لماذا نشعر بأن الزمن يمر بسرعة كلما تقدم العمر؟

يوسف بن تاشفين

التحالف يجمعنا🏅🎖
كتاب المنتدى
إنضم
15/1/19
المشاركات
63,415
التفاعلات
180,358
watching-time-1238392.jpg

يجيب عن هذا السؤال كل من جيمس إم. برودواي، وهو باحث في مرحلة ما بعد الدكتوراة بقسم العلوم النفسية وعلوم الدماغ بجامعة كاليفورنيا في سانتا باربارا، وبريتني ساندوفال، باحثة حديثة التخرج من الجامعة نفسها.


"أين ذهب الوقت؟"

ملحوظةٌ كثيرًا ما تتردد على ألسنةِ البالغين في فترة منتصفِ العُمر وما بعد ذلك، فكثير منا يشعر بأن الوقت يمر بشكل أسرع كلما تقدم به العمر، وهو إحساس يمكن أن يؤدي إلى الشعور بالحسرة والندم. وفي هذا الصدد، تقول كلوديا هاموند -وهي عالِمة نفس وكاتبة عمود في موقع BBC.Com-: "يُعَد الإحساس بسرعة مرور الوقت كلما تقدمنا في العمر واحدًا من أكبر الألغاز المرتبطة بالإحساس بالوقت". ولحسن الحظ، فقد أسفرت محاولاتنا الرامية إلى حل هذا اللغز عن بعض النتائج المثيرة.

ففي عام 2005، على سبيل المثال، أجرى مارك فيتمان وساندرا لنهوف -عالِمان نفسيان، كانا يعملان بجامعة لودفيج ماكسميليان بميونخ آنذاك- استقصاءً شمل 499 مشاركًا، تراوحت أعمارهم بين 14 و94 سنة، وطُلِبَ منهم وصْفُ شعورهم بسرعة مرور الزمن، بتعبيرات تبدأ من وصفه بأنه يمر "ببطء شديد" إلى وصفه بأنه يمر "بسرعة شديدة". وقد وجد الباحثان أنه بالنسبة للفترات الزمنية القصيرة –مثل أسبوع أو شهر، أو حتى سنة- لم يَبدُ أن إحساس المشاركين بمرور الوقت يزداد بتقدم العمر، فقد كان معظم المشاركين يشعر بأن عقارب الساعة تجري بسرعة أكبر.

أما بالنسبة للفترات الزمنية الطويلة، كعقد من الزمن مثلًا، فقد برز نمط محدد بين المشاركين؛ إذ كان الأشخاص الأكبر عمرًا أكثر ميلًا إلى الإحساس بأن الوقت يمر أسرع. وعندما طُلِبَ منهم أن يتأملوا ما مضى من حياتهم، فإن المشاركين الذين تجاوزوا سن الأربعين شعروا بأن الزمن مر ببطء في طفولتهم، لكنه بعد ذلك أخذ في التسارع بانتظام خلال سنوات المراهقة حتى المراحل الأولى من النضج.

ثمة أسباب وجيهة تفسر أسباب مشاعر الأشخاص الأكبر عمرًا. فعندما يتعلق الأمر بالإحساس بالوقت، يمكن أن يقدِّر البشر طول حدثٍ ما من منظورين مختلفين: المنظور الاستشرافي، في أثناء وقوع الحدث، والمنظور الاسترجاعي، أي بعد انتهاء الحدث. إضافة إلى ذلك، يختلف إحساسنا بالزمن باختلاف ما نفعله وشعورنا حياله.

ففي حقيقة الأمر، يمر الوقت سريعًا بالفعل عندما نقضي أوقاتًا ممتعة، كما أن الانخراط في عمل جديد يجعل الزمن يبدو وكأنه يمر بسرعة أكبر في وقت أداء ذلك العمل، أما إذا تذكرنا هذا العمل لاحقًا فسوف يبدو أنه استغرق وقتًا أطول من تجارب أخرى أكثر رتابة.

تُرى ما السبب في هذا؟ يعمل دماغ الإنسان على تحويل التجارب الجديدة -وليس التجارب المعتادة- إلى ذكريات، ويكون حكمنا على الوقت، من المنظور الاسترجاعي، مبنيًّا على عدد الذكريات الجديدة التي نكوِّنها خلال مدة معينة. بعبارة أخرى، كلما ازداد عدد الذكريات الجديدة التي نكوِّنها خلال إحدى الرحلات في عطلة نهاية الأسبوع، تبدو هذه الرحلة أطول عندما ننظر إليها لاحقًا.

يبدو أن هذه الظاهرة -التي أطلقت عليها كلوديا هاموند تَناقُض مرور الزمن في الإجازة أو "مفارقة الإجازة"Holiday Paradox-تقدمأحد أفضل الأدلة التي تساعدنا على فهم لماذا –من منظور استرجاعي– يبدو الوقت وكأنه يمضي بسرعة أكبر كلما تقدمنا في العمر.

ففي الفترة من الطفولة حتى بدايات النضج، يكون لدينا الكثير من الخبرات الجديدة، ونتعلم عددًا لا يُحصى من المهارات الجديدة. غير أن حياتنا كبالغين تصبح أكثر رتابة، فنمر بعدد أقل من اللحظات المميزة. ومن ثَم، تبدو السنوات المبكرة من عمرنا ذات حضور أكبر نسبيًّا في ذاكرة السيرة الذاتية، وعند تأمُّلها، تبدو وكأنها استمرت زمنًا أطول. وهذا بالطبع يعني أن بإمكاننا أن نبطئ وتيرة مرور الزمن في وقت متأخر من حياتنا؛ فيمكننا تغيير إدراكنا للزمن من خلال الحفاظ على الدماغ نشطًا، وتعلُّم مهارات وأفكار جديدة باستمرار، واستكشاف أماكن جديدة.

الحوادث التي نتذكرها جيدا أكثر بُعدا مما تبدو عليه​

عادة ما ندرك أن السنوات بدأت تطاير في أواخر العشرينيات من العمر، عندما يستقر معظمنا في وظائف، ويحظى بزواج ويمتلك منزلا. مع هذه الظروف، يبدأ الروتين في فرض سيطرته على حياتنا، وتتغلغل الرتابة تدريجيا، بدءا من الروتين اليومي بالذهاب للعمل والعودة إلى المنزل في نهاية اليوم وتناول العشاء ومشاهدة التلفاز، إلى الروتين الأسبوعي المُتمثِّل في الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية ليلة الاثنين، والذهاب إلى السينما ليلة الأربعاء، وقضاء الوقت مع الأصدقاء ليلة الجمعة، وصولا إلى الروتين السنوي لأعياد الميلاد والعطلات الرسمية.

بعد بضع سنوات، ندرك أن حياة البالغين تصبح أكثر رتابة (فنمر بعدد أقل من اللحظات المميزة التي قد تنفض غبار النمطية عن الأيام)، على عكس ما نشعر به كلما كبرنا، فالأيام تطير بنا لأنه لا أحداث جديدة تُبطئ من وتيرتها، ونكتشف أننا نتقدم بسرعة في ذلك الطريق المجهول المُسمى بالعمر.

لعل هذه السرعة التي نشعر بها هي المسؤولة عن الظاهرة التي يُطلِق عليها علماء النفس اسم "التقريب الأمامي" (forward telescoping)، وتُشير هذه الظاهرة إلى إخفاقنا في تحديد مدى بُعد حوادث بارزة محفورة في الذاكرة، فنميل إلى الاعتقاد بأنه لم يمر زمن طويل على حدث ما رغم أنه مرَّت بالفعل سنوات عديدة عليه، وهو ما يتجلى أمامنا بوضوح عندما نفكر بأحداث مهمة مثل الزيجات والوفيات وولادات الأطفال، فنفترض أنها ما دامت ذكريات واضحة جدا في ذاكرتنا فلا بد أن تكون حديثة.

عندما ننظر إلى الوراء، إلى مجمل الأحداث المهمة التي خلَّفت أثرا في نفوسنا كموت صديق على سبيل المثال، قد يصدمنا أحيانا أنه انقضى بالفعل أربع سنوات على وفاته، على عكس الشعور الرابض في أعماقنا بأنه لم يمر على هذا الحدث سوى عامين فقط، أو أحيانا تصيبك دهشة من أن ابن أخيك أو أختك الذي مرت على ولادته أكثر من أربعة أعوام يبلغ الآن العاشرة من عمره. ألا يترك لنا هذا الكثير مما يجدر بنا تأمله؟

نظريات نسبية وبيولوجية​

إن السؤال الطبيعي الذي يجب أن يُطرح الآن: لِمَ يشعر معظمنا بأن الوقت يمرّ بسرعة كلما تقدمنا في العمر؟ من الناحية النظرية، الوقت حقيقة ثابتة، فالدقيقة هي نفسها للكبير أو الصغير، بيد أن الإحساس المختلف بها يرجع إلى عدة أسباب أُسند بعضها إلى عمليات حسابية. في عام 1877، اقترح الكاتب والفيلسوف الفرنسي بول جانيت نظرية عن عمر الإنسان وعلاقته بالزمن وأطلق عليها "النظرية النسبية"، التي تُشير إلى أنه كلما تقدمت في العمر، أصبحت كل فترة زمنية تُشكِّل جزءا أصغر من حياتك كلها.

تتضمن هذه النظرية قانونا -سبق وتحدث عنه الفيلسوف وعالم النفس الأميركي "ويليام جيمس"- ينص على أن البشر يُقيّمون طول الفواصل الزمنية السابقة وفق عدد الحوادث التي يمكنهم تذكُّرها من تلك الحقبة، بمعنى أن طول المدة الزمنية في حقبة معينة من حياة المرء يتناسب طرديا مع إجمالي سنوات عمره. لذا يُشكِّل عام واحد بالنسبة إلى ولد في العاشرة من عمره نحو 1/10 من مجمل حياته، في حين يُمثِّل هذا العام جزءا بسيطا من حياة رجل في الخمسين من عمره، أي نحو 1/50 من حياته كلها. وهكذا يشعر الطفل ببساطة أن سنواته تمر ببطء، رغم أن الحياة في المجمل تحافظ على طول زمني ثابت
 
التعديل الأخير:
إنني أكبر وأنفق جُل وقتي كي أفهم الزمن، فلا أفهمه، لذا أشعر أنه عدوي الخفي الذي يضرب دون أن يكون باستطاعتي درء ضرباته عني. لا أعرف كيف يمضي؟ ولِمَ يمضي؟ وكيف أننا نحيا فيه ونعجز أن ندركه كما ينبغي له؟ أهو شيء يمرُنا ونمرُه، أم حال تعترينا؟ وإذا مضى فإلى أين يمضي؟ أين تذهب كل أعوامنا التي تغادرنا؟ ولِمَ لا يمكن أن نحتفظ بها في مكان ما كثيابنا وأشيائنا العتيقة؟".

(ليلى الجهني، من كتابها "في معنى أن أكبر")

نسبح في هذا الكون الشاسع محكومين بنوعين من الزمن، الأول هو زمن الساعة التي تدق مرة كل ثانية واحدة، ثمة ساعات دقيقة، وأخرى مُعَطلة فتؤخرنا عن العمل والرحلة ولقاء الأحباب، غير أننا نتفق جميعا على أنها تقيس زمنا موضوعيا واحدا نتفق على مروره فيزيائيا، على عكس النوع الآخر من الزمن، وهو الزمن الذي يحسبه دماغنا.

ألم يراودك يوما شعور بأن الأحداث الحُلوة تتسرَّب من بين أيدينا بسرعة مخيفة، كلقاء أحد الأصدقاء مثلا أو إجازة العيد، فيما تمر الأوقات الحزينة والمُقلِقة -مثل انتظار نتائج تحليل طبي مهم- ببطء شديد وكأنها ستدوم أبد الدهر؟! ومن هنا ينبثق أحد أهم التساؤلات التي لا تنفك تترد على أذهاننا: لِمَ بعد مرحلة ما من عمرنا نلاحظ أنه كلما تقدمنا في العمر، زاد الزمن من هرولته وكأننا في سيارة تزيد من سرعتها يوما بعد يوم تجاه ذاك الطريق المجهول المُسمى بالعمر! ما التفسير العلمي لهذه الحالة الغريبة يا تُرى؟

أتذكر إحدى الليالي وأنا طفل في السادسة من عمري، أجلس في السيارة مع أسرتي عائدين أدراجنا إلى المنزل بعد إجازتنا السنوية التي قضيناها لمدة أسبوعين في كونوي، شمال ويلز بالمملكة المتحدة. كان الليل متلفعا بظلمة حالكة، والطريق طويلة مملة كأنها بلا نهاية، ولا شيء يمكنه أن يُقصي شبح الملل. أستلقي في المقعد الخلفي للسيارة وأتأمل أضواء الشوارع البرتقالية والمنازل ونحن نتجاوزها، أتابعها في صمت إلى أن تغيب عن مرمى بصري. ظل الوضع على حاله حتى بلغ مني الملل مبلغه، وتساءلت إن كنا شارفنا على الوصول يا تُرى، وفور أن انتهيت من سؤالي قال لي أبي: "لا تكن سخيفا! لم تمر سوى نصف ساعة فقط منذ انطلاقنا".

حاولتْ أمي أن تُخفف من وطأة هذا الملل قليلا وتشغلنا بشيء آخر، فبدأت تلاعبنا على أمل أن يتشتت انتباهنا ويمر الوقت على نحو أسرع، ومضينا نلعب تارة، ونستمع إلى الراديو تارة أخرى إلى أن ظفر النوم أخيرا بجفوني، لكن حينما استيقظت انفتحت عيناي على قسوة المفاجأة، لم يتمكَّن عقلي من استيعاب فكرة أننا لم نصل بعد، ما بعث فيّ شعورا بأننا سنظل عالقين في هذه السيارة أبد الدهر.

استغرقت الرحلة ساعتين عندما كنت طفلا، وما زالت تستغرق الوقت ذاته أو أقل قليلا (جرّاء التعديلات التي أُجريت على الطرق).

عندما قررت قبل بضع سنوات أن أخوض هذه الرحلة مرة أخرى مع صديقتي، لم أصدق كيف كان الوقت يتسرب من بين أيدينا بسرعة فائقة، وكأنه يتدفق بسلاسة ولا يُعكِّر نسقه أي ملل. كانت لهذه الرحلة وتيرة مغايرة تماما عما اختبرته في طفولتي، وكأن الساعات البطيئة في طفولتي التي بدت كأنها ستستمر إلى الأبد ما لبثت أن تسارعت حتى تحوَّلت إلى هرولة في شبابي.

قضينا الساعتين ونحن نتجاذب أطراف الحديث، ونستمع إلى بعض الأشرطة المسجلة، ونتأمل الريف وهو يفسح المجال للزحف العمراني في شمال غرب إنجلترا. وفي خضم انسجامنا مع هذه المشاهد، اكتشفنا أننا وصلنا بالفعل إلى مانشستر. انتهت الرحلة وأنا أعجب لما حدث في نفسي من انقلاب إزاء شعوري بالوقت. شيء كهذا كان وقعه في نفسي غريبا، وسرعان ما بدأت الأفكار تحوم على غير هدى في رأسي: أين ذهبت الساعتان اللتان استغرقتا عقودا كاملة من العمر في طفولتي؟

يبدو أن هذا شعور مألوف لدى معظم الناس، فعند تأمُّل حياتهم، يتملَّكهم شعور بأن سنواتهم الباكرة مرَّت ببطء شديد، على عكس السنوات اللاحقة التي بدت تهرول شيئا فشيئا مع تقدمنا في السن. ألم نلاحظ جميعا كيف أصبحت الأعوام تنقضي بسرعة بالغة؟ ألم يدهشنا أن العام الجديد الذي لم نعتد على كتابة تاريخه بعد أضحى ذكرى الأمس وأعقبه عام آخر؟ ألم تتفاجأ ذات مرة بأن أطفالك الذين اعتدت أن تغيّر لهم حفاضتهم بالأمس شارفوا على الانتهاء من مسيرتهم الدراسية؟!

أظهرت الاستبانات التي أجراها علماء النفس أن الجميع تقريبا -بما في ذلك طلاب الجامعات- يتملَّكهم إحساس بأن الوقت في حاضرهم يمر أسرع مما كان في طفولتهم أو مراهقتهم، وأشد ما أثار انتباه علماء النفس حينها هو ما أظهرته نتائج بعض التجارب عندما طُلب فيها من كبار السن وصف شعورهم بسرعة مرور الزمن إزاء الفترات الزمنية الطويلة (مثل عقد من الزمن مثلا)، فكانوا أكثر ميلا إلى الإحساس بأن الوقت مرَّ أسرع من الأشخاص الأصغر سِنًّا.
 
عودة
أعلى