متجدد سلسلة رمضانية : علماء ودعاة

Ahmad_bin_Hanbal_Name.png

أحمد بن حنبل.. شيخ وقلم في مواجهة طغيان الفكر واستبداد السلطان


لا يعرف بين علماء الإسلام رجل أكثر صبرا على الأذى ومواجهة طغيان الفكر وصنمية السلاطين، ولا أكثر رسوخا في ذاكرة التاريخ، ولا أعمق رمزية من الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، فقد وقف في وجه التحالف القوي الذي أقامته المعتزلة مع ملوك بني العباس، وانتهى إلى استبداد فكري لا نظير له فيما عرف بعد ذلك بمحنة خلق القرآن، ليصنع بذلك واحدة من أهم معارك الفكر الإسلامي، وأقوى المواجهات بين المداد والعتاد.

ولقد كان سر تميز الإمام أحمد بن حنبل أنه كان الصامد الوحيد تحت سياط الطغيان المعتزلي المسور بحماية الخليفة المأمون بن هارون الرشيد.

والواقع أن أزمة خلق القرآن لم تكن حدثا عابرا في تاريخ المسلمين، بل اعتبرها مؤرخون كثر أصعب أزمة فكرية ودينية للمسلمين في القرون الأولى، بعد فتنة الردة التي انتشرت بعد وفاة النبي الكريم ﷺ، ولذلك جعل بعضهم دور الإمام أحمد بن حنبل ومنزلته في الدفاع عن أصول الإسلام ومرتكزاته الروحية مثل دور خليفة المسلمين أبي بكر الصديق في التصدي للردة.

فتى بني شيبان.. طفولة في عاصمة الحضارة الإسلامية.

في بغداد أبصر أحمد بن حنبل أنوار الحياة المفعمة بأحلام التدافع والتشكيل الحضاري الجديد في عاصمة الخلافة التي تناغي أمواج الفرات كل صباح، وتصدح في آفاقها مآذن المساجد والزوايا العتيقة، وتنام بين أسرة الشعراء وترانيم المغنين، ولا يتوقف عن الهدير فيها صوت المعامل والنواعير، كما لا يُبح فيها صوت الشاعر الشادي والإمام المدرس والصوفي الملتهب بأشواق الملأ الأعلى، والجواري اللواعب السكارى بخمر الحياة.

كانت بغداد يومها لوحة حياة باذخة متداخلة الألوان، متضاربة الأضواء، بل كانت صفحة براقة من “ظهر الإسلام”. وفي تلك الظهيرة البراقة من تشكل الحضارة البغدادية، ولد أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الذهلي لبيت عراقي قح، ينتهي نسبه إلى معد بن عدنان، وقد كان ميلاده بعد أن مالت شمس النصف الأخير من القرن الثاني الهجري نحو المغيب، في أحد الأيام الباسمة من سنة 164 من الهجرة، الموافقة لعام 780 الميلادي.

كان حنبل بن هلال أحد وجوه بني ذهل بن شيبان وقادتهم وأصحاب الرأي فيهم، وكان واليا لبني أمية على خراسان، لكنه اختار الانحياز إلى بني العباس في مستهل ثورتهم التي أطاحت بحكم المروانيين الأمويين.

أما ابنه محمد بن حنبل فقد واصل المسيرة العسكرية، وكان أحد القادة في جيوش بني العباس، غير أن سهم المنون اخترقه حين كان ابنه أحمد في ميعة الطفولة غريرا كأغصان الدوحة الغناء.

وتظهر كتب التاريخ أن أسرة آل حنبل كانت من أعوان الدولة العباسية، وكان فيها أمراء وقادة ومقربون من السلطة، ويبدو أن الفتى أحمد بن حنبل كان ينفر من بعض تفاصيل تلك العلاقة مع السلطة القائمة، فنجده مرة وقد أرسله عمه بتقرير عن حال مدينة بغداد إلى واليها، فلم يكلف نفسه إيصال التقرير إلى وجهته، بل ألقى به في النهر، متورعا عن ذلك، حسب ما تفيد بعض الروايات التاريخية.

رحلة الحجاز.. تقليد راسخ لأولي التبحر في العلوم

عاش أحمد بن حنبل يتيما، فاختارت له أمه تربية إيمانية عميقة، وخطت له طريق الإمامة في الدين والريادة في معارف الوحي قرآنا وسنة، فأخذ في طلب العلم وهو لم يبلغ 15 عاما على شيوخ أهل الحديث مثل الإمام هشيم بن بشير الواسطي.

وبعد أن نهل من معارفه، وأحاط بما لدى شيوخ بغداد من علم الآثار النبوية، بدأ الرحلة في طلب العلم خارج بغداد، وهو تقليد علمي دأب عليه علماء المسلمين منذ القدم إلى اليوم.

وقد شملت رحلة ابن حنبل الحجاز وتهامة واليمن والبصرة والكوفة، ونهل من معارف العلماء الأجلاء الذين أدرك بعضهم الأجيال المتأخرة من كبار التابعين وربما من الصحابة أيضا، وكان ممن أخذ عنهم عبد الرحمن بن مهدي، وعمير بن عبد الله بن خالد، والقاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، وسفيان بن عيينة، والشافعي وغيرهم من جهابذة العلماء.

وقد كانت رحلته إلى صنعاء للقاء الشيخ عبد الرزاق بن همام رفقة يحيى بن معين عنوانا بارزا من عناوين الصبر والمثابرة، وقصصا من أروع قصص الرحلات العلمية في تاريخ علماء المسلمين.

وقد تكررت رحلات ابن حنبل في تهامة والحجاز واليمن، وفي بعض الأحيان كان ذلك بمعية رفيق دربه يحيى بن معين، وفي أحيان كثيرة كان يسير مسافات هائلة على قدميه دون مال ولا زاد غير العزيمة.

وفي الأربعين من عمره جلس للإفتاء وإملاء الحديث الشريف بجامع بغداد، وتوسعت حلقته العلمية وانتشر صيته، حتى قيل إن أكثر من 5 آلاف شخص كانوا يحضرون درسه، ويكتبون من إملائه، مشدوهين بتدفق علمه، ومشدودين إلى نورانيته وألقه الروحي وإبائه النفسي وسمته الرباني الرائق.

وفي أربعينيته أيضا تزوج أم ابنه صالح وهي العباسة بنت الفضل، وأقامت معه ثلاثين سنة في جو من الحب والصفاء والتكامل الأسري الوارف الظلال، حتى نقل عنه قوله: أقامت معي أم صالح ثلاثين سنة، فما اختلفت وإياها في كلمة.

جبل الوقار.. مزيج من المهابة والتواضع في شيخ بغداد

كان للإمام أحمد بن حنبل فضاءان للتدريس، فكانت له حلقة في بيته لأولاده وخاصة تلاميذه، وكانت الأخرى في المسجد يحضر إليها العامة والتلاميذ، ويصطف فيها آلاف التلاميذ وآلاف الأقلام والمحابر.

وقد عرف عنه وقاره الشديد، فلم يكن له في المزاح حظ ولا له إليه سبيل، ولم يكن طلابه يجرؤون على ممازحة بعضهم في حضرته، بل كان شيوخه يهابون المزاح، إذ كان جبل وقار وتؤدة وهدوء نادر.

ومع حفظه النادر فقد كان حريصا على أن لا يحدّث إلا من كتاب، حرصا على الدقة في نقل الحديث، رغم أنه كان إمام بغداد حفظا وسيادة وريادة في علوم الشريعة، وينقل عنه ولده عبد الله قوله: ما رأيت أبي حدث من حفظه من غير كتاب إلا بأقل من مئة حديث.


وإلى جانب ما عرف عنه من وقار وهيبة، فقد كان أيضا آية في التواضع ونكران الذات، وكان حريصا على أن لا تدون آراؤه الفقهية وفتاواه واستنباطاته، وكان يغضب أشد الغضب إذا نقل إليه أن بعض تلاميذه دوّن آراءه في كتب الفقه والخلاف المذهبي السائد يومها.

فقه ابن حنبل.. أصول مذهب الإمام الرافض للتمذهب

يمكن اعتبار مذهب الإمام أحمد بن حنبل مذهب أهل الحديث، أو بعبارة أخرى المذهب الأقل استخداما للعقل والمقايسة، فقد كان أحمد رحمه الله حريصا على أن لا ينسب له مذهب أصلا، وحريصا على ربط تلاميذه بالأصلين (الكتاب والسنة) مباشرة، دون اللجوء إلى واسطة من فهم الفقهاء.

ومع ذلك فقد ارتفعت ترجيحات الإمام أحمد واستنباطات تلاميذه من بعده، لتكون مذهبا فقهيا ذا أتباع كثر ومؤلفات عريضة وأصول وثوابت وقواعد وتفريعات كثيرة. وقد قام المذهب الحنبلي على أصول أساسية منها:


– نصوص الوحي: وتلك أهم قاعدة بنى عليها الإمام أحمد بن حنبل مذهبه، فحيثما وجد نص من الكتاب والسنة لا يلتفت إلى ما خالفه، ولا إلى من خالفه، كائنا من كان.

– إجماع الصحابة: فلا يقدم الإمام رأيا ولا قياسا على إجماع الصحابة رضوان الله عنهم.

– رد خلاف الصحابة إلى الكتاب والسنة: فحين يختلف الصحابة في مسألة ما، فإنه ينتقي ويختار من أقوالهم ما يرى أنه الأقرب إلى السنة.


– الأخذ بالأثر المرسل وبالأحاديث الضعيفة، إذا لم تجد معارضا من الكتاب أو صحيح السنة وأقوال الصحابة رضوان الله عنهم.

– القياس: وهو الأصل الخامس من أصول الإمام أحمد، ولا يلجأ إليه إلا بعد استنفاد الأصول الأربعة السابقة.

ولم يكن مذهب الإمام أحمد واسع الانتشار لأسباب متعددة، منها أنه آخر المذاهب نشأة، فلم يظهر ولم يتمدد حتى كانت المذاهب الثلاثة الأخرى قد أخذت نصيبها الوافر من الأتباع والانتشار، ويضاف إلى هذا أن مذهب الإمام أحمد ظل طوال قرون عدة محروما من ظل السلطان، ومن الحافز السياسي الذي كان له دور كبير في فرض المذاهب في أنحاء متعددة من بلاد المسلمين.

وقد ظل المذهب الحنبلي محصورا في العراق وجوانب قليلة من الشام، ثم دخل مصر على استحياء عبر البعثات والرحلات العلمية، وكان له حضور في جزيرة العرب، ولكنه زاد فيها انتشارا وتمددا مع قيام دعوة محمد بن عبد الوهاب.

محنة خلق القرآن.. رجل واحد في مواجهة دولة

أخذت محنة خلق القرآن جزءا كبيرا من شهرة وتاريخ الإمام أحمد بن حنبل، بل أخذت جزءا كبيرا من تاريخ الجدل والنقاش العقَدي في الإسلام. فقد وقف أحمد في مواجهة الدولة العباسية التي كان خليفتها المأمون يرى رأي المعتزلة في خلق القرآن، وهو رأي لم يرق للإمام أحمد بن حنبل، وأعلن رفضه بشكل مباشر أمام الخليفة وعلمائه من المعتزلة الذين يقودهم أحمد بن أبي دؤاد.

ظل بن حنبل جبلا راسخا حتى أظهره الله عليهم وقد زين ابن أبي دؤاد وجماعته للمأمون حمل الناس بالسيف على القول بخلق القرآن، ووزعوا رسالة أميرية إلى ولاة الأقاليم جاء فيها وفق ما تنقل كتب التراجم: اجمع من بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون، وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ولا واثق في من قلده واستحفظه من رعيته بمن لا يوثق بدينه، وخلوص توحيده ويقينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة فمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس، ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع عن توقيعها عنده، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم، والأمر لهم بمثل ذلك، ثم أشرف عليهم وتفقد آثارهم حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين، والإخلاص للتوحيد.

ولما تباينت الردود، أخذ المأمون الناس بالحزم، وبدأ الرعب يهز قلوب الفقهاء، فأجابوا المأمون إلى القول بخلق القرآن، ولم يبق منهم غير أربعة أصروا على موقفهم، قبل أن يتراجع منهم اثنان، ويبقى اثنان آخران هما أحمد بن حنبل والفقيه محمد بن نوح المضروب، فنقلا مكبلين في الأغلال إلى سجن في مدينة طرسوس، وفي الطريق قضى محمد بن نوح نحبه وغادر الدنيا قبل أن يواجه المأمون، ولم يطل الأمر حتى مات المأمون أيضا قبل أن يصل إليه أحمد بن حنبل، ليتولى كبر أزمة خلق القرآن خليفته من بعده المعتصم ثم الواثق، وفي عهدهما بلغت محنة أحمد أوجَها، ونال من السجن والعذاب الصنوف المؤلمة، ولكنه واجهها بعزم راس، وعقيدة راسخة، لم يُذبل نضارتها التخويف ولا البطش والسجن والإرهاب، ولا الإغراء والوعد والتزيين.

محنة الحجر.. حصار الخليفة يقيد علم الإمام وحريته

كانت وجبات التعذيب اليومية أيام المحنة مشكلة من صنوف متعددة، تتضمن الضرب بالسياط حتى يغمى على الإمام، والنخس بالسيف حتى تسيل دماؤه الطاهرة، قبل أن يفرج عنه ضعيف البنية خائر القوة شديد العزم، ليخضع بعد ذلك لإقامة جبرية في بيته عدة سنين.

ومع عهد الواثق بدأت محنة أخرى، لكنها أخف أثرا من سابقتها، فلم تصل حد التعذيب، لكنها كانت حصارا فكريا شديدا وتحجيرا على الإمام، فقد مُنع من محادثة الناس والصلاة بهم وإفتائهم، ليلزم بيته قرابة سنتين، قبل أن تنفرج الأزمة مع وصول المتوكل إلى الحكم، فوضع حدا لتلك الأزمة العصيبة، لتنتهي بذلك المحنة ويزول سلطان التعسف الفكري.

لم تطل إقامة الإمام بن حنبل في الدنيا بعد المحنة المؤلمة، فقد خرج منها منهك الجسم، ليقتص المرض ما بقي من قوته، وليغادر عالم الأحياء سنة 241 للهجرة عن قرابة 77 سنة كانت حافلة بالوقار والجلال وهيبة العلم وسلطان الصمود، وقد ترك خلفه مؤلفات كثيرة أشهرها كتاب “المسند” الذي يعتبر أحد أهم مجاميع الحديث الشريف.

وفي القلوب وفي شغاف الزمن ودواوين التاريخ وسير العظماء كان لابن حنبل مكان سامٍ في ذاكرة الأيام، وتاريخ الأفذاذ الذي عرفوا الله ولزموا ما عرفوا، وكان له الشأو العالي في الصراع الدائم بين المداد والعتاد، وبين الفكر والسلطان والسيف والقلم.
 
تخطيط_اسم_أبو_ذر_الغفاري.png

أبو ذر الغفاري.. تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك”.



أبو ذر الغفاري “ما أقلَّت الغبراء، ولا أظلت الخضراء رجلا أصدق من أبي ذر”. في وادي “ودان” كانت تقيم قبيلة “غفار”، هذا الوادي الذي يصل مكة بالعالم الخارجي وكانت تعيش على ذلك الشيء القليل الذي كانت تبذله القوافل التي تسعى بتجارة قريش ذاهبة إلى بلاد الشام أو عائدة منها وكان “جندب بن جنادة” المكنَّى بـ “أبي ذر” واحدًا من أبناء هذه القبيلة، كان يمتاز بجرأة القلب ورجاحة العقل وبعد النظر، كان ضخم الجسم كَثَّ اللحية.

كان يضيق صدره بهذه الأوثان التي يعبدها قومه من دون الله، ويستنكر ما وجد عليه العرب من فساد الدين وتفاهة المقصد، ويتطلع لظهور نبي جديد يملأ على الناس عقولهم وأفئدتهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ثم بلغته وهو في باديته أخبار النبي الجديد الذي ظهر في مكة، فقال لأخيه “أنيس”: انطلق إلى مكة وقِفْ على أخبار هذا الرجل.

وذهب “أنيس” إلى مكة، والتقى بالرسول -صلى الله عليه وسلم- يسمع منه، ثم عاد إلى البادية فتلقاه أبو ذر الغفاري في لهفة، وسأله عن أخبار النبي الجديد في شغف.

فقال له: وماذا يقول الناس فيه؟

قال: يقولون: إنه ساحر وكاهن وشاعر.

فقال أبو ذر: والله ما شفيتَ غليلي، ولا قضيت لي حاجة؛ فهل أنت كافٍ عيالي حتى أنطلق فأنظر في أمره؟

فقال: نعم، ولكن كن من أهل مكة حذرًا.

رحلته إلى الحقيقة

تزود أبو ذر الغفاري لنفسه، وحمل معه قربة ماء، واتجه إلى مكة، فبلغها وهو متوجس خيفة من أهلها؛ فقد بلغته غضبة قريش لآلهتهم؛ لذا كره أن يسأل أحدًا عن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولما أقبل الليل اضطجع في مكان، فمر به علي بن ابي طالب كرم الله وجهه فعرف أنه غريب، فقال: هلم إلينا أيها الرجل، فمضى معه وبات ليلته عنده، وفي الصباح عاد للتجول دون أن يسأل أحدهما الآخر عن شيء!! ـ ثم في المساء مر به عليّ فقال له: أما آن للرجل أن يعرف منزله؟
ثم اصطحبه معه فبات عنده ليلته الثانية، ولم يسأل أحدهما صاحبه عن شيء، فلما كانت الليلة الثالثة قال له علي: ألا تحدثني عما أقدمك إلى مكة؟

فقال أبو ذر الغفاري : إن أعطيتني ميثاقًا أن ترشدني إلى ما أطلب فعلت، فأعطاه عليّ ما أراد من ميثاق.

فقال أبو ذر الغفاري : لقد قصدت مكة من أماكن بعيدة أبتغي لقاء النبي الجديد؛ فتهلل وجه عليّ رضي الله عنه، وقال: والله إنه لرسول الله حقًا.

فإذا أصبحنا فاتبعني حيثما سرت، فإذا رأيت شيئًا أخافه عليك وقفت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي.

وفي الصباح مضى علي بضيفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو ذر: السلام عليك يا رسول الله.

فقال: عليه الصلاة والسلام، “السلام عليك ورحمة الله وبركاته”.

فكان أبو ذر أول من حيا الرسول بتحية الإسلام ثم شاعت وعمت بعد ذلك.

فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم القران ودعاه للإسلام، فما إن سمع حتى أعلن كلمة الحق، ودخل في الدين الجديد، فكان رابع ثلاثة أسلموا أو خامس أربعة.

ثم أقام مع النبي عليه الصلاة والسلام في مكة، فتعلم الإسلام، وقرأ القرآن، وقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ” لا تخبر بإسلامك أحدًا في مكة إني أخاف أن يقتلوك”.

فقال: والذي نفسي بيده لا أبرح مكة حتى آتي البيت الحرام، وأصرح بدعوة الحق بين ظهراني قريش.

ففعل حتى كادت كلماته تلامس آذان القوم؛ فزعروا جميعًا، وهبوا عليه ضربًا، فأدركه العباس بن عبد المطلب، وأكبّ عليه ليحميه، وقال: ويلكم أتقتلون رجلا من غفّار وممر قوافلكم عليهم، فأقلعوا عنه، فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام ما به قال: ألم أنهك عن إعلان إسلامك؟ فقال: يا رسول الله، كانت حاجة في نفسي قضيتها.

فقال: الحق قومك وخبرهم بما رأيت وما سمعت وادعهم إلى الإسلام، لعل الله ينفعهم بك ويؤجرك فيهم.. فإذا بلغك أني ظهرت فتعالَ إلي.

دعوة وتمرّد

قال أبو ذر الغفاري : فانطلقت حتى أتيت منازل قومي، فلقيني أخي أنيس فقال: ما صنعت؟!

قلت: صنعت أني أسلمت وصدقت، فما لبث أن شرح الله صدره، وقال: ما لي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت أيضًا، ثم أتيا أمهما فأسلمت هي الأخرى.

ومنذ ذلك اليوم انطلقت الأسرة المسلمة تدعو غفار حتى أسلم خلق كثير، فأقيمت الصلاة فيهم، وقال فريق منهم نبقى على ديننا حتى إذا قدم النبي أسلمنا، فلما قدم النبي عليه الصلاة والسلام أسلموا، فقال عليه الصلاة والسلام: “وغفار غفر الله لها، و”أسلم” سالمها الله”.

أقام أبو ذر في باديته حتى مضت بدر وأحد والخندق، ثم قدم إلى المدينة وانقطع إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واستأذنه أن يقوم على خدمته، فأذن له ونعم بصحبته وسعد بخدمته.

ولما لحق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرفيق الأعلى لم يطق أبو ذر صبرًا على الإقامة في المدينة؛ فرحل إلى بادية الشام، وأقام فيها مدة خلافة الصديق والفاروق رضي الله عنهما وعنه.

الفقراء أولى

وفي خلاقة عثمان رأى من إقبال الناس على الدنيا وانغماسهم في الترف ما أذهله ودفعه لاستنكار ذلك، وكانت له دعوة يحث بها الأغنياء على مواساة الفقراء والجيران والتنازل لهم عما زاد عن الحاجة حتى ولع الفقراء بمثل هذا وأوجبوه على الأغنياء، حتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس.

فشكا معاوية بدوره إلى الخليفة عثمان رضي الله عنهما؛ فاستقدمه عثمان إلى المدينة ودار بينهم حوار، قال عثمان: يا أبا ذر، ما لأهل الشام يشكون ذربك؟ -أي كثرة كلامك-
فأخبره أبو ذر: بأن الأغنياء تزيد أموالهم عن حاجتهم والفقراء في حاجة.

فقال عثمان: يا أبا ذر، عليّ أن أقضي ما عليّ، وآخذ ما على الرعية، ولا أجبرهم على الزهد وأن أدعوهم للاجتهاد والاقتصاد، ولكن أبا ذر يرى أنه لا يجب الاكتفاء بالزكاة الواجبة والأمة فيها جياع وفقراء لا يجدون ما يسد حاجتهم.

فأبو ذر المعتمد في دعوته على الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية التي يراها ملزمة للناس أن يخرجوا عما زاد عن حاجتهم ولو أدوا زكاة أموالهم فهذا زهد ودرجة من التقرب إلى الله، ولكن ليس للحاكم أن يجبر الناس على هذه الدرجة العالية من الزهد؛ فأمره عثمان بالانتقال إلى “الربذة”، وهي قرية صغيرة من قرى المدينة فرحل إليها وأقام بها بعيدًا عن الناس، زاهدًا بما في أيديهم مستمسكًا بما كان عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحباه من إيثار الباقية على الفانية.

وبكت زوجته وهو يموت فقال: لِمَ تبكين؟
قالت: تموت وليس عندي ثوب يسعك كفنًا،
فقال: سمعت رسول اللهـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول:

” ليموتن رجل منكم بفلاة تشهده عصابة من المؤمنين، فكلهم مات ولم يبقَ غيري، وقد أصبحت بالفلاة أموت فراشي الطريق، كان هذا في السنة الثانية والثلاثين للهجرة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال لأبي ذر ” تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك”.
 
2185.jpg

الإمام القرطبي


الإمام القرطبي



د. جمال بامي
مدير وحدة العلم والعمران بالمغرب

نتعرف في هذه الحلقة على مفسر وفقيه كبير عاش إبان ازدهار الحركة العلمية بالغرب الإسلامي خلال عصر الموحدين، وترك تفسيرا للقرآن يستحق أن يدرس ويستخلص منهجه وآفاقه.. يتعلق الأمر بالمفسر الكبير الإمام القرطبي…

هو أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصاري الأندلسي القرطبي المفسِّر، ولد أوائل القرن السابع الهجري بقرطبة، وأصبح من أشهر أعلامها على الإطلاق، وعندما يذكر القرطبي، تنصرف الأذهان مباشرة إليه.. نشأ الإمام القرطبي في أسرة فقيرة، يدل على هذا أنه كان في شبابه يقوم بأعمال متواضعة كنقل التراب إلى الفخّارين خارج مدينة قرطبة، وقد ذكر هذا في كتاب “التذكرة” فقال: “ولقد كنت في زمن الشباب- أنا وغيري- ننقل التراب على الدواب من مقبرة عندنا تسمى بمقبرة اليهود خارج قرطبة..” (التذكرة 1/37).

استشهد والد الإمام القرطبي في الغارة التي شنّها القشتاليون صبيحة الثالث من رمضان سنة 627هـ.. ويفيدنا القرطبي في “الجامع” (4/272) حول حادث استشهاد والده بمسائل فقهية بقوله: “وكان في جملة من قتل والدي رحمه الله، فسألت شيخنا المقرئ الأستاذ أبا جعفر أحمد المعروف بأبي حجة فقال: غسّله وصل عليه فإن أباك لم يقتل في المعترك بين الصَّفين. ثم سألت شيخنا أبا عامر بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع فقال: إن حكمه حكم القتلى في المعترك، ثم سألت قاضي الجماعة أبا الحسن علي بن قطرال، وحوله جماعة من الفقهاء فقالوا: غسِّلهُ وكفِّنهُ وصلِّ عليه، ففعلت، ثم بعد ذلك وقفت على المسألة في “التبصرة” لأبي الحسن اللّخمي وغيرها.. ولو كان ذلك قبل ذلك ما غسّلته، وكنت دفنته بدمه في ثيابه..” فأنظر أيها القارئ الكريم كيف تعامل القرطبي مع حادث عاطفي متعلق باستشهاد والده تعاملا علميا، فهو لم يركن إلى أقوال فقهاء عصره بل تعمق في البحث حتى اطمئن إلى غير ما كان قام به إزاء تجهيز والده الشهيد…

واستغل الإمام القرطبي وقوفه في تفسيره “الجامع” عند قوله تعالى: “وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يومنون بالاَخرة حجابا مستورا” [سورة الاِسراء، الآية: 45] ليروي قصة نجاته من الأسر بعد سقوط قرطبة في يد القشتاليين، يقول: “ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منتور من أعمال قرطبة مثل هذا، وذلك أني هربت أمام العدو وانزحت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن، فعبرا علي ثم رجعا من حيث جاءا وأحدهما يقول للآخر: هذا دْيَبْلُه –يعنون شيطانا- وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني والحمد لله حمدا كثيرا على ذلك” (الجامع (10/270). ويستنتج العلامة محمد بنشريفة في كتابه: “الإمام القرطبي المفسر سيرته من تآليفه (منشورات مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، الرابطة المحمدية للعلماء، 2010) من هذا الحادث الطريف أن الإمام القرطبي كان على إلمام ببعض مبادئ اللغة القشتالية التي لم تكن غريبة عنه تماما… ولا أرى هذا غريبا في حق عالم أبدى منذ حداثة سنه همة عالية في تحصيل العلم والتعمق في مسائله…

وقد قرأ القرطبي في بلده قرطبة على شيخين مشهورين: أولهما أبو جعفر أحمد بن أبي حجة، قال ابن عبد الملك المراكشي في “الذيل والتكملة” ( 5/585): “تلا بالسبع في بلده على أبي جعفر بن أبي حجة”، أما الشيخ الثاني فهو أبو عامر يحيى بن ربيع القرطبي، قال ابن عبد الملك المراكشي في “الذيل والتكملة” ( 5/585): “وروى عن أبي عامر بن ربيع وأكثر عنه”..

في قرطبة تعلم الإمام القرطبي مبادئ العربية وأسرارها إلى جانب تعلمه القرآن الكريم، وتلقى بها ثقافته الواسعة في الفقه والنحو والقراءات كما درس البلاغة وعلوم القرآن.. وبقي الإمام القرطبي بقرطبة حتى سقوطها، وخرج منها نحو عام 633 هـ- دون وجود إجماع على سنة خروجه من الأندلس-، فرحل إلى المشرق، واستقرّ به المقام بمنية ابن خصيب في شمالي أسيوط بمصر، فاتخذها داراً له ومقاماً..

قال ابن فرحون في “الديباج المذهب” عن الإمام القرطبي: “كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين، الزاهدين في الدنيا المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة”، ويدل على هذا الجانب الكبير من شخصية صاحبنا القرطبي تأليفه كتابي “قمع الحرص بالزهد والقناعة” و “التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة”… وهذا الكتاب الأخير من أشهر كتبه بعد تفسيره “الجامع”.. وذكر ابن عماد الحنبلي في “شذرات الذهب” عن القرطبي: أنه “كان إمامًا علمًا من الغوّاصين على معاني الحديث، حسن التصنيف، جيد النقل”..

وكانت للإمام القرطبي مواقف واضحة من الفساد السياسي والاجتماعي الذي ظهرت بعض ملامحه في عصره، ولم يحل تفانيه في التصنيف والتأليف بينه وبين إعلان موقفه السياسي بروح إصلاحية واضحة المعالم.. يقول في “التذكرة”: “هذا هو الزمان الذي استولى فيه الباطل على الحق، وتغلب فيه العبيد على الأحرار من الخلق فباعوا الأحكام، ورضي بذلك منهم الحكام، فصار الحكم مكسً، والحق عكسً، لا يوصل إليه، ولا يقدر عليه، بدلوا دين الله، وغيروا حكم الله، سمّاعون للكذب أكالون للسحت..”.

كان الإمام القرطبي ملتزما بالقواعد المنهجية في تعاطيه مع صناعة التأليف، وكان حريصا على إثبات الفضل لأهله.. وقد كتب في تفسيره “الجامع لأحكام القرآن” : “وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليه، والأحاديث إلى مصنفيه، فإنه يقال: من “بركة العلم أن يضاف إلى قائله”..

وقال في “التذكرة”: “وكنت بالأندلس قد قرأت أكثر كتب المقرئ الفاضل أبي عمرو عثمان بن سعيد المتوفى سنة أربع وأربعين وأربعمائة”.. كما كان قارئا نهما لكتب العلامة ابن عبد البر، والعلامة المالكي أبو بكر ابن العربي المعافري.. وقد نقل عنهما الكثير ولا سيما “التمهيد” للأول، و”الأحكام” للثاني.. من شيوخ القرطبي نذكر عبد الوهاب بن رواج الإسكندرانى المالكي المتوفى سنة 648هـ، وبهاء الدين ابن الجميزى الشافعي المتوفى سنة 649 هـ، وأبو عباس أحمد بن عمر المالكي القرطبي المتوفى سنة 656هـ صاحب “المفهم في شرح صحيح مسلم”، والحسن البكري النيسابورى الدمشقي المتوفى سنة 656هـ..

يقول العلامة محمد بنشريفة في كتابه: “الإمام القرطبي المفسر سيرته من تآليفه (منشورات مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، الرابطة المحمدية للعلماء، 2010): “لا نعرف تاريخ رحلة الإمام القرطبي إلى مصر كما أننا لا نعرف الطريق الذي سلكه في رحلته، وقد يكون رحل في رفقة شيخه أبي العباس أحمد بن عمر.. والمعروف أن هذا خرج من قرطبة مهاجرا، ومر بسبتة، وفاس، وتلمسان، وتونس، ثم نزل الإسكندرية واستقر بها إلى أن مات فيها سنة 656هـ.. والإمام القرطبي يروي كثيرا عن هذا الشيخ وينقل عن كتابه “المفهم في شرح صحيح مسلم” وذكره يتردد في “الجامع”، وفي “التذكرة”..

ونستفيد من إشارة الدكتور محمد بنشريفة في كتابه لنص ورد عند الصفدي في “الوافي بالوفيات” أن الإمام القرطبي “دخل مصر القديمة، ولقي الإمام القرافي شيخ علمائها يومئذ، ولعله استدعاه في وقت من أوقات الربيع إلى نزهة في أرض الفيوم كما جرت عادة أهل مصر”.. ويضيف الدكتور بنشريفة: “لا ندري سبب اختيار القرطبي المقام بمنية ابن خصيب في الصعيد، ولكننا نعرف أن عددا غير قليل من أهل الأندلس والمغرب استقروا اختيارا أو اضطرارا بمختلف مدن الصعيد.. ولعل اختيار القرطبي منية ابن خصيب لكونها تذكره بمُنية نصر التي ربما نشأ بمنطقتها، ومهما يكن السبب؛ فإن القرطبي كان زاهدا ميالا إلى التقشف مطرحا للتكلف”، ونقرأ في “النفح” للمقري أن الإمام القرطبي كان “يمشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقية”..
ورجل هذه حاله –يضيف محمد بنشريفة في كتابه- ربما تكون الأرياف أنسب له وأليق به، ويبدو أنه كان معجبا بالنّيل يطيب له ركوبه والتنزه فيه، والتدارس على ظهره قال في “التذكرة”: “أنبأنا الشيخ الفقيه الإمام، مفتي الأنام، أبو الحسن علي بن هبة الله الشافعي بمنية ابن خصيب على ظهر النيل بها…”.

ذكر المؤرخون للإمام القرطبى عدة مؤلفات غير كتاب “الجامع لأحكام القرآن”، ومـن هـذه المـؤلفـات: “التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة”؛ و”التذكار في أفضل الأذكار”؛ و “الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى”.. وقـد أشـار القرطبي في تفسيـره إلى مـؤلفـات له منهـا: “المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس”؛ و “اللمع اللؤلؤية في شرح العشرينات النبوية”. وإن المطلع على تفسير الإمام القرطبي “الجامع لأحكام القرآن” يجده قد استوعب فيه علوم من سبقه من المفسرين كمحمد بن جرير الطبري، صاحب “جامع البيان في تفسير القرآن”، المتوفى سنة 310هـ، وأبو الحسن على بن محمد المارودي المتوفى سنة 450هـ، وأبو جعفر النّحاس صاحب كتابي: “إعراب القرآن”، و”معاني القرآن” المتوفى سنة 338هـ، وقد نقل عنه القرطبي كثيراً، وابن عطية (تـ سنة 541هـ) صاحب “المحرر الوجيز في التفسير”، وقد أفاد القرطبي منه كثيراً في القراءات واللغة والنحو والبلاغة، وأبو بكر بن العربي صاحب كتاب “أحكام القرآن” (تـ سنة 543هـ)…

ويجمل العلامة بنشريفة في كتابه عن القرطبي البيئة العلمية التي نشأ بها الإمام القرطبي بالأندلس مستنبطا من خلال كتابيه “الجامع” و”التذكرة” “أن تكوينه العلمي المتين حصل في الأندلس، وهو في هذين الكتابين يحيل كثيرا على علمائها كأبي بكر ابن العربي، وأبي محمد ابن عطية، وأبي الخطاب ابن دِحية، وأبي الحسن بن بطال، وأبي بكر بن برَّجان، والقاضي عياض، وأبي الوليد الباجي، وعبد الحق الإشبيلي، وأبي بكر الطرطوشي، وأبي عبد الله المازري، وابن سيدة، والسُّهيلي..”.

وقد تأثر كثير من المفسرين الذين جاءوا بعد القرطبي بتفسيره، ومنهم الحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774هـ، وأبو حيان الأندلسي الغرناطي المتوفى سنة 754هـ، وذلك في تفسيره “البحر المحيط”، ومحمد بن على الشوكاني المتوفى سنة 1255هـ، وقد أفاد من القرطبي كثيراً في تفسيره “فتح القدير”.. ولا شك أن تفسير القرطبي يعتبر موسوعة عظيمة حوت كثيراً من العلوم، فهو من أجلّ التفاسير وأنفعها.. أسقط منه القرطبي القصص والتواريخ، وأثبت عوضها أحكام القرآن واستنباط الأدلة، وذكر القراءات والإعراب وعني بذكر أسباب النزول… وكتابه “الجامع لأحكام القرآن” من أوائل الكتب التي نهجت هذا النهج في استخراج الأحكام من القرآن..

قال القرطبي في مقدمة “الجامع لأحكام القرآن”: “فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع الذي استقلّ بالسنة والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض، رأيت أن أشتغل به مدى عمري وأستفرغ فيه قوتي، بأن أكتب فيه تعليقاً وجيزاً يتضمَّن نكتاً من التفسير واللغات والإعراب والقراءات والردّ على أهل الزيغ والضلالات. وأحاديثنا كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات، جامعاً بين معانيها، ومبيناً ما أشكل منهما، بأقاويل السلف ومن تبعهم من الخلف، وعملته تذكرة لنفسي، وذخيرة ليوم رمسي، وعملاً صالحاً بعد موتي”…

ومن مميزات تفسير الإمام القرطبي تضمنه لأحكام القرآن بتوسع، وتخريجه الأحاديث وعزوها إلى من رووها غالباً، وهذا عمل منهجي كبير… وجدير بالملاحظة أن القرطبي تجنب ما استطاع الإكثار من ذكر الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة إلا من بعض مواطن كان يمر عليها دون تعقيب، كما أنه كان إذا ذكر بعض الإسرائيليات؛ فإنه يستفرغ جهده في إظهار ضعفها، كما فعل في قصة هاروت وماروت، وقصة داود وسليمان وقصة الغرانيق.. وهي أمور تداولها المفسرون قبل وبعد القرطبي دون نقد أو تمحيص..

حدد القرطبي منهجه بأن يبين أسباب النزول، ويذكر القراءات، واللغات ووجوه الإعراب، وتخريج الأحاديث، وبيان غريب الألفاظ، وتحديد أقوال الفقهاء، ثم أكثر من الاستشهاد بأشعار العرب، ونقل عمن سبقه في التفسير، مع تعقيبه على من ينقل عنه، مثل ابن جرير، وابن عطية، وابن العربي، وأبي بكر الجصّاص.. لذلك يمكن اعتبار كتاب “الجامع” وثيقة ثمينة ضمت الفقه والأصول والأدب والرجال، وشاهدة على الروح العلمية السائدة في عصر القرطبي، وعلى المادة العلمية المتداولة، والعلائق بين العلماء، ومسارات انتقال العلم عبر التلمذة والإجازة والرحلة.. وكم يعتبر هذا المبحث رائقا ومفيدا، ذلك أنه شاهد موضوعي على الحياة الثقافية والفكرية وراصدا لتحولاتها قوة وضعفا…

ولم يكن الإمام القرطبي متعصبا لمذهبه الفقهي رغم مالكيته المعلنة، وكان يذكر مذاهب الأئمة ويناقشها، وينتصر لما يبدو له مستندا إلى الدليل.. وقد دفعه الإنصاف إلى الدفاع عن المذاهب والأقوال التي نال منها أبو بكر ابن العربي المالكي في تفسيره، مع العلم أن الإمام القرطبي من أكثر العلماء المتأثرين بابن العربي، لكن ذلك لم يمنعه من أن يمارس حرية كبيرة في النقد والتمحيص والمناقشة الهادئة بما أضاف لعلم التفسير فوائد عملية قطعت –بما سمحت لها الشروط الموضوعية- مع منهج في التفسير يعتمد أساسا على النقل والقصص وفي كثير من الأحيان على “الأساطير”…

وقد بيّن الإمام القرطبي شرطه ومنهجه في تفسيره بما يمكن إجماله في النقاط التالية: إضافة الأقوال إلى قائليها والأحاديث إلى مصنفيها؛ فإنه يقال: “من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله”؛ والإضراب عن كثير من قصص المفسرين وأخبار المؤرخين؛ وتبيين آيات الأحكام بمسائل تُسفر عن معناها وترشد الطالب إلى مقتضاها؛ وإن لم تتضمن الآية حكماً ذكر ما فيها من التفسير والتأويل؛ وذكر أسباب النزول، والقراءات، والإعراب، وبيان الغريب من الألفاظ، مع الاستشهاد بأشعار العرب (انظر “الجامع لأحكام القرآن”)..

والذي يقرأ تفسير القرطبي يجد أنه قد التزم بما شرطَه، فهو يعرِض لأسباب النزول، والغريب من الألفاظ، ويحتكم إلى اللغة كثيراً، ويناقش الفِرق الكلامية كالمعتزلة، والقدريّة، ويناقش الفلاسفة، كما كان ينقل عن كثير ممن تقدمه في التفسير، خصوصاً من ألّف منهم في كتب الأحكام كابن جرير الطبري، وابن عطية، وابن العربي، وأبو بكر الجصّاص….

ونموذج هذا المنهج نستشفه في تفسير القرطبي لسورة الحاقة… يقول القرطبي: قوله تعالى: “الحاقة، ما الحاقة” يريد القيامة، سميت بذلك لأن الأمور تحق فيها، قاله الطبري، كأنه جعلها من باب “ليل نائم”، وقيل: سميت حاقة لأنها تكون من غير شك، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها أحقت لأقوام الجنة، وأحقت لأقوام النار، وقيل: سميت بذلك لأن فيها يصير كل إنسان حقيقا بجزاء عمله… “وما أدراك ما الحاقة”.. قال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شيء في القرآن “وما اَدراك” فقد أدراه إياه وعلمه.. وكل شيء قال: “وما يدريك” فهو مما لم يعلمه..

ومن مميزات “الجامع” للإمام القرطبي مراعاة الدليل وعدم التعصب للمذهب، ذلك أنه عند ذكره لمسائل الخلاف بين العلماء لا يتعصب لمذهبه المالكي بل يمضي مع الدليل حتى يصل إلى ما يراه أنه الحق.. ومن أمثلة ذلك ما ذكره القرطبي في آيات الصيام عند قوله تعالى: “ولِتُكْمِلوا العِدَّةَ..” في المسألة السابعة عشرة في حكم صلاة عيد الفطر في اليوم الثاني، مع نقله عن ابن عبد البر أنه لا خلاف عند مالك وأصحابه أنه لا تصلى صلاة العيد في غير يوم العيد ولا في يوم العيد بعد الزوال، وحجتهم في ذلك أن صلاة العيد لو قضيت بعد خروج وقتها لأشبهت الفرائض، وقد أجمعوا في سائر السنن أنها لا تقضى، فهذه مثلها”. لكن صاحبنا يعلق بقوله: “قلت: والقول بالخروج إن شاء الله أصح، للسنة الثابتة في ذلك، ولا يمتنع أن يستثني الشارع من السنن ما شاء فيأمر بقضائه بعد خروج وقته، وقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لم يصلِّ ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس”..

ومن أمثلة ذلك أيضاً مسألة تقديم الحلق على الذبح في يوم النحر، فقد وضّح أن ظاهر المذهب المنع من تقديم الحلق على الذبح إن كان عامداً قاصداً، ثم قال: والصحيح الجواز، لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: “لا حرج”…

مما يتميّز به القرطبي كذلك في تفسيره التحقيق التام للمذهب المالكي حيث يذكر روايات الإمام مالك في المسألة، وقول أئمة المذهب، ومن وافق، ومن خالف، وذلك في كثير من المسائل، ومع ذلك قد يرجح بين هذه الأقوال.. ومثال ذلك “أنه لما ذكر قَدر السفر الذي يترخّص فيه المسافر بالرّخص في آية الصيام قال: “واختلف العلماء في قدر ذلك، فقال مالك: يوم وليلة، ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلاً، قال ابن خوَيزمَنْداد: وهو ظاهر مذهبه، وقال مرّة: اثنان وأربعون ميلا، وقال مرة ستة وثلاثون ميلاً، وقال مرة: مسيرة يومٍ وليلة، وروي عنه يومان، وهو قول الشافعي، وفصّل مرة بين البر والبحر، فقال في البحر مسيرة يوم وليلة، وفي البر ثمانية وأربعون ميلا، وفي المذهب ثلاثون ميلاً، وفي غير المذهب ثلاثة أميال”..

لا شك أننا إزاء عالم كانت مقاصده واضحة: التعمق في المذهب والانفتاح على المذاهب الأخرى وإنصافها، وتكثيف المفاهيم العملية في “جامعه” بدل القصص والأخبار والإسرائيليات، وجمع غريب الألفاظ، وتدوين كلام العرب، ورسمه لخريطة الحركة العلمية في عصره… كلها مباحث تغري بالتعمق وتعد باستثمار معرفي على عدة مستويات… كانت وفاة الإمام القرطبي رحمه الله بمنية الخصيب بصعيد مصر، ليلة الاثنين التاسع من شهر شوال سنة 671هـ..

والله الموفق للخير والمعين عليه.
 

عبد_الرحمن_بن_عوف_2.png

عبد الرحمن بن عوف..الغني الشاكر

أحد العشرة المبشريين بالجنة



الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف شخصية عظيمة من الشخصيات الإسلامية المعروفة في التاريخ الإسلامي، هو أحد العشرة المبشريين بالجنة ومن السابقين الأولين في الإسلام، اشتهر بأنه كان غنيا وماهرا في التجارة لكنه كان كريما ومتواضعا، حتى لُقّب بالغني الشاكر ، وكان شجاعا عفيفا و زاهدا لدرجة أنه رفض الخلافة مرتين.

هاجر عبد الرحمن بن عوف الهجرتين، وقد بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فهو بذلك أحد العشرة المبشرين بالجنه وقد شهد غزوة بدر و شارك في كل المعارك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، و آخى النبي محمد صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الخزرجي، و بعثه صلى الله عليه وسلم إلى دومة جندل ففتح الله عليه و تزوج بنت ملكهم وهي تماضر بنت الأصبغ الكلبي وجاء بها إلى المدينة وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن. وبعد موت عمر بن الخطاب كان عبد الرحمن أحد الرجال الذين عملوا مجلس للشورى ليختاروا من يتولى الخلافة بعد عمر بن الخطاب .

من هو عبد الرحمن بن عوف؟

هو عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر. كان اسمه الحقيقي عبد عمرو، وقيل عبد الحارث وعبد الكعبة، فغيره النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى عبد الرحمن.

أمه هي الشفاء بنت عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، وكان له اخ هو الأسود بن عوف، زوجاته هن: أم كلثوم بنت عتبة بن ربيعة، و أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، و تماضر بنت الأصبغ، و مجد بنت يزيد، و أم حريث، و أم حكيم بنت قارظ، و زينب بنت الصباح، و بادنة بنت غيلان، وسهلة بنت عاصم، و بنت أبي الخشخاش، وغزال بنت كسرى و بحرية بنت هانئ و أسماء بنت سلامة.

أما أبنائه فهم سالم الأكبر، سالم الأصغر، أم القاسم، محمد، إبراهيم ، إسماعيل ، أمة الرحمن الكبرى، عبد الله، أمة الرحمن الصغرى، حميد،حميدة، زيد، معن ،عمر ،عثمان، أم يحيى، جويرية، عروة الأكبر ، عروة الأصغر، يحيى، بلال، عبد الرحمن، سهيل، مصعب،أمية و مريم و أبو بكر .

ولد عبد الرحمن بن عوف بعد عام الفيل بعشر سنوات، سنة 43 قبل الهجرة وسنة 581 ميلاديا، وهو بذلك أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنوات .

كيف أسلم عبد الرحمن بن عو ف؟

كان عبد الرحمن بن عو ف رضي الله عنه من السابقين الأولين في الاسلام وقد أسلم على يد أبو بكر الصديق حيث كان أبو بكر محبوب في قومه وكان تاجرا ويعرفه رجال قومه فكان يدعو ابو بكر للاسلام من يثق بهم فأسلم على يده : الزبير بن العوام وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، وذهبوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم واعلنوا اسلامهم.

وكان عبد الرحمن يبلغ من العمر حين ذلك ثلاثون عاما، وكان اسلامه قبل أن يدخل النبى دار الأرقم بن أبي الأرقم، ثم أسلم معه أخوه الأسود بن عوف.

أخلاق وصفات عبد الرحمن بن عوف

1- عفته :
فعندما آخى النبي محمد صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع عرض عليه سعد بن الربيع ان يقاسمه ماله وزوجاته فقال له عبد الرحمن بارك الله لك في مالك وزوجك ولكن دلني على السوق وعمل بالتجارة وربح مالا كثيرا .

2- مهارته في التجارة : عندما عمل بالتجارة كان تاجرا ماهرا وربح كثيرا وفتح الله عليه وأصبح من أغنى الأغنياء .

3- شجاعته: كان عبد الرحمن بن عوف يتميز بالشجاعة والإقدام في المعارك ولا يفر ولا يهاب الأعداء وكان مقاتلا بارعا .

4- جوده : قال قتادة أن عبد الرحمن بن عوف تصدق بنص ماله أربعة آلاف دينار .

5- تواضعه وزهده : رغم ثرائه إلا أنه كان متواضعا وزاهدا فكان يمشي بين مماليكه فلا يعرف أنه بينهم من شدة تقشفه وتواضعه.

ماذا قال ﷺ عن عبد الرحمن بن عوف؟

1- عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله ﷺ : “أبو بكرٍ في الجنةِ، وعمرُ في الجنةِ، وعثمانُ في الجنةِ، وعليٌّ في الجنةِ، وطلحةُ في الجنةِ، والزبير في الجنةِ، وعبدُ الرحمن بن عوف في الجنةِ، وسعدُ بن أبي وقَّاص في الجنةِ، وأبو عبيدةَ بن الجراحِ في الجنة “.

2- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول لأزواجه : “إن الذي يحنو عليكم بعدي هو الصادقُ البارُّ، اللهمَّ اسقِ عبدَ الرحمن بن عوف من سلسبيل الجنة “.

3- عن أبي سعيد الخدري: “كان بين خالدِ بنِ الوليدِ وبين عبدِالرحمنِ بنِ عوف شيءٌ، فسبَّه خالدٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: “لا تسُبُّوا أحدًا من أصحابي، فإنَّ أحدَكم لو أنفق مثلَ أُحُدٍ ذهبًا، ما أدرك مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيفَه”.

4- عن عائشة بنت أبي بكر: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لا يحنو عليكن من بعدي إلا الصابرون، سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة”.

5- عن عبد الرحمن بن عوف قال:”قطع لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، أرضًا بالشّأم يقال لها السّليل فتوفّي النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، ولم يكتب لي بها كتابًا وإنّما قال لي: “إذا فَتَحَ الله علينا الشّأم فهيَ لَكَ”.

تركته من الذهب قُطّعت بالفؤوس بدأت بأقط وسمن

كان عبد الرحمن ــ رضي الله عنه ــ عصاميا، فقد بدأ بجمع ثروته من الصفر، بل إنه عرض عليه سعد بن الربيع الخزرجي ـ رضي الله عنه ــ أن يشاطره في نصف ماله مجاناً- وذلك حين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد – فرفض عبد الرحمن هذا العرض المجاني، وقال: “بارك الله لك في أهلك ومالك, دلني على السوق, فربح شيئا من أقط وسمن..” فابتدأ ثروته بأقط وسمن ثم حاز الملايين، فكان الاستثمار في السوق بالبيع والشراء هو الأسلوب الاستثماري لعبد الرحمن ــ رضي الله عنه ــ حتى أصبحت ثرواته على مرأى ومسمع من أهل المدينة.

و روى أحمد في مسنده من حديث أنس ــ رضي الله عنه ــ أن عبد الرحمن أثرى، وكثر ماله، حتى قدمت له مرة سبعمائة راحلة تحمل البر والدقيق) “. وقال “ترك ألف بعير، ومائة فرس، وثلاثة آلاف شاة ترعى بالبقيع..وكان نساؤه أربعا، فاقتسمن ثمنهن، فكان ثلاثمائة وعشرين ألفا، لكل واحدة منهن ثمانين ألفا.

وقد بلغت ثقته باحترافه في مجال التجارة، أنه قال: لقد رأيتني ولو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب ذهبا أو فضة..! قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكان عامة ماله من التجارة.

كان الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف نموذجا فريدا في الشكر مع الغني، لذا لقب بـ “الغني الشاكر”. و يقال أنه عندما توفي ترك ذهبا قُطع بالفؤوس حتى تورمت أيدي الرجال منه.

وروى عنه حفيده أنه أتي بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني وكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطي رجلاه بدا رأسه. وقال: وقتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجّلت لنا ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.

وحكى عنه بعض جلساؤه فقال : “كان عبد الرحمن لنا جليسا وكان نعم الجليس وأنه انقلب بنا يوما حتى دخلنا بيته ودخل فاغتسل ثم خرج فجلس معنا وأتينا بصحفة فيها خبز ولحم فلما وضعت بكى عبد الرحمن بن عوف.

فقلنا له يا أبا محمد ما يبكيك فقال مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير ولا أرانا أخرنا لها لما هو خير لنا، ومن تواضعه أنه كان لا يعرف من بين عبيده”.

وبينما عائشة رضي الله عنها في بيتها إذ سمعت صوتا رجّت منه المدينة فقالت ما هذا؟ قالوا: عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف من الشام وكانت سبعمائة راحلة. فقالت عائشة: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا فبلغ ذلك عبد الرحمن فأتاها فسألها عما بلغه فحدثته، قال فإني أشهدك أنها بأحمالها في سبيل الله عز وجل.

وباع عبد الرحمن -رضي الله عنه- أرضا له من عثمان بأربعين ألف دينار فقسم ذلك المال في بني زهرة وفقراء المسلمين وأمهات المؤمنين. وبعث إلى عائشة بمال من ذلك المال فقالت عائشة: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لن يحنو عليكن بعدي إلا الصالحون” سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة.

وتصدق عبد الرحمن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله أربعة آلاف ثم تصدق بأربعين ألفا ثم تصدق بأربعين ألف دينار ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله تعالى ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله تعالى وكان عامة ماله من التجارة.

كم بلغت ثروة عبد الرحمن بن عوفب وبماذا تصدّق؟

سعى كثيرون إلى تقدير ثروة عبد الرحمن بن عوف ــ رضي الله عنه ــ فقالوا إنها في حدود “ثلاثة ملايين ومائتي ألف دينار”، وهو ما يساوي اثنين وثلاثين مليون درهم فضة، لأن الدينار الذهبي يساوي عشرة دراهم. يقول الحافظ ابن حجر في الفتح “جميع تركة عبد الرحمن بن عوف ثلاثة آلاف ألف ومائتي ألف (أي ثلاثة ملايين ومائتا ألف)، وهذا بالنسبة لتركه الزبير بن العوام قليل جدا، فيحتمل أن تكون هذه دنانير، وتلك دراهم، لأن كثرة مال عبد الرحمن مشهورة جدا”.
وقد فتح الله على عبد الرحمن بن عوف في التجارة، كما فتح الله عليه في الصدقة ومن أوجه الصدقة التي بذلها:

وبينما عائشة رضي الله عنها في بيتها إذ سمعت صوتا رجّت منه المدينة فقالت ما هذا؟ قالوا: عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف من الشام وكانت سبعمائة راحلة. فقالت عائشة: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا فبلغ ذلك عبد الرحمن فأتاها فسألها عما بلغه فحدثته، قال فإني أشهدك أنها بأحمالها في سبيل الله عز وجل.

1- باع أرضا له من عثمان بأربعين ألف دينار فتصدق بها وقسم ذلك المال في بني زهرة وفقراء المسلمين وأمهات المؤمنين. وبعث إلى عائشة بمال من ذلك المال فقالت عائشة: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لن يحنو عليكن بعدي إلا الصالحون” سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة.

2- تصدق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله أربعة آلاف دينار ثم تصدق بأربعين ألف دينار ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله تعالى ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله تعالى.

3- أوصى لمن شهد بدرا بأن يعطى كل واحد منهم أربعمائة دينار، فوجدوا مائة رجل بدري، أي أوصى لهم بأربعين ألف دينار.

4- أوصى بألف فرس في سبيل الله.

5- أوصى لأمهات المؤمنين بحديقة فقومت بمائة ألف.

لقد اندهش الكثير من الناس ن سر نجاح تجارة عبد الرحمن بن عوف، وفي قصة نجاح هذا الصحابي الجليل عبرة يجب على كل شاب مسلم أن يقتدى بها وأن يتخذ الصحابي عبد الرحمن بن عوف مثلا أعلى له في النجاح المالي والكسب الحلال والمشروع بدون غش أو اختلاس.

عبد الرحمن بن عوف في عهد الخلفاء الراشدين

كان لعبد الرحمن بن عوف منزلة كبيرة في عهد الخلفاء الراشدين خاصة في عهد عمر، فكان عمر بن الخطاب يستشيره، فلمَّا حدث طاعون عمواس سنة 18 هـ، ثم انتشر في بلاد الشام.

كان عمر بن الخطاب يريد أن يذهب للشام وقتها، فلما كان بسرغ بلغه أن الوباء قد وقع بالشام، فنصحه عبد الرحمن بن عوف بالحديث النبوي: “إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم فيه فلا تخرجوا فرارًا منه”، فعاد عمر وصحبه إلى المدينة المنورة.

ولمَّا فُتِحَت بلاد فارس سنة 22 هـ، اختلف الصحابة في أخذ الجزية من المجوس، فجاء عبد الرحمن بن عوف وأخبر عمر أن النبي أخذ الجزية من مجوس هجر، فأخذ عمر بشهادة عبد الرحمن، فبعث عمر بن الخطاب كاتبا لجزء بن معاوية: “أن انظر مجوس من قبلك فخذ منهم الجزية، فإن عبد الرحمن بن عوف أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر.”

وفي سنة 23 هـ، استُخْلِفَه عمرُ بن الخطّاب على الحجّ في تلك السنة، فحَجّ عبد الرحمن بالنّاس، وحَجّ مع عمر أيضًا، وهي آخرَ حجّةٍ حَجّها عمرُ سنة ثلاث وعشرين، وأذِنَ عمر تلك السنة لأزواج النّبيّ في الحجّ، فَحُمِلْنَ في الهوادج، وبَعَثَ معهنّ عثمان بن عفّان وعبد الرّحمن بن عوف.

ولمَّا طُعِن عمر بن الخطاب ودنت وفاته، أوصى بأن يكون الأمر شورى بعده في ستة ممن توفي النبي محمد وهو عنهم راضٍ وهم: عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، طلحة بن عبيد الله، الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.

رفض الخلافة مرتين

في عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان، كان عبد الرحمن بن عوف يحظى بمنزلة مشابهة لمنزلته في عهد عمر، ففي عام 24 هـ، استُخلِفَه عثمان على الحجّ في تلك السنة، فحجّ عبد الرحمن بالنّاس، وكان عبد الرحمن زاهدًا في الإمارة، فقد أرسل سعد بن ابي وقاص إلى عبد الرحمن رجلًا وهو قائم يخطب: “أن ارفع رأسك إلى أمر الناس (أي: ادع إلى نفسك)”، فقال عبد الرحمن: “ثكلتك أمك، إنه لن يلي هذا الأمر أحد بعد عمر إلا لامه الناس”. وكان عثمان يريد أن يُوصي له بالخلافة من بعده، فلمَّا اشتكى عثمان رعافًا، دعا كاتبه حمران فقال: “اكتب لعبد الرحمن العهد من بعدي”، فكتب له، وانطلق حمران إلى عبد الرحمن فقال: “البشرى!”، قال: “وما ذاك؟” قال: “إن عثمان قد كتب لك العهد من بعده”، فقام عبد الرحمن يدعو بين القبر والمنبر فقال: «”اللهم إن كان من تولية عثمان إياي هذا الأمر، فأمتني قبله”، فلم يمكث إلا ستة أشهر حتى مات.

ورغم أن قيادة الأمة الإسلامية مهمة جليلة خاصة أن من تولاها في صدر الإسلام كانوا أكابر الصحابة، الذين سطَروا أروع سطور التاريخ الإسلامي وكتبوا أنصع صفحاته، لكن ابن عوف آثر أن يكون ضمن المعاونين للخلفاء وليس هو واحدا منهم، رغم الفرصة التي أتته سانحة حينما اختاره الفاروق عمر بن الخطاب ليكون واحدا ضمن المرشحين السِّتة لتولي أمر الخلافة من بعده، لكنه بادر في خلع نفسه من الترشُّح، واختار أن يسهم في الاختيار دون أن يكون هو مرشّحا.

وبذل ابن عوف جهدا في استطلاع رغبة المرشَّحين الآخرين وأهل المدينة بعدهم، فوجد كفَّة عثمان بن عفان رضي الله عنه رجحت، فبايعه على الخلافة، وكان سندا له، وفي آخر خلافته وجد عثمان نفسه متعبا فأرسل إلى ابن عوف ليعرض عليه أمر الخلافة من بعده، وذهب بالفعل له ليبشِّره بالأمر، لكن من ترك طلب الخلافة مرةً لم يكن ليطلبها مرةً أخرى، فوقف عبدالرحمن بن عوف في روضة النبي محمد ودعا ألَّا مرة أخرى.

وفاته

توفي عبد الرحمن بن عوف سنة 32 هـ في خلافة عثمان بن عفان، وقيل سنة 31 هـ والأول أشهر، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وَقيل أنه عاش ثمانيا وسبعين، وَقيل خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وكان قد أَوصى لمن بقي من أهل غزوة بدر الكبرى لكل رجل أَربعمائة دينار، وكانوا مائة، فأَخذوها، وأَخذها عثمان فيمن أَخذ: وأَوصى بأَلف فرس في سبيل الله. ودُفِن في البَقِيع، وصلَّى عليه عثمان بن عفان، ويقال الزبير بن العوام، وكان علي بن ابي طالب كرم الله وجهه يقول في جنازته: “أَذْهَبُ عَنْكَ ابْنَ عَوْفٍ، فَقَدْ أَدْرَكْتَ صَفْوَهَا وَسَبَقْتَ رَنْقَهَا.”،

وكان سعد بن أبي وقاص فيمن حمل جنازته فكان ممسكًا بقائمتي السرير وهو تحته يقول: “واجبلاه” ورُوِى أنه أُغمي عليه قبل وفاته.
 
مصعب_بن_عمير.png

مصعب بن عمير .. السفير الأول وبطل الهجرة


كان مصعب بن عمير أوّل من هاجر إلى المدينة، وأول سفير في الإسلام. اشتهر قبل الإسلام بجماله وارتدائه أفضل الملابس وأغلاها وتعطُّره بأجمل العطور، فعُرِف بـ”أعطر أهل مكة”، وكان من زينة شباب قريش، صارت قصته في الإسلام درسا من دروس السماء لبني البشر، ليتعلموا حياة الرجال مع مبادئهم، واستعلائهم على الدنيا بما فيها من متاع مبهر.

الصحابي الجليل مصعب بن عمير، ذكرته كثير من السِّيَر أنه كان أول سفير ومبعوث خاص لقائد الأمة ونبيها محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكان قبل إسلامه يتنعم بثروة ومال وفير، ويلبس الحرير، ويضع أطيب العطور، وكان المدلل عند والدَيْه، وسيم الخِلقة، كريم الأخلاق، لكنه ترك كل نعيم، وجاء بقلب مفتوح ونفس صادقة، ليدخل الإسلام، ويكون من أوائل المسلمين، ومن المحافظين لكتاب الله وناشري الرسالة العظيمة.

من هو مصعب بن عمير؟

هو مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة القرشي، كنيته أبو عبد الله، وُلد في الجاهلية، كان شابًّا جميلاً عطراً، حسن الكسوة، وكان أبواه ينعمانه.

أسلم ورسول الله – صلى الله عليه وسلم- في دار الأرقم، وكتم إسلامه، خوفاً من أمّه، وكان يختلف إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- سرًّا، فبصر به عثمان بن طلحة العبدري، فأعلم أهله، فأخذوه وحبسوه، فلم يزل محبوساً إلى أن هاجر إلى الحبشة، رجع مع من هاجر إلى مكة ثانية، والتقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

كان مصعب بن عمير أوّل من هاجر إلى المدينة، وذلك أنَّ الأنصار كتبوا إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – أن ابعث لنا رجلاً يفقهنا في الدين ويقرئنا القرآن، فبعثه -صلى الله عليه وسلم- إليهم. حينما قدم المدينة نزل على أسعد بن زرارة، وكان يأتي الأنصار في دُورهم أو قبائلهم فيدعوهم إلى الإسلام.

أسلم على يده أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وبعث إليه عمرو بن الجموح بعد أن قدم المدينة ليسأله عن أمر الدين الجديد، فأجابه مصعب، وأسمعه صدر سورة يوسف، فأسلم على يده. خرج من المدينة مع السبعين الذين وافوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العقبة الثانية، وأقام مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة بقية ذي الحجّة ومحرّم وصفر. شهد بدراً وأحداً مع رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-، وكان لواء الرسول -صلى الله عليه وسلم- معه.

ماذا قالو عنه؟

قال رسول اللّه – صلى الله عليه وسلم- : “ما رأيت بمكة أحسن لمة، ولا أنعم نعمة، من مصعب بن عمير”.

وقال سعد بن ابي وقاص : “كان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة، وأجوده حلة مع أبويه، ثُمَّ لقد رأيته جهد في الإسلام جهداً شديداً، حتّى لقد رأيت جلده يسقط كما يسقط جلد الحية”.

وقال عنه البراء بن عازب: “أول المهاجرين مصعب بن عمير”.

وقال عنه أبو هريرة رضي الله عنه: “رجل لم أَرَ مثله كأنه من رجال الجنة”.

و يقول خبّاب بن الأرت “هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل اله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد ، فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة.. فكنا إذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الأذخر” .

ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند مصعب بن عمير وقال : “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه”، ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي كفن بها وقال “لقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمّة منك. ثم هاأنتذا شعث الرأس في بردة” .

معلّم القرآن وحامل لواء المسلمين

قال ابن إسحاق: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه مع النفر الاثني عشر الذين بايعوه في العقبة الأولى يُفَقِّهُ أهلَها ويُقرئهم القرآن، فكان منزله على أسعد بن زرارة، وكان إنما يسمَّى بالمدينة المقرئ، يُقال: إنه أوَّل مَن جمع الجمعة بالمدينة، وأسلم على يده أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وهما سيِّدا قومهما، وكفى بذلك فخرًا وأثرًا في الإسلام اهـ.

وروى البخاري في صحيحه من حديث البراء رضي الله عنه، قال: أوَّل مَن قدم علينا مصعبُ بن عمير، وابن أم مكتوم، وكانا يُقرئان الناس، فقدم بلال، وسعد، وعمارُ بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فما رأيتُ أهلَ المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جعَل الإماءُ يقُلن: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما قدم حتى قرأت “سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى” (الأعلى- 1) .

مصعب بن عمير من أعلام هذه الأمَّة، وبطل مِن أبطالها، صحابيٍّ جليل مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كان من السابقين إلى الإسلام ممن شهد بدرًا وأُحُدًا، وكان حامل اللواء فيها، وممن هاجر الهجرتين الأولى إلى الحبشة، والثانية إلى المدينة، أسلَمَ على يديه العشرات، وكان أوَّلَ سفير في الإسلام، ويقال: إنه أوَّلُ مَن صلَّى الجمعة في المدينة.

قصته مع الإسلام ومع والدته

صارت قصة مصعب في الإسلام درسٌ من دروس السماء الغالية لبني البشر، ليتعلموا حياة الرجال مع مبادئهم، واستعلائهم على الدنيا بما فيها من متاع مبهر أخاذ، بل والأكثر من هذا، أن يتقدم الولاء للعقائد قبل وفوق كل علائق وقرابات الدنيا!

اشتهر مصعب بن عمير قبل الإسلام بجماله وارتدائه أفضل الملابس وأغلاها وتعطُّره بأجمل العطور، كما عُرِف بـ”أعطر أهل مكة”، وكان من زينة شباب قريش.

كان مصعب بن عمير فتَى مكةَ المدلَّل، وكانت أمُّه مِن أغنى أهل مكة، تكسوه أحسَن الثياب، وأجمل اللباس، وكان أعطرَ أهلِ مكة، فلما أسلم انخلعَ مِن ذلك كله، وأصابه مِن التعذيب والبلاء ما غيَّر لونه، وأنهك جسمه، روى البخاري في صحيحه مِن حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّد بُردة له في ظلِّ الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: “كان الرجُل فيمَن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيه، فيجاءُ بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصُدُّه ذلك عن دِينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه مِن عظم أو عصب، وما يصُدُّه ذلك عن دِينه، واللهِ ليتمنَّ هذا الأمْر حتى يسير الراكب مِن صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون”.

كانت أمه خنّاس بنت مالك تتمتع بقوة فذة في شخصيتها فخشيها مصعب، وقرر أن يكتم إسلامه حتى يقضي الله أمرا، حتى علمت أمه وحبسته وأرادت أن ترده عن دينه ولكنها واجهت إصرار أكبر على الإيمان من جانب الابن . فقررت أن تخرجه من بيتها وتحرمه من الأموال .وقالت له وهي تخرجه من بيتها :”اذهب لشأنك, لم أعد لك أمّا”. قال “يا أمّاه أني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا اله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله”، فأجابته غاضبة مهتاجة “قسما بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف عقلي”.

ويقال إن زوجة مصعب بن عمير هي حمنة بنت جحش الأسدية، وتنتمي إلى بني أسد بن خزيمة، من الصحابيات وراويات الحديث، أمها هي أميمة بنت عبدالمطلب عمة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأختها أم المؤمنين زينب بنت جحش.

جلدت حمنة في حادثة الإفك مع حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة عندما تحدثت عن أم المؤمنين عائشة، وتزوجت من مصعب وأنجبت منه فتاة، وبعد استشهاده تزوجت من طلحة بن عبيد الله، وأنجبت له محمد السجّاد، وعمران.

أول سفير في الإسلام

“سفير الإسلام” لقب حظي به الصحابي الجليل مصعب بن عمير، أحد السابقين إلى الإسلام والمثابرين لنشره بين الناس، وأُطلق عليه أيضاً لقب “المقرِئ”، لتعليمه سكان المدينة المنورة قراءة القرآن الكريم.

اختاره الرسول أن يكون سفيره إلى المدينة، يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة، ويدخل غيرهم في دين الله، ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم ، وقد أختاره الرسول لرجاحة عقله وكريم خلقه وزهده وبها كان أول سفير للإسلام ، وقد جاءها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما ، وفي موسم الحج التالي لبيعة العقبة, كان مسلمو المدينة يرسلون إلى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم وينوب عنهم ، وكان عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة، جاءوا تحت قيادة مصعب ابن عمير.

وقد أسلم على يديه أسيد بن خضير سيد بني عبد الأشهل بالمدينة، فجاء شاهرا حربته و يتوهج غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم فلما أقنعه أن يجلس ويستمع، فأصغى لمصعب واقتنع وأسلم، وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع، وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة، وأسلم كثيرا من أهل المدينة، فقد نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم نجاحا منقطع النظير .

غزوة أحد واستشهاد مصعب

بعد هجرة النبي صلى الله عليه وصحبه الى المدينة وحدثت غزوة بدر ، تلتها غزوة أحد الذي أمر فيها الرسول مصعب ليحمل الراية، وتشب المعركة الرهيبة، ويحتدم القتال، ويخالف الرماة أمر الرسول ، فقد حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد, فلما جال المسلمون ثبت به مصعب، فأقبل ابن قميئة وهو فارس, فضربه على يده اليمنى فقطعها, ومصعب يقول: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل, وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه إلى صدره وهو يقول: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح، ووقع مصعب، وسقط اللواء .

استشهد مصعب في العام الـ3 من الهجرة بعمر 40 عاماً، قتله ابن قثمة الليثي، وبعد انتهاء غزوة أحد جاء الرسول وأصحابه يتفقّدون أرض المعركة ويودّعون شهداءها، وعند جثمان مصعب سالت دموع وفية غزيرة، وفقًا لما ذكرت المصادر التاريخية وكتب الأثر.
 

معاذ_بن_جبل.png

معاذ بن جبل

جبل راسخ في الفقه و الإفتاء والقرآن والعلم والأخلاق صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم

إمامُ العلماء

هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس، يكنى أبا عبد الرحمن، وأسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، وشهد العقبة الثانية مع السبعين غزو بدر والمشاهد كلها مع رسول الله، وأردفه رسول الله وراءه، وبعثه إلى اليمن بعد غزوة تبوك وشيعه ماشيًا في مخرجه وهو راكب، وكان له من الولد عبد الرحمن وأم عبد الله وولد آخر لم يذكر اسمه.

صفاته رضي الله عنه

كان شابا ,فتياً , يافعاً ,وسيماً من شباب الأنصار كان أحسنهم اخلاقاً وأسمحهم كفاً

عن أبي بحرية يزيد بن قطيب السكونى قال: دخلت مسجد حمص فإذا أنا بفتى حوله الناس، جعد قطط، فإذا تكلم كأنما يخرج من فيه نور و لؤلؤ فقلت من هذا ؟ قالوا معاذ بن جبل.

وعن أبي مسلم الخولاني قال: أتيت مسجد دمشق فإذا حلقة فيها كهول من أصحاب محمد وإذا شاب فيهم أكحل العين براق الثنايا كلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى قال: قلت لجليس لي من هذا؟ قالوا هذا معاذ بن جبل ، وعن الواقدي عن أشياخ له قالوا: كان معاذ رجلا حسن الشعر عظيم العينين مجموع الحاجبين جعدا قططا.

ثناء رسول الله على معاذ

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله: [أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل] رواه الإمام أحمد.

وعن عاصم بن حميد عن معاذ بن جبل قال: لما بعثه رسول الله إلى اليمن خرج معه رسول الله يوصيه ويدعو له ( حفظك الله من بين يديك ومن خلفك , وعن يمينك وعن شمالك , ومن فوقك ومن تحتك , ودرأ عنك الإنس والجن )) ومعاذ راكب ورسول الله يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال ( يا معاذ، إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك تمر بمسجدي هذا ....أو قبري)) فبكى معاذ متأثراً بفراق رسول الله، ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال: ((إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا)).

ثناءالصحابة عليه

عن الشعبي قال: حدثني فروة بن نوفل الأشجعي قال: قال ابن مسعود : إن معاذ بن جبل كان أمةً قانتًا لله حنيفًا، فقيل إن إبراهيم كان أمةً قانتًا لله حنيفًا، فقال ما نسيت هل تدري ما الأمة؟ وما القانت فقلت: الله أعلم، فقال: الأمة الذي يعلم الخير، والقانت المطيع لله عز وجل وللرسول، وكان معاذ بن جبل يعلم الناس الخير وكان مطيعًا لله عز وجل ورسوله، وعن شهر بن حوشب قال: كان أصحاب محمد إذا تحدثوا وفيهم معاذ نظروا إليه هيبة له.

مقتطفات من حياته

نبذة من زهده

عن مالك الداري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة فقال للغلام اذهب بها إلى عبيدة بن الجراح ثم تَلَهَّ ساعةً في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب الغلام قال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك، قال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل وتَلَهَّ في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه، قال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، تعالي يا جارية اذهبي إلى بيت فلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأته فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحا (فدفع) بهما إليها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره بذلك فقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض.

نبذة من ورعه

عن يحيى بن سعيد قال: كانت تحت معاذ بن جبل امرأتان فإذا كان عند إحداهما لم يشرب في بيت الأخرى الماء. وعن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان فإذا كان يوم إحداهما لم يتوضأ في بيت الأخرى ثم توفيتا في السقم الذي بالشام والناس في شغل فدفنتا في حفرة فأسهم بينهما أيتهما تقدم في القبر.

نبذة من تعبده واجتهاده

عن ثور بن يزيد قال: كان معاذ بن جبل إذا تهجد من الليل قال: اللهم قد نامت العيون وغارت النجوم وأنت حي قيوم: اللهم طلبي للجنة بطيء، وهربي من النار ضعيف، اللهم اجعل لي عندك هدى ترده إلي يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد

جوده وكرمه

عن ابن كعب بن مالك قال: كان معاذ بن جبل شابًّا جميلا سمحًا من خير شباب قومه لا يسأل شيئا إلا أعطاه حتى أدان دينا أغلق ماله فكلم رسول الله أن يكلم غرماءه أن يضعوا له شيئا ففعل فلم يضعوا له شيئا، فدعاه النبي فلم يبرح حتى باع ماله فقسمه بين غرمائه فقام معاذ لا مال له قال الشيخ رحمه الله: كان غرماؤه من اليهود فلهذا لم يضعوا له شيئًا.

نبذة من مواعظه وكلامه

عن أبي إدريس الخولاني أن معاذ بن جبل قال إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والصغير والكبير والأحمر والأسود فيوشك قائل أن يقول ما لي أقرأ على الناس القرآن فلا يتبعوني عليه فما أظنهم يتبعوني عليه حتى أبتدع لهم غيره إياكم وإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان يقول علي في الحكيم كلمة الضلالة، وقد يقول المنافق كلمة الحق فاقبلوا الحق فإن على الحق نورًا، قالوا: وما يدرينا رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة؟ قال هي كلمة تنكرونها منه وتقولون ما هذه فلا يثنكم فإنه يوشك أن يفيء ويراجع بعض ما تعرفون. وعن عبد الله بن سلمة قال: قال رجل لمعاذ بن جبل: علمني، قال وهل أنت مطيعي قال: إني على طاعتك لحريص قال: صم وأفطر، وصل ونم، واكتسب ولا تأثم، ولا تموتن إلا وأنت مسلم، وإياك ودعوة المظلوم.

وعن معاوية بن قرة قال: قال معاذ بن جبل لابنه: يا بني، إذا صليت فصل صلاة مودع لا تظن أنك تعود إليها أبدًا واعلم يا بني أن المؤمن يموت بين حسنتين: حسنة قدمها وحسنة أخرها. وعن أبي إدريس الخولاني قال: قال معاذ: إنك تجالس قومًا لا محالة يخوضون في الحديث، فإذا رأيتهم غفلوا فارغب إلى ربك عند ذلك رغبات ، رواهما الامام أحمد.

وعن محمد بن سيرين قال: أتى رجل معاذ بن جبل ومعه أصحابه يسلمون عليه ويودعونه فقال: إني موصيك بأمرين إن حفظتهما حُفِظْتَ إنه لا غنى بك عن نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر، فآثر من الآخرة على نصيبك من الدنيا حتى ينتظمه لك انتظاما فتزول به معك أينما زلت.

وعن الأسود بن هلال قال: كنا نمشي مع معاذ فقال: اجلسوا بنا نؤمن ساعة. وعن أشعث بن سليم قال: سمعت رجاء بن حيوة عن معاذ بن جبل قال: ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم، وستبتلون بفتنة السراء، وأخوف ما أخاف عليكم فتنة النساء إذا تسورن الذهب ولبسن رياط الشام وعصب اليمن فأتعبن الغني وكلفن الفقير ما لا يجد

مرضه ووفاته

عن طارق بن عبد الرحمن قال: وقع الطاعون بالشام فاستغرقها فقال الناس ما هذا إلا الطوفان إلا أنه ليس بماء، فبلغ معاذ بن جبل فقام خطيباً فقال: إنه قد بلغني ما تقولون وإنما هذه رحمة ربكم ودعوة نبيكم، وكموت الصالحين قبلكم، ولكن خافوا ما هو أشد من ذلك أن يغدو الرجل منكم من منزله لا يدري أمؤمن هو أو منافق، وخافوا إمارة الصبيان. وعن عبد الله بن رافع قال لما أصيب أبو عبيدة في طاعون عمواس استخلف على الناس معاذ بن جبل واشتد الوجع فقال الناس لمعاذ ادع الله أن يرفع عنا هذا الرجز فقال إنه ليس برجز ولكنه دعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم وشهادة يختص الله بها من يشاء من عباده منكم، أيها الناس أربع خلال من استطاع منكم أن لا يدركه شيء منها فلا يدركه شيء منها، قالوا وما هن قال يأتي زمان يظهر فيه الباطل ويصبح الرجل على دين ويمسي على آخر، ويقول الرجل والله لا أدري علام أنا؟ لا يعيش على بصيرة ولا يموت على بصيرة، ويعطى الرجل من المال مال الله على أن يتكلم بكلام الزور الذي يسخط الله، اللهم آت آل معاذ نصيبهم الأوفى من هذه الرحمة، فطعن ابناه فقال: كيف تجدانكما؟ قالا: يا أبانا {الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} قال: وأنا ستجداني إن شاء الله من الصابرين، ثم طعنت امرأتاه فهلكتا وطعن هو في إبهامه فجعل يمسها بفيه ويقول: اللهم إنها صغيرة فبارك فيها فإنك تبارك في الصغيرة حتى هلك. واتفق أهل التاريخ أن معاذًا رضي الله عنه مات في طاعون عمواس بناحية الأردن من الشام سنة ثماني عشرة، واختلفوا في عمره على قولين: أحدهما: ثمان وثلاثون سنة، والثاني: ثلاث وثلاثون سنة.
 
عودة
أعلى