التغطية مستمرة ظهر الحوت والثور الناجي

وشق الشام

التحالف يجمعنا
عضو قيادي
إنضم
3/2/21
المشاركات
3,067
التفاعلات
10,154




النص :

ظهر الحوت والثور الناجي

في مارس من عام ألفٍ وثلاثمائةٍ وأربعة وأربعين أخذ الإسبان القشتاليون الجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس من يد المرينيين سلاطين المغرب، فكتب السلطان أبو الحسن عليً بن عثمانَ المرينيُّ رسالة إلى سلطانِ مصرَ المملوكيِّ، الملك الصالح عماد الدين إسماعيلَ بنِ الناصرِ محمدِ بنِ قلاوونَ، يخبره بما جرى، وكأنه يستمده ويستعين به، فأجابه سلطان مصر بما يلي: وأما ما وصفتموه من أمر الجزيرة الخضراء وما لاقاه أهلها، ومني به من الكفار حَزنها وسهلُها، فإنه شقَّ علينا سماعُه الذي أنكى أهلَ الإيمان، وعدَّد به ذنوبَ الزمانْ- كلُّ قلب بأنامل الخفقان، ولطالما فزتم بالظفر، ورزقتم النصر على عدوكم فجر ذيل الهزيمة وفرّ، ولكن الحروبَ سجالْ، وكلُّ زمان لدوائه دولةٌ ولرجائه رجالْ، ولو أمكنت المساعدة لطارت بنا إليكم عقبان الجياد المسومة، وسالت على عدوكم أباطحهم بقسينا المعوَّجةِ وسهامِنا المقوّمة، وكحَّلنا عيونَ النجوم بمراود الرماح، وجعلنا ليل العجاج ممزقاً ببروق الصفاح، واتخذنا رؤوسهم لصوالج القوائم كرات، وفرجنا مضايق الحرب بتوالي الكرات، وعطفنا إليهم الأعنة، وخضنا جداولَ السيوفِ ودسنا شوكَ الأسنة، وفلقنا الصخراتِ بالصرخات، وأسلنا العبراتِ بالرعبات. ولكن أين الغاية من هذا المدى المتطاول، وأين الثريا من يد المتناول، فما لنا غيرُ إمدادِكم بجنودِ الدعاء الذي نرفعه ورعايانا، والتوجهِ الصادقِ الذي تعرفه ملائكةُ القَبول من سجايانا" صحيح أن عماد الدين إسماعيل المملوكي هذا كان شاباً لم يكد يبلغ الثامنةَ عشرةَ من عمره، ولم يكتب الجواب بيده، وإنما خطه كاتبه خليلٌ الصفدي، إلا أن سنه لم يكن ما يمنعه من نصرة المغاربة، بل انشغاله بقتال أخيه، السلطان المخلوع، شهاب الدين أحمد، المعتصم في الكرك آنذاك، بالأردن، ولما كانت الكرك أقرب إليه من الأندلس، وكان خوفه من أخيه أشد من خوفه من الإسبان القشتاليين، أرسل إلى سلطان المغرب ما سمعت. قبل هذه الرسالة بقرن كامل كانت قرطبةُ وإشبيليةُ، عاصمتا الأندلس، قد وقعتا في يد الإسبان كذلك، وشاعت في الأندلس والمغرب أبيات منسوبة للكاتب أبي عبد الله محمد الفازازي وقيل إنها وجدت برقعة في جيبه يوم موته:

الروم تضرب في البلاد وتغنم ... والجور يأخذ ما بقي والمغرم

والمال يورد كله قشتالة ... والجند تسقط والرعية تسلم
وذوو التعين ليس فيهم مسلم ... إلا معين في الفساد مسلم

أسفي على تلك البلاد وأهلها ... الله يلطف بالجميع ويرحم

وقيل إن هذه الأبيات رفعت إلى سلطان بلده فلما وقف عليها قال بعدما بكى صدق رحمه الله تعالى ولو كان حيا لضربت عنقه!

أسمعك يا صديقي تقول، أي أندلس ونحن فيما نحن فيه، ولكن تمهل قليلاً، ودقق فيما جرى، سترى شبها بيننا وبين أهلنا القدامى أكبر مما تظن وترى دروساً لا يضر تكرارها. ولا تكن كمراهق عشق، فظن أنه أولُ من يعشق، وعجز عن تخيل جده أو جدته هائمَين في الغرام كأنهما لم يكونا قط شبابا مثله. فانظر يا صديقي إلى هؤلاء القدامى، وقارن، بين إبادات اليوم وإبادات الأمس، وتهجير اليوم وتهجير الأمس وخذلان اليوم وخذلان الأمس.


ضع اللاجئين والمقاتلين والحكامَ والمحكومين والشعراءَ والمجانينْ بين مرآتين متقابلتين، كاللتين تراهما في غرف قياس الملابس، سترى صفا من الوجوه لا نهائي التكرار عن يمينك وتوأمَه عن شمالك. أمعن، وسترى أحد الصفين واقفاً في العمائم والبرانس بملابس انقضى عهدها منذ خمسمائة سنة، يقابل صفا بالملامح ذاتها في زيك وزي ناسك. ثم اسحب عدسة الكاميرا بعيداً لترى الصورة الأكبر، صف العمائم والعباءات في سفينة تغرق، كلهم في أندلس تغيب إلى غير رجعة، تتلاشى تلاشياً من تحت أقدامهم، وأنت تشعر باضطراب الأرض من تحتك، ولا تدري إن كنت أنت أيضاً، على سفينة تغرق مثلهم. أتذكر قصة البحار الذي نزل مع بعض زملائه إلى ما ظنه جزيرة فإذا هي ظهر حوت غاص بالبحارة فغرقوا ونجا صاحبنا وحده؟ الحوت وَصِفَتُهُ في كتب التاريخ، تأمل ملامح ظهره، لتعرفَ مواضعَ قدميك، ومكانك من زمانك هذا. فمن لم ير الحوت من قبل، سيظنه جزيرة ويغرق.

لم تسقط الأندلس في يوم واحد، بل بقيت تسقط أربعةَ قرون كاملة، نحن الآن نعلم أنها كانت تسقط، ولكن أهلها لم يكونوا يعلمون أنها ستضيع للأبد. فهل سينظر إلينا أحفادنا بعد أربعة قرون، بملل وشفقة، لأن بلادنا تضيع منذ قرون ونحن لا ندري. تميد بنا الأرض ولا نراها تميد، كما كانت تميد بهم ويظنونها ثابتة. ألا ترى في خذلان السلطان المملوكي لأخيه المغربي، مغلفاً باللغة الفخمة، شبهاً من خذلان حكامك اليوم للناس، وإن كانت لغتهم أشد رثاثة وركاكة؟ ولأربعة قرون كاملة، ظل أصحاب البصيرة من الشعراء والكتاب وعامة الناس يصرخون بالأمراء والسلاطين، هذا حوت لا جزيرة، الأرض تميد بنا، لا وقت لتقاتلكم على الملك، لن يبقى شيء تتقاتلون عليه. لكن السلاطين ظلوا على ما هم عليه يستعين أحدهم بالعدو على أخيه، ويأكلون من العشب الذي على ظهر الحوت ويتقاتلون عليه مطمئنين إليه كأنه جزيرة. وفي اللحظات القليلة التي توقف فيها الأمراء عن ذلك، توقف السقوط، وجرت معارك كالزلاقة والأرك أطالت عمر الأندلس دهراً، قبل أن يعود الأمراء والسلاطين إلى سيرتهم في تقصيره. لاجئون من طليطلة ثم قرطبة ثم إشبيلية ثم بلنسية ثم غرناطة، ثم ضاعت البلاد إلى يوم الناس هذا. لاجئون من القدس ثم من لبنان ثم من العراق ثم من الشام ثم من اليمن ثم ماذا أيها الناس. هو ظهر حوت، اليوم أيضاً. يقال إن الثور الناجي من مصارعة الثيران الإسبانية، لا يعاد إلى حلبة المصارعة مرة أخرى، لا من باب مكافأته على نجاته، بل لأن الثور ذو ذاكرة قوية نسبياً، ولأنه سريعُ التعلم، ومن شروط الثيران التي ترسل إلى حلبة المصارعة أن تكون بلا ذاكرة، وأن ترى ما ترى للمرة الأولى فلا تعرفَ كيف تواجهه، يسهل استدراجها وإرباكها ثم قتلها لمتعة المشاهدين. فالذاكرة درع وطوق نجاة. الذاكرة درع. فتذكر.
 
عودة
أعلى