات الثّورة الصّناعيّة والحداثية وما تبعها، ملاذاً لكيفية الخروج من "الأزمة" الحضاريّة الإسلاميّة والعربيّة، وذلك في محاولة تأطير الهزيمة بما يتسق مع المشاريع الأيديولوجية والسّياسية للأقطاب المختلفة في السّاحة العربيّة والإسلاميّة.

وبعيداً عن أهمية بعض هذه النّقاشات، إلا أنها بالكاد تتطرق إلى أسباب الفشل العسكريّ، والتي تكمن في بعض الأحيان في بساطة تشغيل الدّبابة السّوفيتية، أو التّوزيع الجغرافيّ للقواعد العسكريّة المصريّة، أو فشل الرادار في رصد القوّة الجويّة الصّهيونيّة المعتدية، أو تمكُّن العدوّ من اختراق مراكز صنع القرار العسكريّ المصريّ في حرب 1967، أو فشل العرب في اختراق العدوّ معرفيّاً واستخباراتياً، أو أنها – أي أسباب الفشل - لها علاقة بفعالية القوّة الجويّة الصّهيونيّة أمام نظيراتها العربيّة.

وتهدف القوّة الجويّة الصّهيونيّة بالأساس إلى شلّ "الإرادة" الاجتماعيّة للاستمرار في المقاومة، وإن اختلفت في واقع الأمر أهدافها العسكريّة، وتنوعت اتساعاً أو كثافةً أو امتداداً. والتّعويل المفرط على القوّة الجويّة هو في نهاية الأمر محاولةٌ لتخفيف التّوتر ما بين ضرورة الحرب في الأيديولوجيا الصّهيونيّة، وبين التّكلفة الباهظة للحروب البريّة، وخاصةً أعداد القتلى في صفوف الجنود.

من هنا، فإن دراسة الحروب الجوّيّة ومداخلها النّظرية، والاطلاع على التّغيرات التّكنولوجية والعملياتية، هي خطوةٌ بالغةُ الأهمية في محاولة فهم وتفكيك آليات التّحكم الاستعماريّة، وطرق وسبل مواجهتها المختلفة. إن دراسة وتفكيك نظريات القوّة الجويّة وأنظمتها، وتحديد معالمها وأهدافها وطبيعية ومستقبلها، وكثافة الاستهداف الصّهيونيّ في غزة أو لبنان، وابتكار أساليبَ مدنيةٍ وعسكريّةٍ في مواجهة وتحييد القوّة الجويّة، قد يشكل الفرق ما بين الهزيمة والانتصار في حروب الكيان الجديدة، خاصّةً أن حروب اليوم هي حروب الإرادة والنّفس أساساً.

للحروب الاستعماريّة الجويّة في السّياق العربيّ والإسلاميّ تاريخٌ طويلٌ يمتدُ لأكثر من مئة عام. وقد كان العربُ أولَ من قُصِف من الجوّ تاريخياً، وذلك على يد الطّيار الإيطالي والملازم الثّاني في القوّات الجويّة الإيطالية "جوليو غافوتي" (Giulio Gavotti)، والذي رمى أربعَ قنابلَ يدويّةٍ على تحصيناتٍ عثمانيّةٍ في ليبيا في العام 1911.

ومع التّطور الملحوظ في التّكنولوجيا والصّناعات الجويّة التي رافقت الحرب العالمية الأولى، لعبت القوّة الجويّة دوراً هاماً في قدرة بريطانيا وفرنسا على هزيمة الحلفاء، وبسط سيطرتهما على أراضٍ واسعة من الامبراطورية العثمانيّة. وعندما احتلت القوات البريّطانية مدينة القدس عام 1917، كانت القوّة الجويّة البريّطانية إحدى الدعائم الأساسية التي ساهمت في انتصارات الجنرال البريّطاني "اللنبي" اللاحقة في المشرق العربيّ.

وقد أثنى الضّابط البريطاني "تايلور لورنس" المعروف بلقب "صديق العرب" على دور القوّة الجوّية في مواجهة حروب العصابات، إذ إنّها تمنح صاحبَها القدرةَ على حرمان المقاومين من الفضاءات الآمنة في الجبال وغيرها من أماكن التّخفي [3]. كما توفر القوّة الجوّية لصاحبِها القدرةَ على خلق معادلةٍ نفسيّةٍ أحاديةٍ، على اعتبار أنّ الاستهداف يحصل من بعد 10آلاف قدم أو أكثر (ما يقارب 3 كيلومتر). وفي المقابل، لا تستطيع قوى المقاومة، في الغالب، الردَّ أو الاشتباكَ مباشرةً مع القوّة المعادية. وهذا ما جعل البعض يصف الحرب الجوّيّة على أنها محاولةٌ لإخراج "المعركة من الحرب"؛ أي القيام بعملياتٍ حربيّةٍ دون الالتحام مع الخصم، أيّ دون الدخول في حربٍ مُلتحمةٍ ومباشرةٍ.

وقد تحوّلت تلك المعادلة في عصرنا إلى معادلةٍ أكثرَ تعقيداً، فقد أُخرِجَ العاملُ البشريُّ المباشرُ من الطّائرة، وأصبح المقاومون على الأرض يواجهون آلةً يتم التّحكم بها عن بُعد بواسطة بشرٍ آخرين، دون وجود للعنصر البشريّ داخل الطّائرة نفسها. وقد أدّى هذا التّحول والمحاولة الحثيثة للقوّة الغربيّة، ومن ضمنها الكيان الصّهيونيّ، لإلغاء التّبادلية في الحروب من خلال أتمتتها والتّعويل على أجهزة التّحكم عن بعدٍ إلى إسقاط الحروب بمفهومها التّقليدي القديم، والذي تضمن تركيزاً هائلاً على الإعداد النّفسيّ والجسديّ للمُقاتِل، في محاولةٍ لبناء قيم الشّجاعة والبطولة، ولذلك تعتبر حروب الجوّ اليوم أسلحةَ الجبان الفتّاكة.

وفي السّياق الفلسطيني والعربيّ، كانت ولا تزال القوّة الجويّة جوهريةً في انتصارات الكيان الصّهيونيّ في الحروب المتتالية، بدءاً من حرب العام 1948 وما تلاها من حروبٍ، أهمُها حرب السّويس عام 1956، والنكسة عام 1967، وحرب أكتوبر عام 1973. ولا تزال القوّة الجويّة تلعب دوراً أساسياً في حروب الكيان الجديدة سواءً في لبنان أو غزة، بل إنّها تُشكِّلُ العامودَ الرئيسَ في عقيدة الجيش الصّهيونيّ المعلنة، المسمّاة "عقيدة الضّاحية".

تعتمد هذه العقيدة بالأساس على القوّة الجويّة، وقد وضعها قائد الجيش الصّهيونيّ "غادي ايزنكوت"، وتفيد بأنه في أي عملياتٍ عسكريّةٍ لامتماثلةٍ مع قوى المقاومة، سيقوم الكيان باستهداف البنى التّحتية المدنيّة للحواضن الشّعبية للمقاومة، وخاصّةً تلك الأكثر التصاقاً بها. يسعى هذا الاستهداف إلى خلق ردعٍ يتحقق من خلال ضغط سكان تلك المناطق على المقاومة لتأجيل أو إيقاف أيِّ فعلٍ مقاومٍ، وذلك على غرار عملية استهداف الضّاحية الجنوبيّة وتدميرها في العام 2006.

وفي الحرب الأخيرة على غزة 2014، كانت الأهداف الصّهيونيّة مُعدّةً مسبقاً، واعتمدت بشكلٍ خاصٍّ على المعلومات الاستخباراتية الواردة عبر شبكات التّجسس البشريّة والتّكنولوجيّة[4]، وقد تمّ استهداف معظمها في الأيام الأولى للحرب (حوالي 3 آلاف هدف). بالإضافة إلى ذلك، فقد استهدف جيش الاحتلال أهدافاً آنية تخرجُ من رحم المعارك الدائرة[5]، مثل استهدافِ مواقعَ جديدةٍ لانطلاق الصّواريخ، أو الحصولِ على معلوماتٍ جديدةٍ حول أماكن تواجد المقاومين، أو بهدف مساندة العمليات البريّة.

إضافةٍ إلى ذلك، فقد لعبت القوّة الجوّية الصّهيونية خلال الحرب دوراً هامّاً في تنفيذ عملياتٍ نفسيةٍ –عقابيةٍ تهدف إلى خلقِ شرخٍ ما بين الحاضنة الشّعبيّة وقوى المقاومة، وذلك من خلال تقننة وبرمجة القصف لخلق حالةٍ نفسيّةٍ عامّةٍ مضادّةٍ للمقاومة. وتجلى ذلك من خلال تكثيف القصف بالليل في سياسةٍ ممنهجةٍ لحرمان الناس من النوم، وصولاً إلى قصف الأبراج لخلق مشهدياتٍ تلفزيونيةٍ تؤدي افتراضاً إلى إضعاف الإرادة المجتمعية للاستمرار في الحرب.

ويأتي ذلك تطبيقاً لنظريات الحروب التي تتعلق بالقوّة الجويّة، والتّي ترتكز بالأساس على مفهوم إضعاف الإرادة لدى الخصم في الاستمرار بالقتال، خاصّة ًفي ظلِّ بيئةٍ عملياتيةٍ لامتكافئةٍ. على سبيل المثال، اعتمد الأمريكيون في حرب فيتنام على القوّة الجويّة والنّارية، سعياً لضرب البُنية المعنوية وإضعاف إرادة المجتمع الفيتنامي للاستمرار في القتال.

وقد أدرك الفيتناميون تلك المعادلة، فاتبعوا استراتيجياتٍ متنوعةً، منها تطويعُ الجغرافيا والطوبوغرافيا في محاولةٍ لتحييد فعالية القوّة الجويّة، ومنها قيامهم - بقيادة الجنرال جياب (Giap) - بإخلاء معظم المدنيين من المناطق المكتظة إلى الريف ضمن منظومة إيواء وملاجىء تساهم في تعزيز الإرادة الاجتماعية والسّياسية. وقد نجحت هذه الاستراتيجية، رغم الثّمن الهائل الذي دفعه الفيتناميون، حيث قُتِل أكثرُ من 3 ملايين فيتناميٍّ خلال عشرة آلاف يومٍ من العمليات العسكريّة، وهو ما يعادل 10% من سكان فيتنام، في تحرير جنوب فيتنام وتوحيدها مع شمالها.

البحث عن إخراج المعركة من الحرب

بعد انتهاء حقبة الصّراع الأيديولوجي والسّياسيّ ما بين الاتحاد السّوفيتي والغرب، ظهرت نظرياتٌ جديدةٌ في محاولةٍ لصياغة التّحديات العامّة التّي تواجه الهيمنة الأمريكية في عالمٍ افتقد للثنائيات الأيديولوجية الصّارخة. فبعد انتهاء الحرب الباردة، أصبحت ضرورةُ البُنية العسكريّة العالميّة الجويّة والبحريّة والأرضية محلَّ شكٍّ، وتصاعدت بالتّالي أصواتٌ تطالب الولايات المتحدة بالتّفرغ للتوّسع الاقتصادي الدّاخليّ والابتعاد عن شؤون الغير؛ أي اتباع سياسةٍ انعزاليةٍ تشابه تلك التي اتبعتها قبل الحرب العالمية الثّانية.

شهدت هذه الفترة، أيضاً، تصاعدَ نظرياتٍ أخرى تنوّعت في مضامينها، ولكنها توافقت على ضرورة إبقاء البُنية العسكريّة الأمريكية العالمية. ومن أكثر تلك النظريات أهميةً نظريةُ "نهاية التّاريخ" لفرانزز فوكوياما، ونظرية "صراع الحضارات" لصامويل هانتغنتون.

وبعيداً عن الجدل القائم حول كلتا النّظريتين وارتباطهما عضوياً بتبرير وأدلجة الهيمنة الأمريكية في العالم، إلا أن نبوءة هانتغنتون حول طبيعة "الصّراع" ما بين الغرب والشّرق الأوسط تحقّقت، إذ تنبأ باتخاذ الحربِ طابعاً يهمين عليه استخدامُ القوّة الجويّة من قبل الغرب في محاربة ما أسماه "الارهاب". واليوم، يُستخدم الجوّ في حروب الغرب الجديدة في سوريا واليمن والعراق وليبيا وأفغانستان، علاوةً على صراعه مع إيران، وتلويحه المستمر باستخدام القوّة الجويّة لضرب المفاعلات النووية.

وبالفعل، تحتلُ القوّةُ الجويّةُ مركزيةً هائلةً في البُنية العسكريّة واللوجستية الأمريكية، في معادلةٍ أصبح فيها العالمُ من شماله إلى جنوبه، ومن أقصى شرقه إلى أقصى غربه أرضاً لمعركةٍ دائمةٍ (Perpetual battlespace) تتمكن فيها الولايات المتحدة من خلال ما تملك من البُنية العسكريّة اللوجستية والتّفوق التّكنولوجي، ومن خلال تحالفاتها، من ضرب أيِّ بقعةٍ على سطح الأرض في ثوانٍ معدودةٍ.

ونتيجةً لذلك، أصبح العديدُ من أطراف الصّراعات المحليّة في المنطقة يتنافسون على توظيف القوى الجويّة الغربيّة والأمريكية لصالحهم، سعياً لضرب وهزيمة الخصوم المحليين. وتشارك اليوم عدّةُ دولٍ عربيّةٍ مشاركةً "رمزيةً" في حروب الجوّ الأمريكية، في محاولةٍ ممنهجةٍ لتبرير التّدخل الغربيّ في المنطقة العربيّة، وإعطائه صبغةً عربيّةً – إسلاميّةً، بُغيةَ شرعنتِه.

وقد شكلت القوّة الجويّة محوراً مهماً في القدرة الغربيّة -والأمريكية على وجه الأخصّ- في فرض قوّتها على العالم، وتحديد معالمه السّياسية والاقتصادية. يُعزى ذلك لخاصيتين أساسيتين: أولاً، الحاجة الماسة إلى الحرب كأداةِ تطويعٍ وتحكّمٍ أمام قوىً معاديةٍ للهيمنة الأمريكية تتفاوت خطورتها على المصالح الجيو-استراتجية الأمريكية في مناطقَ مختلفةٍ، من ضمنها العالم العربيّ والإسلاميّ.

ثانياً: نمو معارضةٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ داخليةٍ في المجتمعات الغربيّة الليبرالية للحرب المكلفة، خصوصاً التكلفة البشرية، وهو ما أُطق عليها "متلازمة كيس الجثث" (Body Bag Syndrome). وهنا يبرز التّناقض بشكلٍ واضحٍ بين ضرورة الحرب في بسط السّيطرة والتحكم على مناطقَ واسعةٍ من العالم، وبين افتقار دول المركز الاستعماريّ للحاضنة الشّعبية المؤيدة لحروبٍ طويلةِ الأمدِ وغيرِ واضحةِ المعالمِ، يترتّب عليها تضحياتُ بشريةُ لا تستطيع تلك المجتمعات استيعابها.

وهنا، تبرز أهمية القوّة الجويّة، إذ إنها تُشكّل أبرز الحلول المركزية لحلّ لتلك التّناقضات، وذلك من خلال تطوير القدرة النّارية للآليات العسكريّة الجويّة التي يصعب إسقاطها، والتي بحكم طبيعتها تعني تكلفةً قليلةً من حيث أعداد القتلى، خاصةً في مواجهة مجموعاتٍ لا تمتلك القدرات النّارية الملائمة لحرب أرض-جو أو لا تمتلك أيَّ قوّةٍ جوّيّةٍ تُذكر.

وقد كانت إحدى أهم تلك الحروب هي الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها في البلقان في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، اذ تم تقييد حركة الطّائرات الأمريكية التي حلقت فوق صربيا حينها، فلم تحلق أية آلية أمريكية تحت الـ 15 ألف قدم، تجنّباً لإسقاط أيّ طائرةٍ عسكريةٍ. وقد كان كلنتون واضحاً في تعليماته لجنرلات قيادة الجيش الأمريكي آنذاك بأن العمليات العسكريّة يجب ألّا تسفر عن مقتل أيِّ جنديٍّ أمريكيٍّ.

تمكنت أمريكا من خلال القوّة الجويّة والدبلوماسية الفاعلة من تطويع واحتواء مشروع الرئيس الصّربي السّابق "ملوزفيتش" في محاولته لضمِّ مناطقَ واسعةٍ من يوغوسلافيا تحت مسمى "صربيا الكبرى". في المقابل، تجنّب كلنتون الدخولَ في حروبٍ طويلةِ الأمد، واقتصرت سياسات القوّة العسكرية لديه على ركائز الجوّ والاستخبارات والوحدات الخاصّة والدبلوماسية. وقد أعلن حينها في أروقة صنع القرار الأمريكي أن القوّة الجويّة هي الثّورة الحقيقة في الماكينة العسكريّة.

لاحقًا، شكّلت حقبة الرئيس جورج بوش انسلاخاً عن سياسات كلنتون حين قرر الأول الاصطدامَ المباشرَ. عوّل بوش حينها على كافة أركان الميكانيكية العسكريّة الأمريكية، الجوّ والأرض والبحر والدبلوماسية، إضافةً إلى محاولات حثيثة في إعادة بناء وهيكلة دولٍ؛ أهمٌها العراق (State-Building Project). بعيدًا عن جدل الإخفاق أو النجاح في العراق، والدائر في أوساط النخب الأمريكية السّياسية، شكلت العراق درساً جديداً وقاسياً للولايات المتحدة في محدودية الدّعم الشّعبي الغربيّ لحروبٍ طويلةِ الأمدِ وغيرِ واضحةِ الأهدافِ، ومكلفةٍ من حيث العتاد والخسائر البشرية.

ويمكن القول إنّ الفروق البسيطة بين سياسة الرئيس بوش وبين سياسة الرئيس الحالي باراك أوباما تكمن في الأساس في تحوّل القوّة الأمريكية في الشّرق الأوسط من حالة اصطدامٍ مباشرٍ إلى أتمتة حالة الاصطدام، وذلك من خلال التّعويل على الطّائرات من دون طيار (UAV's or Drones) بالدرجة الأولى.

وقد تخللت حقبة بوش سياسات الاعتقال (سجن غوانتانامو) والترحيل لإتاحة التعذيب (Rendition) والحروب المباشرة التي لعبت فيها القوّة البريّة دورًا واضحًا وأساسيًا. في المقابل، تمكّن أوباما من تقليل أهمية سياسة الاعتقال (غوانتانامو كأبرز مثال)من خلال عقيدةٍ جوّيةٍ تتخذ من القتل جوهراً أساسياً بديلاً عن القتل، وتتفادى الدّخول في صراعاتٍ بريّةٍ في سوريا وليبيا واليمن.

واليوم، تقصف الولايات الأمريكية المتحدة اليوم أكثرَ من ستِ دولٍ في المنطقة، وقد قتلت طائراتها أكثرَ من 2500 شخص خارج مناطق الحرب المعلن عنها؛ أي خارج أفغانستان وسوريا والعراق. ومن غير المستغرب أن الميزانية الوحيدة التي لم يتم المسّ بها في ميزانية وزارة الدّفاع الأمريكية هي الميزانية المتعلقة بالطّائرات دون طيار ،وبمراكز تصنيعها وتطويرها، بل تم رفعها بمعدل 30% منذ العام 2008 حتى يومنا هذا.





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] الكولونيل واردن: قائد متقاعد في سلاح الجوّ الأمريكي.
[2] كارل كلازوفتز: جنزال بروسي من أهم منظري الحروب المعاصرة.
[3] يعتبر التّحدي الرئيس في حروب العصابات هو إيجاد الخصم وليس تدميره، في مقابل الحروب التقليدية التي يكون التّحدي فيها هو تدمير الخصم، ولذلك شبّه "لورنس" حروب العصابات بالبخار يتصاعد ويختفي ويبقى كالوهم، وفي هذا السّياق يظهر دور القوّة الجوّية في مواجهتها.
[4] وهو ما يُطلق عليه في العلوم العسكريّة HUMINT and SIGINT.

[5] يسمى باللغة العسكريّة Real Time Intelligence.



 
عودة
أعلى