متجدد سلسلة رمضانية : علماء ودعاة

طلحة_بن_عبيد_الله.png


طلحة بن عبيد الله .. طلحة الخير أحد العشرة المبشرين بالجنة


طلحة بن عبيد الله ، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وواحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين نزلت فيهم آيات من القرآن الكريم، ويكفيه وصف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) له بقوله “من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على رجليه فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله” كما سماه النبي يوم أحد “طلحة الخير” وفي غزوة ذي العشيرة “طلحة الفياض” ويوم خيبر “طلحة الجود”.

طلحة بن عبيد الله ليس فقط أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة بل هو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر رضي الله عنه، وأحد الستة أهل الشورى الذين تُوُفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم، وأحد الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجبل فتحرَّك بهم.

كان طلحة بن عبيد الله من سادة ووجهاء قريش، وكان تاجرا وثريا، ويطلق عليه أسد قريش لقوته. نزل في طلحة بن عبد الله قول الله تعالى: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً* لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً)، سورة الأحزاب : الآيات 23 – 24)، تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، ثم أشار إلى طلحة في غزوة أحد قائلاً: “من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض، وقد قضى نحبه، فلينظر إلى طلحة”.

من هو طلحة بن عبيد الله؟

هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي، ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب ومع أبي بكر الصديق في تيم بن مرة وعدد ما بينهم من الآباء سواء، ويعرف بطلحة الخير، وطلحة الفياض، وقال عنه صلى الله عليه وسلم: «طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ.

أمه – رضي الله عنه – هي الصَّعْبَةُ ابْنَةُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ، امرأة من أهل اليمن وهي أخت العلاء بن الحضرمي، أسلمت ولها صحبة وظفرت بشرف الهجرة.

وُلِد طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في مكة، قبل البعثة بخمسة عشر عامًا، في بيئة قرشيَّة، وعمل كمعظم أهل قريش بالتجارة، حيث كان يذهب إلى الشام لشراء البضائع من هناك، ليتَّجر فيها عند عودته لمكة، التي تعتبر مقصدًا للعرب قبل الإسلام لوجود الكعبة فيها.

كيف أسلم طلحة بن عبيد الله؟


كان طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- في تجارة إلى بصرى، فلمّا وصل إلى سوق بصرى سمع راهباً في صومعته يُبشّر بقدوم نبيّ من أرض مكّة، فسأل طلحة هل جاء أحمد؟، وعاد مُسرعاً إلى مكة ليرى صدق كلام الرّاهب، فسمع فور وصوله بالخبر الذّي كان يشغل أهل مكّة، وهو نزول النّبوّة على محمّد -صلّى الله عليه وسلّم-. فذهب إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- مع أبي بكر الصدّيق، وأخبره بخبر الرّاهب وأعلن إسلامه، فكان من السّابقين للإسلام.

وقد لاقى طلحة بن عبيد الله ما لاقاه المسلمون في بداية الدّعوة من الأذى، فقد كان أخوه عثمان وقيل نوفل بن خويلد يربطه مع أبي بكر في حبل واحد، ليمنعانهما من أداء الصّلاة، فكان طلحة قريناً لأبي بكر.

وفي قصة إسلام طلحة دليل من دلائل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، وشاهد على معرفة اليهود بعلاماته وأماراته صلى الله عليه وسلم، فمن المعلوم أن اليهود أقاموا بالجزيرة العربية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يفخرون على جيرانهم من العرب بأنهم من أهل الكتاب، وأنهم يعتنقون دينا سماويا مُنزلا من عند الله، وقد اقترب ظهور نبي آخر الزمان الذي بشرت به التوراة، وذكرت أوصافه، ومع أن البشارات والعلامات التي يعرفونها قد تجمعت في النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كتموا ما عندهم من آيات وبينات، ولم يؤمنوا به حقدا وحسدا واستكبارا، لأنهم كانوا يتطلعون أن يكون هذا النبي من بينهم.

7 مواقف تدل على كرم طلحة بن عبيد الله

أول الصفوف، شجاعا ومقداما. لكنه كان أيضا معروفا بالجود والكرم. فقد عُرف الّصحابي طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- بالكرم والسّخاء الشّديد، فهو يُعدّ من أغنياء الصّحابة، وكان يعمل بالتّجارة منذ شبابه، ومن شدّة سخائه سمّاه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بعدّة أسماء منها: طلحة الفيّاض، وطلحة الخير، وطلحة الجود، وقد سجّل مواقفا كثيرة تدل على عطائه وسخائه، منها:

1- اشترى بئرا لسقي المسلمين منه، وذبح جزوراً لإطعامهم.

2- أنفق مالا كثيرا في تجهيز غزوة العسرة.

3- افتدى عشرة من أسرى بدر بماله.

4- باع أرضا له بسبعمئة ألف، فلم يهنأ له النّوم ليلا والمال عنده، فما لبث أن طلع عليه الصّبح حتّى وزّعه.

5- تصدّق بمئة ألف درهم، ثمّ لم يجد ما يلبس إلا شيئا قديما.

6- كان يُرسل إلى عائشة -رضي الله عنها- كلّ عام عشرة آلاف درهم، لتوزّعها على فقراء المسلمين.

7- كان لا يترك غارما من قومه بني تيم إلّا وسدّد عنه وقضى دينه، فقد سدّد عن عبيد بن معمر ثمانين ألف درهم، ودفع عن رجل من تيم ثلاثين ألفا.


جار النبي في الجنة

بشر الرسول صلى الله عليه وسلم، طلحة بالجنة في مواقف كثيرة، قال: “طلحة والزبير جاراي في الجنة “، وقال: “من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على رجليه فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله”.

وفي غزوة أُحد، رأى طلحة، رسول الله صلى الله عليه وسلم والدم يسيل من وجنتيه، فجن جنونه وقفز أمامه يضرب المشركين بيمينه ويساره، وسند الرسول وحمله بعيدا عن الحفرة التي زلت فيها قدمه، وقال أبو بكر رضي الله عنه، عندما يذكر غزوة أُحد: ذلك كله كان يوم طلحة، كنت أول من جاء إلى النبي فقال لي الرسول ولأبي عبيدة بن الجراح: “دونكم أخاكم، ونظرنا، وإذا به بضع وسبعون بين طعنة وضربة ورمية، وإذا أصبعه مقطوعة، فأصلحنا من شأنه.

ماهي فضائل طلحة بن عبيد الله؟

فضائل طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- كثيرة مشهورة نذكر منها:

– ما رواه البخاري بإسناده إلى قيس بن أبي حازم قال: “رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد”. هذا الحديث اشتمل على منقبة عظيمة خص بها طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- وهي أنه وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يوم أحد لما أراد بعض المشركين أن يضربه فاتقى طلحة الضربة بيده حتى أصابها شلل.

– وروى أيضاً بإسناده إلى أبي عثمان النهدي قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد عن حديثهما. وهذا الحديث أيضا تضمن منقبة ظاهرة لطلحة بن عبيد الله من حيث إنه بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تفرق الناس عنه يوم أحد.

– وروى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى الزبير -رضي الله عنه- قال: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعان فنهض إلى الصخرة فلم يستطع فأقعد تحته طلحة، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى استوى على الصخرة قال: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “أوجب طلحة”، أي: وجبت له الجنة بسبب عمله هذا أو بما فعل في ذلك اليوم فإنه خاطر بنفسه يوم أحد وفدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

– روى أبو نعيم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك كله يوم طلحة. وهذا مدح وثناء عظيم وشهادة صادقة من صدّيق هذه الأمة.

– ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن طلحة ممن قضى نحبه ووفى لله بما نذره على نفسه من القتال في سبيله ونصرة دينه. فقد روى الترمذي بإسناده إلى موسى بن طلحة قال: دخلت على معاوية فقال: ألا أبشرك؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “طلحة ممن قضى نحبه”.

– ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يموت شهيداً. فقد روى مسلم في (صحيحه) بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد” وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم.

– ومن مناقبه الرفيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنه راض. قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: (باب ذكر مناقب طلحة بن عبيد الله، وقال عمر: توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض).

ومما يدل على عظم مكانته وعلو منزلته أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة ضمن جماعة من فضلاء الصحابة.

كيف استشهد طلحة بن عبيد الله؟

عاش طلحة رضي الله عنه إلى زمن خلافة علي بن أبي طالب، ولَمَّا حدث الخلاف بين الصحابة حول أيهما أولى: استقرار الأمور وبيعة أمير المؤمنين رضي الله عنه، أم القصاص لعثمان رضي الله عنه، كان طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه مع الرأي الثاني، الذي كان يميل إلى تقديم القصاص، ولكن ورغم ذلك جاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وناشد طلحة رضي الله عنه أن يرجع عن قتاله، وألَّا يؤذيه بذلك، فرجع طلحة رضي الله عنه، وقرَّرَ أن ينسحب عن المعركة، فلحقه سهمٌ غادرٌ، ممن يريدون إشعال الفتن، ويضرهم أن يتَّحدَ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان استشهاده يوم موقعة الجمل سنة 36هـ ليلحق بحبيبه صلى الله عليه وأصحابه الأبرار.

وحين كان عليٌّ رضي الله عنه يستعرض شهداء المعركة، راح يصلي عليهم جميعًا، الذين كانوا معه، والذين كانوا ضدَّه، ولما فرغ من دفن طلحة رضي الله عنه، والزبير رضي الله عنه، وقف يودعهما بكلمات جليلة، اختتمها قائلًا: “إني لأرجو أن أكون أنا، وطلحة والزبير وعثمان من الذين قال الله فيهم: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر:47]، ثم ضمَّ قبريهما بنظراته الحانية الصافية وقال: “سمعت أذناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ جَارَايَ فِي الجَنَّةِ»[19]. فرضي الله عنهم أجمعين.

 
حتى لا ننتقص من دعاة الإسلام المعاصرين سأحاول جاهدا المزج بين الشيوخ والوعاظ في كافة العصور وبين دعاة العصر الحديث وساتطرق غدا إن شاء الله إلى سيرة المرحوم الشيخ محمد متولي الشعراوي تغمده الله بواسع رحمته.

49688.jpg
 
إمام الدعاة الشيخ محمد متولى الشعراوي تغمده الله بواسع رحمته

الشيخ-الشعراوي.jpg


محمد متولي الشعراوي الذى توفى فى 17 يونيو 1998، والذى اشتهر بحلقات تفسير القرآن، التى ما زالت تنال إعجاب وإقبال جموع المسلمين فى العالم، ليبقى الشيخ الشعراوى علامة مضيئة فى تاريخ المفسرين.



1- ولد الشيخ محمد متولى الشعراوى فى 15 أبريل عام 1911م بقرية دقادوس مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية.

2- حفظ القرآن الكريم فى الحادية عشرة من عمره فى عام 1922م.

3- التحق بمعهد الزقازيق الابتدائى الأزهري، وأظهر نبوغاً منذ الصغر فى حفظه للشعر والمأثور من القول والحكم.

4- حصل على الشهادة الابتدائية الأزهرية سنة 1923م، ودخل المعهد الثانوى الأزهري.

5- حظى بمكانة خاصة بين زملائه، فاختاروه رئيسًا لاتحاد الطلبة، ورئيسًا لجمعية الأدباء بالزقازيق.

6- انشغل بالحركة الوطنية والحركة الأزهرية، فكان يتوجه وزملاؤه إلى ساحات الأزهر وأروقته، ويلقى بالخطب مما عرضه للاعتقال أكثر من مرة، وكان وقتها رئيسًا لاتحاد الطلبة سنة 1934م.

7 - التحق الشعراوى بكلية اللغة العربية عام 1937م.

8- تخرج الشيخ محمد متولى الشعراوى عام 1940م، وحصل على العالمية مع إجازة التدريس عام 1943م.

9- بعد تخرجه عُيّن الشعراوى فى المعهد الدينى بطنطا، ثم انتقل بعد ذلك إلى المعهد الدينى بالزقازيق ثم الإسكندرية.

10- فى عام 1950 انتقل الشيخ الشعراوى للعمل فى السعودية أستاذاً للشريعة فى جامعة أم القرى.

11- فى عام 1963 حدث الخلاف بين الرئيس جمال عبد الناصر وبين الملك سعود، وعلى إثر ذلك منع الرئيس جمال عبد الناصر الشيخ الشعراوى من العودة ثانية إلى السعودية.

12- عُيّن الشعراوى فى القاهرة مديراً لمكتب شيخ الأزهر الشريف الشيخ حسن مأمون.

13- سافر الشيخ الشعراوى بعد ذلك إلى الجزائر رئيساً لبعثة الأزهر هناك ومكث بالجزائر حوالى 7 سنوات قضاها فى التدريس.

14- فى نوفمبر 1976م أسند ممدوح سالم رئيس الوزراء للشيخ الشعراوى وزارة الأوقاف وشئون الأزهر.

15- ظل الشعراوى وزيرا للأوقاف حتى أكتوبر عام 1978م.

16- أصدر الشعراوى قراراً وزارياً بإنشاء أول بنك إسلامى فى مصر وهو بنك فيصل.

17- فى عام 1987م اختير عضواً بمجمع اللغة العربية (مجمع الخالدين).

18- وفي عام 1988 مُنح الشيخ محمد متولى الشعراوى وساما في يوم الدعاة.

19- توفى إمام الدعاة الشيخ محمد متولى الشعراوى، في مثل هذا اليوم 17 يونيو عام 1998 عن عمر يناهز 87 عاما.

20- ترك الشيخ الشعراوى إرثا من الحلقات التليفزيونية من خواطره حول آيات القرآن الكريم، وعدد من المؤلفات مثل "خواطر الشعراوى، المنتخب في تفسير القرآن الكريم، خواطر قرآنية، معجزة القرآن، من فيض القرآن، المرأة في القرآن
.
 
الشيخ محمد متولي الشعراوي

الشعراوي.jpg



ولد الشيخ محمد متولي الشعراوي في (5 ابريل 1911 و توفي في 17 يونيو 1998 ،فقيه وداعية ومن أشهر مفسري القران الكريم في العصر الحديث وملقب بإمام الدعاة، كان لديه القدرة على تفسير الكثير من المسائل الدينية بأسلوب بسيط يصل إلى قلب المتلقي في سلاسة ويسر كما أن له مجهودات كبيرة وعظيمة في مجال الدعوة الإسلامية.

عرف بأسلوبه العذب البسيط في تفسير القرآن، وكان تركيزه على النقاط الإيمانية في تفسيره جعله يقترب من قلوب الناس، وبخاصة وأن أسلوبه يناسب جميع المستويات والثقافات.

بالرغم من نفوذه الواسع وتأثيره الكبير كعالم دين صاحب شعبية جارفة ووصوله لمنصب وزير أوقاف في الدولة المصرية فقد عرف عنه تواضعه الشديد تجاه كل من حوله وكان يقول كلمة الحق في كل موقف يتعرض له دون الإلتفات إلى منصب أو علاقة بالسلطة أو مال مما أكسبه مصداقية كبيرة لدى الجماهير.

مولد الشيخ محمد متولي الشعراوي

ولد محمد متولي الشعراوي في 15 ابريل عام 1911 بقرية دقادوس مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية وحفظ القرآن الكريم في الحادية عشرة من عمره ، في عام 1916 م التحق الشيخ الشعراوي بمعهد الزقازيق الابتدائي الأزهري، وأظهر نبوغاً منذ الصغر في حفظه للشعر والمأثور من القول والحكم، ثم حصل على الشهادة الابتدائية الأزهرية سنة 1923م، ودخل المعهد الثانوي، وزاد اهتمامه بالشعر والأدب، و حظى بمكانة خاصة بين زملائه، فاختاروه رئيسًا لاتحاد الطلبة، ورئيسًا لجمعية الأدباء بالزقازيق، وكان معه في ذلك الوقت الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي و الشاعر طاهر أبو فاشا والأستاذ خالد محمد خالد
  والدكتور أحمد هيكل والدكتور حسن جاد
 ، وكانوا يعرضون عليه ما يكتبون.

كانت نقطة تحول في حياة الشيخ الشعراوي، عندما أراد له والده إلحاقه بالأزهر الشريف بالقاهرة ، وكان الشيخ الشعراوي يود أن يبقى مع إخوته لزراعة الأرض، ولكن إصرار الوالد دفعه لاصطحابه إلى القاهرة، ودفع المصروفات وتجهيز المكان للسكن.

فما كان منه إلا أن اشترط على والده أن يشتري له كميات من أمهات الكتب في التراث واللغة وعلوم القرآن والتفاسير وكتب الحديث النبوي الشريف، كنوع من التعجيز حتى يرضى والده بعودته إلى القرية.

لكن والده فطن إلى تلك الحيلة، واشترى له كل ما طلب قائلاً له: أنا أعلم يا بني أن جميع هذه الكتب ليست مقررة عليك، ولكني آثرت شراءها لتزويدك بها كي تنهل من العلم. فما كان أمام الشيخ إلا أن يطيع والده، ويتحدى رغبته في العودة إلى القرية، فأخذ يغترف من العلم، ويلتهم منه كل ما تقع عليه عيناه.

التحق الشعراوي بكلية اللغة العربية سنة 1937م، وانشغل بالحركة الوطنية والحركة الأزهرية، فثورة سنة 1919م اندلعت من الازهر الشريف ، ومن الأزهر خرجت المنشورات التي تعبر عن سخط المصريين ضد الإنجليز المحتلين. ولم يكن معهد الزقازيق بعيدًا عن قلعة الأزهر الشامخة في القاهرة، فكان الشيخ يزحف هو وزملائه إلى ساحات الأزهر وأروقته، ويلقى بالخطب مما عرضه للاعتقال أكثر من مرة، وكان وقتها رئيسًا لاتحاد الطلبة سنة 1934م.

أسرة الشعراوي​

تزوج محمد متولي الشعراوي وهو في الثانوية بناءً على رغبة والده الذي اختار له زوجته، ووافق الشيخ على اختياره، لينجب ثلاثة أولاد وبنتين، الأولاد: سامي وعبد الرحيم وأحمد، والبنتان فاطمة وصالحة. وكان الشيخ يرى أن أول عوامل نجاح الزواج هو الاختيار والقبول من الطرفين والمحبة بينهما.

تخرج الشيخ عام 1940 وحصل على العالمية مع إجازة التدريس عام 1943 بعد تخرجه عين الشعراوي في المعهد الديني بطنطا ثم انتقل بعد ذلك إلى المعهد الديني بالزقازيق ثم المعهد الديني بالاسكندرية وبعد فترة خبرة طويلة انتقل الشيخ الشعراوي إلى العمل في السعودية عام 1950 ليعمل أستاذًا للشريعة بجامعة أم القرى.

اضطر الشيخ الشعراوي أن يدرِّس مادة العقائد رغم تخصصه أصلاً في اللغة وهذا في حد ذاته يشكل صعوبة كبيرة إلا أن الشيخ الشعراوي استطاع أن يثبت تفوقه في تدريس هذه المادة لدرجة كبيرة لاقت استحسان وتقدير الجميع. وفي عام 1963 حدث الخلاف بين الرئيس جمال عبد الناصر وبين الملك سعود.

وعلى أثر ذلك منع الرئيس عبد الناصر الشيخ الشعراوي من العودة ثانية إلى السعودية وعين في القاهرة مديرًا لمكتب شيخ الأزهر الشريف الشيخ حسن مأمون ثم سافر بعد ذلك الشيخ الشعراوي إلى الجزائر رئيسًا لبعثة الأزهر هناك ومكث بالجزائر حوالي سبع سنوات قضاها في التدريس وأثناء وجوده في الجزائر حدثت نكسة يونيو 1967 وقد سجد الشعراوى شكراً لأقسى الهزائم العسكرية التي منيت بها مصر -و برر ذلك "في حرف التاء" في برنامج من الألف إلى الياء بأن مصر لم تنتصر و هي في أحضان الشيوعية فلم يفتن المصريون في دينهم- وحين عاد الشيخ الشعراوي إلى القاهرة وعين مديرًا لأوقاف محافظة الغربية فترة، ثم وكيلا للدعوة والفكر، ثم وكيلاً للأزهر ثم عاد ثانية إلى المملكة العربية السعودية، حيث قام بالتدريس في جامعة الملك عبدالعزيز .

وفي نوفمبر 1976م اختار السيد ممدوح سالم
رئيس الوزراء آنذاك أعضاء وزارته، وأسند إلى الشيخ الشعراوي وزارة الأوقاف وشئون الأزهر. فظل الشعراوي في الوزارة حتى أكتوبر عام 1978م.

وبعد أن ترك بصمة طيبة على جبين الحياة الاقتصادية في مصر، فهو أول من أصدر قرارًا وزاريًا بإنشاء أول بنك إسلامي في مصر وهو بنك فيصل حيث إن هذا من اختصاصات وزير الاقتصاد أو المالية (د. حامد السايح في هذه الفترة)، الذي فوضه، ووافقه مجلس الشعب على ذلك.

وقال في ذلك: إنني راعيت وجه الله فيه ولم أجعل في بالي أحدًا لأنني علمت بحكم تجاربي في الحياة أن أي موضوع يفشل فيه الإنسان أو تفشل فيه الجماعة هو الموضوع الذي يدخل هوى الشخص أو أهواء الجماعات فيه، أما إذا كانوا جميعًا صادرين عن هوى الحق وعن مراده، فلا يمكن أبدًا أن يهزموا، وحين تدخل أهواء الناس أو الأشخاص، على غير مراد الله، تتخلى يد الله.

وفي سنة 1987م اختير فضيلته عضواً بمجمع اللغة العربية (مجمع الخالدين) وقرَّظه زملاؤه بما يليق به من كلمات، وجاء انضمامه بعد حصوله على أغلبية الأصوات (40عضوًا)، وقال يومها: ما أسعدني بهذا اللقاء، الذي فرحت به فرحًا على حلقات: فرحت به ترشيحًا لي، وفرحت به ترجيحًا لي، وفرحت به استقبالاً لي، لأنه تكريم نشأ عن إلحاق لا عن لحوق، والإلحاق استدعاء، أدعو الله بدعاء نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أستعيذك من كل عمل أردت به وجهك مخالطاً فيه غيرك. فحين رشحت من هذا المجمع آمنت بعد ذلك أننا في خير دائم، وأننا لن نخلو من الخير ما دام فينا كتاب الله، سألني البعض: هل قبلت الانضمام إلى مجمع الخالدين، وهل كتب الخلود لأحد؟ وكان ردي: إن الخلود نسبي، وهذا المجمع مكلف بالعربية، واللغة العربية للقرآن، فالمجمع للقرآن، وسيخلد المجمع بخلود القرآن.

خواطره حول تفسير القرآن​


بدأ الشيخ محمد متولي الشعراوي تفسيره على شاشات التلفاز سنة 1980م بمقدمة حول التفسير ثم شرع في تفسير سورة الفاتحة وانتهى عند أواخر سورة الممتحنة وأوائل سورة الصف وحالت وفاته دون أن يفسر القرآن الكريم كاملا ، يذكر أن له تسجيلا صوتيا يحتوي على تفسير جزء عم ( الجزء الثلاثون ) .

يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي موضحـًا منهجه في التفسير : خواطري حول القرآن الكريم لا تعني تفسيرًا للقرآن .. وإنما هي هبات صفائية .. تخطر على قلب مؤمن في آية أو بضع آيات .. ولو أن القرآن من الممكن أن يفسر .. لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بتفسيره .. لأنه عليه نزل وبه انفعل وله بلغ وبه علم وعمل .. وله ظهرت معجزاته .. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتفى بأن يبين للناس على قدر حاجتهم من العبادة التي تبين لهم أحكام التكليف في القرآن الكريم، وهي " افعل ولا تفعل .. ".

اعتمد في تفسيره على عدة عناصر من أهمها:

1- اللغة كمنطلق لفهم النص القرآني.

2- محاولة الكشف عن فصاحة القرآن وسر نظمه.

3- الإصلاح الاجتماعي.

4- رد شبهات المستشرقين.

5- يذكر أحيانا تجاربه الشخصية من واقع الحياة.

6- المزاوجة بين العمق والبساطة وذلك من خلال اللهجة المصرية الدارجة.

7- ضرب المثل وحسن تصويره.

8- الاستطراد الموضوعي.

9- النفس الصوفي.

10- الأسلوب المنطقي الجدلي.

11- في الأجزاء الأخيرة من تفسيره آثر الاختصار حتى يتمكن من إكمال خواطره

مؤلفاته​

للشيخ الشعراوي عدد من المؤلفات، قام عدد من محبيه بجمعها وإعدادها للنشر، وأشهر هذه المؤلفات وأعظمها تفسير الشعراوي للقرآن الكريم، ومن هذه المؤلفات:

الإسراء والمعراج.

أسرار بسم الله الرحمن الرحيم.

الإسلام والفكر المعاصر.

الإسلام والمرأة، عقيدة ومنهج.

الشورى والتشريع في الإسلام.

الصلاة وأركان الإسلام.

الطريق إلى الله.

الفتاوى.

لبيك اللهم لبيك.

100 سؤال وجواب في الفقه الإسلامي.

المرأة كما أرادها الله.

معجزة القرآن.

من فيض القرآن.

نظرات في القرآن.

على مائدة الفكر الإسلامي.

القضاء والقدر.

هذا هو الإسلام.

المنتخب في تفسير القرآن الكريم.


جوائز وتكريمات​


الشيخ الشعراوي مع طبيب الأسنان المصري هشام العيسوي في إنجلترا.

سافر الشيخ الشعرواي إلى لندن ، لاجراء عملية جراحية، وهناك قام بخلع الزي الأزهري، ولبس البدلة والكرافتة، وحين نشرت صورته بهذا الزي قال: ليس للمسلمين زي خاص بهم يختلف عن أزياء سائر الناس، والسلف الصالح كانوا يلبسون ملابس تأتيهم من الشام، واليمن، والهند في قوافل التجارة، ولم يرد في أحادث الرسول النص على زي معين للمسلمين، ومن الطبيعي أن تختلف ملابس المسل في أوروبا عن ملابس مسلمي الصين أو باكستان. وفي لندن كان الجراح الذي أجرى له العملية يهودياً، والذي تابع علاجه بعدها طبيب مسيحي من أصل مصري، وأشرف على العلاج طبيب مسلم رافقه من مصر، وكان الأطباء الثلاثة يجتمعون حول الشيخ.

منح الإمام الشعراوي وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى لمناسبة بلوغه سن التقاعد في 15/4/1976 قبل تعيينه وزيرًا للأوقاف وشئون الأزهر.

منح وسام الجمهورية من الطبقة الأولى عام 1983م وعام 1988م، ووسام في يوم الدعاة.

حصل على الدكتوراه الفخرية في الآداب من جامعتي المنصورة والمنوفية .

اختارته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
عضوًا بالهيئة التأسيسية لمؤتمر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية، الذي تنظمه الرابطة، وعهدت إليه بترشيح من يراهم من المحكمين في مختلف التخصصات الشرعية والعلمية، لتقويم الأبحاث الواردة إلى المؤتمر.

أعدت حوله عدة رسائل جامعية منها رسالة ماجستير عنه بجامعة المنيا ـ كلية التربية قسم أصول التربية، وقد تناولت الرسالة الاستفادة من الآراء التربوية لفضيلة الشيخ الشعراوي في تطوير أساليب التربية المعاصرة في مصر.

جعلته محافظة الدقهلية شخصية المهرجان الثقافي لعام 1989م والذي تعقده كل عام لتكريم أحد أبنائها البارزين، وأعلنت المحافظة عن مسابقة لنيل جوائز تقديرية وتشجيعية، عن حياته وأعماله ودوره في الدعوة الإسلامية محليًا، ودوليًا، ورصدت لها جوائز مالية ضخمة.

دراسات جامعية​

وفي أحدث دراسة جامعية عنه منحت كلية الدراسات الإسلامية في جامعة المقاصد اللبنانية الشيخ بهاء الدين سلام شهادة الماجستير في الدراسات الإسلامية بدرجة جيد جداً عن رسالته المعنونة بتجديد الفكر الإسلامي في خواطر الشيخ محمد متولي الشعراوي وذلك بإجماع لجنة المناقشة المؤلفة من الدكتور هشام نشابة رئيساً والشيخ الدكتور يوسف المرعشلي مشرفاً والشيخ الدكتور أحمد اللدن عضواً .

تكونت الرسالة من ثلاثة فصول إضافة إلى المقدمة والتمهيد وملحق الوثائق. الفصل الأول ناقش فيه سيرة الشيخ الشعراوي ودعوته وظروف الدعوة الإسلامية في عصره متحدثاً عن الأحوال السياسية والاقتصادية والفكرية والدينية وأثرها على نشأة الشيخ الشعراوي، كما كان عرض لأبرز مميزات اسلوب الشيخ الشعراوي في دعوته.أما الفصل الثاني فضم مناقشة تحليلية أبرزت مواطن التجديد في تفسير الشيخ الشعراوي من خلال عرض لآرائه في بعض القضايا العقائدية والتشريعية والأخلاقية.أما الفصل الثالث فكان عرضاً لآراء أبرز العلماء في الشيخ الشعراوي وكذلك لأبرز المآخذ التي تقال عن الشيخ الشعراوي حيث فنّدها الباحث ورد عليها وناقشها ثم كانت الخاتمة وملحق الوثائق.

نقل مقام إبراهيم​

عام 1954 كانت هناك فكرة مطروحة لنقل مقام إبراهيم من مكانه، والرجوع به إلى الوراء حتى يفسحوا المطاف الذي كان قد ضاق بالطائفين ويعيق حركة الطواف، وكان قد تحدد أحد الأيام ليقوم الملك سعود بنقل المقام ،و في ذلك الوقت كان الشيخ الشعراوي يعمل أستاذاً بكلية الشريعة في مكة المكرمة وسمع عن ذلك واعتبر هذا الأمر مخالفاً للشريعة فبدأ بالتحرك واتصل ببعض العلماء السعوديين والمصريين في البعثة لكنهم أبلغوه أن الموضوع انتهى وأن المبنى الجديد قد أقيم، فقام بإرسال برقية من خمس صفحات إلى الملك سعود، عرض فيها المسألة من الناحية الفقهية والتاريخية، واستدل الشيخ في حجته بأن الذين احتجوا بفعل الرسول جانبهم الصواب، لأنه رسول ومشرع وله ما ليس لغيره وله أن يعمل الجديد غير المسبوق، واستدل أيضاً بموقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي لم يغير موقع المقام بعد تحركه بسبب طوفان حدث في عهده وأعاده إلى مكانه في عهد الرسول.

وبعد أن وصلت البرقية إلى الملك سعود، جمع العلماء وطلب منهم دراسة برقية الشعراوي، فوافقوا على كل ما جاء في البرقية، فأصدر الملك قراراً بعدم نقل المقام، وأمر الملك بدراسة مقترحات الشعراوي لتوسعة المطاف، حيث اقترح الشيخ أن يوضع الحجر في قبة صغيرة من الزجاج غير القابل للكسر، بدلاً من المقام القديم الذي كان عبارة عن بناء كبير يضيق على الطائفين.

وفاته رحمه الله



من أبلغ الأثر الحديث القدسي يا إبن آدم ...

 
التعديل الأخير:
طاووس بن كيسان




هو ابن كيسان ، الفقيه القدوة عالم اليمن ، أبو عبد الرحمن الفارسي ، ثم اليمني الجندي الحافظ .

كان من أبناء الفرس الذين جهزهم كسرى لأخذ اليمن له ، فقيل : هو مولى بحير بن ريسان الحميري ، وقيل : بل ولاؤه لهمدان . أراه ولد في دولة [ ص: 39 ] عثمان -رضي الله عنه- أو قبل ذلك .

سمع من زيد بن ثابت ، وعائشة ، وأبي هريرة ، وزيد بن أرقم ، وابن عباس ، ولازم ابن عباس مدة ، وهو معدود في كبراء أصحابه .

وروى أيضا عن جابر ، وسراقة بن مالك ، وصفوان بن أمية ، وابن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، وعن زياد الأعجم ، وحجر المدري ، وطائفة . وروى عن معاذ مرسلا .

روى عنه عطاء ، ومجاهد ، وجماعة من أقرانه ، وابنه عبد الله ، والحسن بن مسلم ، وابن شهاب ، وإبراهيم بن ميسرة ، وأبو الزبير المكي ، وسليمان التيمي ، وسليمان بن موسى الدمشقي ، وقيس بن سعد المكي ، وعكرمة بن عمار ، وأسامة بن زيد الليثي ، وعبد الملك بن ميسرة ، وعمرو بن دينار ، وعبد الله بن أبي نجيح ، وحنظلة بن أبي سفيان ، وخلق سواهم . وحديثه في دواوين من الإسلام ، وهو حجة باتفاق .

فروى عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : إني لأظن طاوسا من أهل الجنة .

وقال قيس بن سعد : هو فينا مثل ابن سيرين في أهل البصرة .

سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح قال : قال مجاهد لطاوس : رأيتك يا أبا عبد الرحمن تصلي في الكعبة ، والنبي صلى على بابها يقول لك : اكشف قناعك ، وبين قراءتك ، قال طاوس : اسكت لا يسمع هذا منك أحد ، قال : ثم خيل إلي أنه انبسط في الكلام ، يعني فرحا بالمنام


ولد باليمن السعيد ونشأ به، ونشر به علم الإسلام، فلا غرو أن ينسب إليه ويعرف بطاووس اليماني، ويسجل تاريخ الرجال أنه فقيه اليمن غير منازع.

أدرك نحو خمسين من الصحابة، وتلقى عنهم ما وسعه من العلم والهدى الذي بعث الله به رسوله، فروى عن أبي هريرة، وعائشة وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، و ابن عمر، وأكثر الرواية والصحبة لابن عباس رضي الله عنهم، وكان من أجلِّ تلامذته وخاصَّة أصحابة .

وقال فيه: "إني لأظن طاووساً من أهل الجنة"، وقال سفيان بن عيينة: قلت لعبد الله ابن أبي يزيد: مع من كنت تدخل على ابن عباس؟ قال: مع عطاء والعامة، وكان طاووس يدخل مع الخاصة.

وتلقى عنه العلم جمع غفير من التابعين وأتباعهم ( منهم ابنه عبد الله) رأوا فيه ثبتاً أميناً فيما يروي، فقيهاً مسدَّداً فيما يرى. قال عمرو بن دينار: ما رأيت مثله، وقال الزهري: لو رأيت طاووساً علمت أنه لا يكذب. وقال هو لأحد تلاميذه: إذا حدَّثتك حديثاً قد أثبته فلا تسأل عنه غيري، ومثل هذا لا يقوله إلا واثق من نفسه، مطمئن إلى علمه وأمانته.

وذكر في تاريخ صنعاء: أنه ولي قضاء صنعاء والجَنَد... إلى جانب ما يقوم به من رواية وإفتاء وتعليم وتذكير.

علم وعمل

ولكن شخصية هذا الإمام لم يبرزها العلم وحده ـ وإن له لفضلاً ـ وإنما أبرزها الإيمان الصادق، والعمل الصالح، والخلق العظيم.
كان وثيق الصلة بالله تعالى، قانتاً آناء الليل ساجداً، و قائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، يجد في قيام ليلة قرة لعينة وزاداً لقلبه، وأنساً بمولاه، لا يشغله عنه عذاب السفر ولا نَصَب البدن.

كان في قافلة الحجَّاج مرة، فعرض للناس أسد حبسهم في الطريق ليلة مروَّعين، ودقَّ بعضهم بعضاً من الفزع، فلما كان السحر ذهب عنهم الأسد فنزل الناس يميناً وشمالاً يبتغون النوم والراحة، وقام طاووس من بينهم يصلي، فقال له ابنه: ألا تنام فإنك قد سهرت ونصبت الليلة؟ فقال: ما كنت أظن أحداً ينام في السحر، وكان رقيق القلب مرهف الوجدان دقيق الحس، حتى رووا عنه أنه إذا مر بروّاس ( بائع الرؤوس) فرأى الرؤوس المشوية لم ينم تلك اللية.

وكان كثير الحج إلى بيت الله الحرام، في عصر ما كان الحج فيه من اليمن إلى مكة سفراً قاصداً، ولا نزهة تستروح فيها النفس، كان يسير شهراً ذاهباً، وشهراً راجعاً، لكن هذا العناء كان يسيراً عليه حبيباً إليه ما دام من ورائه شرف الغاية وحُسن الثواب، فهو يقول لابنه: إن الرجل إذا خرج في طاعة، لا يزال في سبيل الله حتى يرجع إلى أهله.

والحق أن الحج لم يكن لطاووس ونظرائه عبادة روحيَّة فحسب، بل كان ـ فوق ذلك ، مجمعاً لعلماء الإسلام من كل الأقاليم، في ساحته يلتقون، ويتساءلون ويتذاكرون ويتعاونون، فيأخذ بعضهم عن بعض، ويراجع بعضهم بعضاً قبل أن تعرف الدنيا معنى التعاون العلمي على هذا النطاق الفسيح.

الإسلام الإيجابي

وكان الإسلام في رأسه وقلبه واضحاً مستقيماً، بعيداً عن الضعف والسلبيَّة، دافعاً إلى البناء والإيجابية، متَّسماً بروح القوة وقوة الروح.
لم يكن كإسلام المتكلمين ـ فيما بعد ـ بما غلب عليه من جدل ونظريات، ولا كإسلام المتصوفة بما فيه من سلبية وانعزالية، ولا كإسلام أتباع المذاهب الفقهية بما طغى عليه من جفاف وتفريع وتعقيد.

فليس كل صمت خيراً، ولا كل كلام شراً كما يدَّعي بعض الورعين المتزمتين، بل كما قال طاووس لأبي نجح: ( من قال واتقى الله خيراً ممَّن صمت واتقى).

والدعاء خير، ولكن لا يكن همك تسول الدعاء من غيرك، و باب الله مفتوح لك على مصراعيه، فلا عجب أن يرد الذين يعتقدون فيه الزلفى إلى الله، ويسألون الدعاء لهم ـ وقد عرف بين الناس أنه مستجاب الدعوة ـ قال له رجل: ادع الله فقال: أدع لنفسك فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.

وقال لآخر: لا أجد بقلبي حسبة فأدعو لك،
والمؤمن يرضى بالقضاء، ويصبر على البأساء والضراء، ولكن الفقر والبأساء شيء، وإنما النظافة والزينة شيء آخر.

وقد رأى رجلاً مسكيناً في عينه عمش، وفي ثوبه و ساخة، فقال له: يا هذا إن كان الفقر من الله فأين أنت من الماء؟!

والتزيُّن وحسن الهندام مندوب إليه ولكن الترف والنعومة والطراوة وبخاصة في الشباب ـ مفسدة للرجولة، وقتل لروح الجهاد.
رأى فتياناً من قريش يرفلون في مشيتهم،

فقال: إنكم لتلبسون لبسة ما كانت آباؤكم تلبسها، وتمشون مشية ما يحسن الزفانون ـ الزفن: هو الرقص ـ أن يمشوها.

كان قويَّ الفكر مؤمناً بسنن الله في الأسباب والمسبَّبات، ينفر من الخرفات ويكفر بالأوهام، وكان رجل يسير معه فسمع غراباً ينعب فقال: خيراً! فقال طاووس: أي خير في هذا أو شر ؟ لا تصحبني ولا تمشي معي.

ولم يكن كأولئك الذين سموا فيها بعد بالصوفية، الذي دعوا إلى الرهبنة، وخوفوا مريديهم من الزواج، بل كان يقول: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج، وقال لإبراهيم ابن ميسرة أحد تلامذته: لتتزوجن أو لأقولن لك ما قال عمر لأبي الزوائد: ما يمنعك عن النكاح إلا عجز أو فجور.

عجز أو فجور ذلك هو المانع من الزواج وكلاهما مما يستعاذ بالله منه، فالإنسان بطبيعته ضعيف أمام الغريزة، فإذا لم يغلبها بالحلال غلبته بالحرام.

وكان طاووس يفسر قوله تعالى:[ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا] {النساء:28}. فيقول: في أمور النساء، ليس يكون في شيء أضعف منه في النساء.
مدرسة أخلاقيه

وكان مجلس طاووس ـ إذا جلس للتدريس ـ مدرسة تربوية عملية، يتلقى الناس فيها معارف الإسلام وأخلاق الإسلام معاً، فالناس عنده سواسية، الأمراء إذا حضروا حلقته كالعوام أو أدنى، لا يوجِّه إليهم فضل عناية ولا مزيد اهتمام، كان يعلم الناس بسلوكه أن العلم أرفع قدراً من المال والجاه، وأن العالم العامل أعز من الأمير والخليفة المطاع، وأن العلماء أمراء الأمراء.

قال سفيان بن عيينة: حلف لنا إبراهيم بن ميسرة، وهو مستقبل الكعبة ـ: ورب هذا البيت، ما رأيت أحداً، الشريف والوضيع عنده بمنزلة واحدة إلا طاووساً.

وجاء ابن لسليمان بن عبد الملك وهو خليفة ـ فجلس إلى جنب طاووس فلم يلتفت إليه، فقيل له: جلس إليك ابن أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه قال: أردت أن يعلم هو وأبوه أن لله عباداً يزهدون فيهم وفيما في أيديهم!
وقال الصلت بن راشد: كنا عند طاووس فجاءه مسلم بن قتيبة بن مسلم صاحب خراسان، فسأله عن شيء، فانتهره طاووس، فقلت: هذا مسلم بن قتيبة بن مسلم صاحب خراسان!

فقال: ذاك أهون له علي!

وروى الزهري أن سليمان بن عبد الملك في حجة رأى رجلاً يطوف بالبيت له جمال وكمال، فقال: من هذا يا زهري ؟ قال: هذا طاووس، وقد أدرك عدة من الصحابة، فأرسل إليه سليمان، فأتاه فدخل عليه في قوة المؤمن، وإيمان القوي، لم ينخلع قلبه فزعاً، ولم يسل لعابه طمعاً.

فقال له: لو ما حدثتنا؟ وقال طاووس في نفسه: هذا مقام يسألني الله عنه، فلم يكن حديثه إلى الخليفة حديث الخائف أوالمادح، إن المدح والإطراء بضاعة الشعراء لا بضاعة العلماء، ومهمة العالم أن يوجه وينذر لا أن يحرق البخور، فماذا قال طاووس؟ قال: حدثني أبو موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهون الخلق على الله عزَّ وجل من ولي من أمور المسلمين شيئاً فلم يعدل فيهم) والحديث ناطق ناصع لا يحتاج إلى تعليق.

فتغيَّر وجه سليمان وأطرق طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: لو ما حدثتنا؟

قال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام في مجلس من مجالس قريش، ثم قال: إن لكم على قريش حقاً، ولهم على الناس حق، ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا ائتمنوا أدوا، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً).

وتغيَّر وجه سليمان للمرة الثانية وأطرق طويلاً ثم رفع رأسه إليه وقال: لو ما حدثتنا؟.

فقال: حدثني ابن عباس: أن آخر آية نزلت من كتاب الله: [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ] {البقرة:281}

وكذلك يكبر العالم بعلمه وإيمانه ويرتفع حتى يصير كالجبل، ويتضاءل أمامه الأمراء والخلفاء حتى يصيروا كالذباب.

وإنما جرَّأه على هؤلاء أنه لم يكن يطمع في شيء عندهم، ولا يخافهم على شيء عنده، وفيم يطمع؟ وعلام يخاف؟ الناس يطمعون في دنيا الأمراء، وهو استدبرهم وراء ظهره، ويخافونهم على الرزق والأجل، وهو يعلم أن ليس في أيديهم من أمرهما شيء، حتى يأمل منهم الزيادة، أو يخشى منهم النقصان.

التحرر من الخوف والطمع، والرغبة في وجه الله وحده هما مفتاح تلك الشخصية الفارعة، وقد قيل: إن العالم إذا اراد بعلمه الناس والدنيا خاف من كل شيء، وإذا أراد بعلمه وجه الله خوَّف الله منه كل شيء.

قدم طاووس بمكة، وقدم إليها أمير المؤمنين فقيل لطاووس: إن من فضله، ومن.... ومن... فلو أتيته؟ قال: مالي إليه من حاجة، فقالوا: إنا نخافه عليك!قال: فما هو إذن كما تقولون! وصدق طاووس.

فأي فضل لحاكم يخشى الناس بطشه وأذاه أن يمتد إلى العلماء والهداة!!

وكان يقول لعطاء بن أي رباح فقيه مكة: يا عطاء. إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه، وجعل دونه حجابه، وعليك بطلب من بابه لك مفتوح إلى يوم القيامة، طلب منك أن تدعو،ووعدك الإجابة.

إلى الآخرة
عمَّر طاووس طويلاً حتى وهن العظم منه، واشتعل الرأس شيباً، بيد أن قلبه لم يهن وعقله لم يشخ، بل ظل متألق الفكر حاضر الذهن، قائماً بشعائر العبادة لربه، حتى آخر عمره.

روى ابن سعد عن ليث قال: رأيت طاووساً في مرضه الذي مات فيه يصلي قائماً على فراشه ويسجد عليه.

وقال أبو عبد الله الشامي: أتيت طاووساً فاستأذنت عليه، فخرج إليَّ شيخ كبير، فقلت أنت طاووس ؟ قال: لا أنا ابنه، قلت: إن كنت أنت ابنه فإن الشيخ قد خرف، فقال: إن العالم لا يخرف، فدخلت عليه، فقال طاووس: سل فأوجز، فقلت: إن أوجزت أثقلت ـ فقال: تريد أن أجمع لك في مجلسي هذا التوراة والإنجيل والفرقان فقلت: نعم. قال خف الله مخافة لا يكون عندك شيء أخوف منه، وأرجه رجاء أشد من خوفك إياه، و أحب للناس ما تحب لنفسك..

وما أصدقها وصيَّة جامعة في معاملة الله والناس!

وفي إحدى حجَّاته إلى مكة المكرمة، آن لهذا السراج الوهَّاج أن ينطفء فأدركه الموت على خير ما يدرك عليه المسلم: أدركه مُحرماً ملبِّياً طائفاً قانتاً لله... في البلد الحرام والشهر الحرام، في السابع من ذي الحجة من سنة ست ومائة من الهجرة، بعد بضع وتسعين سنة مباركة حافلة بالعلم والعمل والدعوة إلى سبيل الله.

وكان هشام بن عبد الملك قد حجَّ تلك السنة وهو خليفة ، فصلى على طاووس، و سار في جنازته خلق كثير حرصوا على تشييعه إلى مثواه الأخير، منهم عبد الله بن الحسن بن علي، الذي أخذ بقائمة سريره فما زايله حتى بلغ القبر، وقد سقطت قلنسوة كانت عليه ومُزِّق رداءه من خلفه، من كثرة الزحام، والناس يسترحمون ويقولون: رحم الله أبا عبد الرحمن، حجَّ أربعين حجة.

أجل، رحم الله أبا عبد الرحمن في الأوَّلين و نفع بعلمه في الآخرين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
 
التعديل الأخير:

أنس بن مالك .. خادم رسول الله وصاحبه و إمام دار الهجرة

Malik_Bin_Anas_Name.png



أنس بن مالك الأنصاري هو صحابي جليل، ولد بالمدينة، وأسلم صغيراً وكناه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بأبي حمزة. خدم الرسول عليه الصلاة والسلام في بيته وهو ابن 10 سنين. فلقب بخادم الرسول الذي دعا له صلى الله عليه وسلم قائلا “اللهم أكثر ماله وولده وبارك له ، وأدخله الجنة” فعاش طويلا، ورزق من البنين والحفدة الكثير.

شهد أنس بن مالك مع النبي صلى الله عليه وسلم الحديبية وخيبر وعمرة القضاء والفتح وحنين والطائف وما بعد ذلك، كما شهد حجة الوداع. أطال الله عمره ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فكان آخر الصحابة وفاة.. فاستفادت منه أجيال وروى عنه أكثر من 285 صحابيا وتابعيا، كما شهد بيعة الرضوان، وكان مجاب الدعاء.

من هو أنس بن مالك؟

هو أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي النجاري من بني عدي بن النجار، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يتسمى به ويفتخر بذلك، وقد ولد رضي الله عنه قبل الهجرة بعشر سنوات، وكنيته أبو حمزة، وأم أنس هي أم سليم بنت ملحان رضي الله عنها، كانت تحت مالك بن النضر أبي أنس بن مالك في الجاهلية، فولدت له أنس بن مالك، فلما جاء الله بالإسلام أسلمت مع قومها وعرضت الإسلام على زوجها، فغضب عليها وخرج إلى الشام فهلك هناك، ثم خلف عليها بعده أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه.

ما أن هاجر النبي محمد إلى يثرب، حتى دفعت أم سليم ابنها أنس للنبي ليقوم على خدمته، وعمره يومها عشر سنين، وقالت له: “يا رسول الله. هذا أُنيس ابني غلام لبيب كاتب، أتيتك به يخدمك، فادع الله له”، فقبله النبي محمد، ودعا له.

خدم أنس بن مالك النبي محمد مدة مقامه بالمدينة عشر سنين، عامله فيها النبي محمد معاملة الولد، وكنّاه أبو حمزة، فكان يخصّه ببعض أحاديثه، وأحيانا ما كان يناديه “يا بني”، وما عاتبه على شئ فعله، وما ضربه قط.

ولم يكن أنس رغم صغر سنه آنذاك بمعزل عن الأحداث السياسية لدولة الإسلام الوليدة، فقد خرج أنس مع النبي محمد إلى بدر، وهو غلام ليخدم، وما شارك يومها في القتال. كما شارك أنس مع النبي ثماني غزوات منها خيبر والطائف وحنين، كما شهد فتح مكة وصلح الحديبية وعمرة القضاء وحجة الوداع وبيعة الشجرة.

أنس بن مالك بعد وفاة النبي

بعد وفاة النبي محمد، استخلف ابو بكر الصديق على المسلمين الذي شهد بداية عهده ردة العديد من القبائل على سلطة المسلمين وعلى دين الإسلام، فآذن ذلك ببدء حروب الردة. شارك أنس في تلك الحروب، وكان أحد الرماة المهرة، فكان ممن شهد معركة اليمامة، وبعد استقرار الأمور، أراد أبو بكر أن يبعث أنس بن مالك إلى البحرين ليتولى جباية أموال الزكاة، فاستشار عمر بن الخطاب، فقال له عمر: “ابعثه، فإنه لبيب كاتب”، فبعثه.

عاد أنس من مهمته ليجد الخليفة الأول قد مات، وخلفه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، فبدأ بمبايعته، ثم دفع إليه المال. ثم انطلق أنس، وشارك في فتوح العراق وبلاد فارس، وشهد معركة القادسية، وفتح تستر، وهو الذي قدم المدينة المنورة على عمر بن الخطاب بحاكمها الهرمزان أسيرًا.

وبعد الفتوح، سكن أنس البصرة، وأقام فيها يُحدّث الناس بما يحفظ من الحديث النبوي، حتى أحصى علماء الحديث أكثر من مائتي راوٍ عنه. ولما تولى عبد الله بن الزبير الخلافة بعد موت يزيد بن معاوية، كتب ابن الزبير إلى أنس بن مالك ليصلى بالناس بالبصرة، فصلى بهم أربعين يومًا.

قصة أنس بن مالك مع الحجاج

تعرض أنس بعد ذلك إلى محنة عظيمة، فبعد ثورة عبد الرحمن بن الأشعث على حكم الأمويين في العراق، استعرض الحجاج بن يوسف الثقفي أهل البصرة، فجاء أنس، فقال له الحجاج: “يا خبيث، جوّال في الفتن، مرة مع علي، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن الأشعث، أما والذي نفسي بيده، لأستأصلنك كما تستأصل الصمغة، ولأجردنك كما يجرد الضب”، فقال أنس: «”من يعني الأمير؟”، قال: “إياك أعني، أصم الله سمعك”، فقال أنس: “إنا لله وإنا إليه راجعون”، فأمر به الحجاج فخُتم في يده، وقيل في عنقه “عتيق الحجاج”، الحجاج، أراد أن يذله بذلك.

انصرف أنس فتابعه بعضهم، فقال: “لولا أني ذكرت ولدي وخشيت عليهم بعدي، لكلمته بكلام لا يستحييني بعده أبدًا”، وكتب إلى الخليفة وقتها عبد الملك بن مروان كتابًا جاء فيه: “إني خدمت رسول الله ﷺ تسع سنين، والله لو أن النصارى أدركوا رجلاً خدم نبيهم، لأكرموه، وإن الحجاج يعرض بي حوكة البصرة”، فغضب عبد الملك، وأرسل إلى الحجاج يأمره بأن يعتذر لأنس، فسار الحجاج إلى أنس، وقال له: “يا أبا حمزة غضبت؟”، قال: “أغضب تعرضني لحوكة البصرة”، فقال الحجاج: “يا أبا حمزة، إنما مثلي ومثلك كقول الذي قال: إياك أعني، واسمعي يا جارة، أردت أن لا يكون لأحد علي منطق، أردت أن يعلم أهل العراق إذ كان من ابنك ما كان، وإذ بلغت منك ما بلغت أني إليهم بالعقوبة أوسع”.

مواقف من حياته

شهد أنس رضي الله عنه غزوة بدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يخدمه، إذ كان عمره حينها اثني عشر عاما، قال أنس بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا، وأرحبهم صدرا، وأوفرهم حنانا، فقد أرسلني يوما لحاجة فخرجت، وقصدت صبيانا كانوا يلعبون في السوق لألعب معهم، ولم أذهب إلى ما أمرني به، فلما صرت إليهم شعرت بإنسان يقف خلفي، ويأخذ بثوبي، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ويقول: “يا أنيس، أذهبت إلى حيث أمرتك؟”، فارتبكت وقلت: نعم، إني ذاهب الآن يا رسول الله. والله لقد خدمته عشر سنين، فما قال لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته، وعن أنس بن مالك قال: أتاني معاذ بن جبل رضي الله عنه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “من شهد أن لا إله إلا الله مخلصا بها قلبه دخل الجنة” فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، حدثني معاذ أنك قلت: “من شهد أن لا إله إلا الله مخلصا بها قلبه دخل الجنة”، قال: “صدق معاذ، صدق معاذ، صدق معاذ”.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجت وأنا أريد المسجد فإذا بزيد بن مالك رضي الله عنه، فوضع يده على منكبي يتكئ علي، فذهبت وأنا شاب أخطو خطا الشباب، فقال لي زيد: قارب الخطا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من مشى إلى المسجد كان له بكل خطوة عشر حسنات”. وقال الزهري: دخلت على أنس بن مالك رضي الله عنه بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت، وقال غيلان بن جرير: قلت لأنس بن مالك رضي الله عنه: يا أبا حمزة، أرأيت قول الناس لكم: الأنصار، اسم سماكم الله به أم أنتم كنتم تسمون به من قبل؟ قال: “بل اسم سمانا به الله”.

عبادته وروايته للحديث النبوي

قال ابو هريرة رضي الله عنه “ما رأيت أحدًا أشبه بصلاة رسول الله ﷺ من ابن أم سليم”، وقال أنس بن سيرين: “كان أنس بن مالك أحسن الناس صلاة في الحضر والسفر”، وقال حفيده ثمامة بن عبد الله: “كان أنس يصلي حتى تفطر قدماه دمًا، مما يطيل القيام”.
روى عن:
  • النبي محمد
  • أبو بكر الصديق
  • عمر بن الخطاب
  • عثمان بن عفان
  • معاذ بن جبل
  • أسيد بن حضير
  • أبو طلحة الأنصاري… وآخرون
روى عنه:
  • محمد بن سيرين
  • حميد الطويل
  • ثابت البناني
  • قتادة بن دعامة
  • الحسن البصري
  • الزُّهْرِيّ
  • الشعبي
  • أبو قلابة الجرمي
  • مكحول الشامي
  • عمر بن عبد العزيز…وآخرون كثيرون

بعض الأحاديث التي رواها أنس بن مالك

يعد أنس بن مالك رضي الله عنه من أكثر الصحابة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه لازم الرسول الكريم عشر سنوات، مرافقا له وخادما ومتعلما منه، ومن هذه الأحاديث ما رواه البخاري بسنده، عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا أو أراد أن يكتب، فقيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا مختوما. فاتخذ خاتما من فضة نقشه “محمد رسول الله”، كأني أنظر إلى بياضه في يده.

فقلت لقتادة: من قال: نقشه محمد رسول الله؟ قال: أنس، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضأوا منه، قال: فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه حتى توضأوا من عند آخرهم.

لأنس بن مالك رضي الله عنه الأثر الكبير في غيره من الناس، ذلك أنه كان رضي الله عنه يحمل الكثير من كنوز السنة النبوية العطرة، بفضل هذه الصحبة الطويلة لرسول الله، ولم يكن ليحتفظ بهذا العلم لنفسه أو يكتمه عن غيره ممن لاقاهم بعد رسول الله، وكان أن بارك الله له في عمره ببركة دعاء النبي، له بقوله “اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته”، فاستفادت منه أجيال التابعين، ورووا عنه وحفظوا ما رواه هو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى عنه ما يزيد على مائتين وخمسة وثمانين من الصحابة والتابعين، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يزيد على 2200 من الأحاديث، مما يدل على عظيم أثره، وعلو همته في تبليغ العلم الذي حصله من الرسول صلى الله عليه وسلم.

عندما “ذهب نصف العلم”

قدم دمشق أيام الوليد بن عبد الملك، ثم رحل إلى البصرة يحدث الناس، وفيها توفي رضي الله عنه، قيل: توفي يوم الجمعة سنة 91، وقيل: سنة 92، وقيل: سنة 93 من الهجرة النبوية، وهو آخر من مات من الصحابة عن صفوان بن هبيرة، عن أبيه قال: قال لي ثابت البناني: قال لي أنس بن مالك رضي الله عنه: هذه شعرة من شعر رسول الله فضعها تحت لساني. قال: فوضعتها تحت لسانه، فدفن وهي تحت لسانه، وقال مؤرق العجلي لما مات أنس بن مالك “ذهب اليوم نصف العلم”.
 
Abu_Hanifa_Name.png


الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان



الإمام أبو حنيفة النعمان التمهيد :

نزل الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود مدينة الكوفة عقب إنشائها على عهد عمر بن الخطاب سنة 17 هـ ليعلّم الناس ويفقّههم في دينهم، فالتف الناس حوله، وكان بحرا زاخرا من بحور العلم، وكان متأثرا بطريقة عمر بن الخطاب في الاستنباط والبحث، والأخذ بالرأي عند افتقاد النص، مع الاحتياط والتحري في قبول الحديث النبوي.

وبرز من تلامذة ابن مسعود عدد من الفقهاء الأفذاذ، يأتي في مقدمتهم عبيدة بن قيس السلماني، وعلقمة بن قيس النخعي الذي قال عنه شيخه ابن مسعود: لا أعلم شيئا إلا وعلقمة يعلمه، بالإضافة إلى شُريح الكندي الذي ولي قضاء الكوفة في عهد عمر، واستمر على القضاء اثنتين وستين سنة.

وحمل أمانة العلم من بعدهم طبقة لم يدركوا ابن مسعود، ولكن تفقهوا على يد أصحابه، وكان أبرز هذه الطبقة إبراهيم بن يزيد النخعي، فقيه العراق دون منازع، فضلا عن تمكنه الراسخ في علوم الحديث، وهو ينتمي إلى أسرة كريمة، اشتهر كثير من أفرادها بالنبوغ والاشتغال بالفقه.

وعلى يد إبراهيم النخعي تتلمذ حمّاد بن سليمان، وخلفه في درسه، وكان إماما مجتهدا، كانت له بالكوفة حلقة عظيمة، يؤمها طلاب العلم، وكان من بينهم أبو حنيفة النعمان الذي فاق أقرانه وانتهى إليه الفقه وتقلد زعامة مدرسة الرأي من بعد شيخه، والتفّ حوله الراغبون في الفقه، برز منهم تلامذة بررة، على رأسهم أبو يوسف، ومحمد، وزُفر، وعملوا معه على تكوين المذهب الحنفي.

المولد والنشأة

استقبلت الكوفة مولودها النعمان بن ثابت بن النعمان المعروف بأبي حنيفة سنة (80 هـ 699م) وكانت آنذاك حاضرة من حواضر العلم، تموج بحلقات الفقه والحديث والقراءات واللغة والعلوم، وتمتلئ مساجدها بشيوخ العلم وأئمته، وفي هذه المدينة قضى أبو حنيفة معظم حياته متعلما وعالما، وتردد في صباه الباكر بعد أن حفظ القران على هذه الحلقات، لكنه كان منصرفا إلى مهنة التجارة مع أبيه، فلما رآه عامر الشعبي الفقيه الكبير ولمح ما فيه مخايل الذكاء ورجاحة العقل أوصاه بمجالسة العلماء والنظر في العلم، فاستجاب لرغبته وانصرف بهمته إلى حلقات الدرس وما أكثرها في الكوفة، فروى الحديث ودرس اللغة والأدب، واتجه إلى دراسة علم الكلام حتى برع فيه براعة عظيمة مكّنته من مجادلة أصحاب الفرق المختلفة ومحاجّاتهم في بعض مسائل العقيدة، ثم انصرف إلى الفقه ولزم حماد بن أبي سليمان، وطالت ملازمته له حتى بلغت ثمانية عشر عاما.

شيوخه

وكان أبو حنيفة يكثر من أداء فريضة الحج حتى قيل إنه حج 55 مرة، وقد مكنته هذه الرحلات المتصلة إلى بيت الله الحرام أن يلتقي بكبار الفقهاء والحفّاظ، يدارسهم ويروي عنهم، وممن التقى بهم من كبار التابعين: عامر الشعبي المتوفى سنة (103 هـ= 721م)، وعكرمة مولى ابن عباس المتوفى سنة (105 هـ = 723م)، ونافع مولى ابن عمر المتوفى (117هـ= 735م)، وزيد بن علي زين العابدين المتوفى سنة (122هـ = 740م)، ويصل بعض المؤرخين بشيوخ أبي حنيفة إلى 4 آلاف شيخ، وتذكر بعض الروايات أنه التقى ببعض الصحابة الذين عاشوا إلى نهاية المائة عام الأولى، وروى عنهم بعض الأحاديث النبوية وهو بذلك ترتفع درجته إلى رتبة التابعين، على أن الراجح أنه وإن صح أنه التقى بعض الصحابة الذين امتدت بهم الحياة حتى عصره فإنه لم يكن في سن من يتلقّى العلم، ولا سيما أنه بدأ العلم في سن متأخرة وأنه انصرف في بداية حياته إلى العمل بالتجارة.

رئاسة حلقة الفقه

وبعد موت شيخه حماد بن أبي سليمان آلت رياسة حلقة الفقه إلى أبي حنيفة، وهو في الأربعين من عمره، والتفّ حوله تلاميذه ينهلون من علمه وفقهه، وكانت له طريقة مبتكرة في حل المسائل والقضايا التي كانت تُطرح في حلقته؛ فلم يكن يعمد هو إلى حلها مباشرة، وإنما كان يطرحها على تلاميذه، ليدلي كل منهم برأيه، ويعضّد ما يقول بدليل، ثم يعقّب هو على رأيهم، ويصوّب ما يراه صائبا، حتى تُقتل القضية بحثا، ويجتمع ابو حنيفة النعمان وتلاميذه على رأي واحد يقررونه جميعا.

وكان أبو حنيفة يتعهد تلاميذه بالرعاية، وينفق على بعضهم من ماله، مثلما فعل مع تلميذه ابي يوسف حين تكفّله بالعيش لما رأى ضرورات الحياة تصرفه عن طلب العلم، وأمده بماله حتى يفرغ تماما للدراسة، يقول أبو يوسف المتوفى سنة (182هـ = 797م): “وكان يعولني وعيالي عشرين سنة، وإذا قلت له: ما رأيت أجود منك، يقول: كيف لو رأيت حمادا –يقصد شيخه- ما رأيت أجمع للخصال المحمودة منه”.

وكان مع اشتغاله يعمل بالتجارة، حيث كان له محل في الكوفة لبيع الخزّ (الحرير)، يقوم عليه شريك له، فأعانه ذلك على الاستمرار في خدمة العلم، والتفرغ للفقه.

أصول مذهبه

نشأ مذهب أبي حنيفة في الكوفة مهد مدرسة الرأي، وتكونت أصول المذهب على يديه، وأجملها هو في قوله: “إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد فيها أخذت بقول أصحابه من شئت، وادع قول من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب فلي أن أجتهد كما اجتهدوا”.

وهذا القدر من أصول التشريع لا يختلف فيه أبو حنيفة عن غيره من الأئمة، فهم يتفقون جميعا على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة لاستنباط الأحكام منهما، غير أن أبا حنيفة تميّز بمنهج مستقل في الاجتهاد، وطريقة خاصة في استنباط الأحكام التي لا تقف عند ظاهر النصوص، بل تغوص إلى المعاني التي تشير إليها، وتتعمق في مقاصدها وغاياتها.

ولا يعني اشتهار أبي حنيفة بالقول بالرأي والإكثار من القياس أنه يهمل الأخذ بالأحاديث والآثار، أو أنه قليل البضاعة فيها، بل كان يشترط في قبول الحديث شروطا متشددة؛ مبالغة في التحري والضبط، والتأكد من صحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التشدد في قبول الحديث هو ما حمله على التوسع في تفسير ما صح عنده منها، والإكثار من القياس عليها حتى يواجه النوازل والمشكلات المتجددة.

ولم يقف اجتهاد أبي حنيفة عند المسائل التي تعرض عليه أو التي تحدث فقط، بل كان يفترض المسائل التي لم تقع ويقلّبها على جميع وجوهها ثم يستنبط لها أحكاما، وهو ما يسمى بالفقه التقديري وفرص المسائل، وهذا النوع من الفقه يقال إن أبا حنيفة هو أول من استحدثه، وقد أكثر منه لإكثاره استعمال القياس، روي أنه وضع ستين ألف مسألة من هذا النوع.

تلاميذ أبي حنيفة

لم يؤثر عن أبي حنيفة أنه كتب كتابا في الفقه يجمع آراءه وفتاواه، وهذا لا ينفي أنه كان يملي ذلك على تلاميذه، ثم يراجعه بعد إتمام كتابته، ليقر منه ما يراه صالحا أو يحذف ما دون ذلك، أو يغيّر ما يحتاج إلى تغيير، ولكن مذهبه بقي وانتشر ولم يندثر كما اندثرت مذاهب كثيرة لفقهاء سبقوه أو عاصروه، وذلك بفضل تلاميذه الموهوبين الذين دونوا المذهب وحفظوا كثيرا من آراء إمامهم بأقواله وكان أشهر هؤلاء:

أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم المتوفى (183هـ = 799م) وهو يعدّ أول من دوّن الكتب في مذهب أبي حنيفة، ووصل إلينا من كتبه “الآثار”، وكتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، وساعده منصبه في القضاء على أن يمكّن لمذهب أبي حنيفة الذيوع والانتشار.

محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة (189هـ = 805م) وهو يعد صاحب الفضل الأكبر في تدوين المذهب، على الرغم من أنه لم يتتلمذ على شيخه أبي حنيفة إلا لفترة قصيرة، واستكمل دراسته على يد أبي يوسف، وأخذ عن الثوري والأوزاعي، ورحل إلى مالك في المدينة، وتلقى عنه فقه الحديث والرواية.

تدوين المذهب

وصلت إلينا كتب محمد بن الحسن الشيباني كاملة، وكان منها ما أطلق عليه العلماء كتب ظاهر الرواية، وهي كتب المبسوط والزيادات، والجامع الكبير والجماع الصغير، والسير الكبير والسير الصغير، وسميت بكتب ظاهرة الرواية؛ لأنها رويت عن الثقات من تلاميذه، فهي ثابتة عنه إما بالتواتر أو بالشهرة.

وقد جمع أبو الفضل المروزي المعروف بالحاكم الشهيد المتوفى سنة (344هـ = 955م) كتب ظاهر الرواية بعد حذف المكرر منها في كتاب أطلق عليه “الكافي”، ثم قام بشرحه شمس الأئمة السرخسي المتوفى سنة (483هـ = 1090م) في كتابه “المبسوط”، وهو مطبوع في ثلاثين جزءا، ويعد من أهم كتب الحنفية الناقلة لأقوال أئمة المذهب، بما يضمه من أصول المسائل وأدلتها وأوجه القياس فيها.

كتاب المبسوط من أهم كتب المذهب الحنفي في الفقه
كتاب المبسوط من أهم كتب المذهب الحنفي في الفقه

انتشار المذهب


انتشر مذهب أبي حنيفة في البلاد منذ أن مكّن له أبو يوسف بعد تولّيه منصب قاضي القضاة في الدولة العباسية، وكان المذهب الرسمي لها، كما كان مذهب السلاجقة والدولة الغرنوية ثم الدولة العثمانية، وهو الآن شائع في أكثر البقاع الإسلامية، ويتركز وجوده في مصر والشام والعراق وباكستان والهند والصين.

وفاة أبي حنيفة

مد الله في عمر أبي حنيفة، ورزقه الله القبول، وهيأ له من التلاميذ النابهين من حملوا مذهبه ومكنوا له، وحسبه أن يكون من بين تلاميذه أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وزفر، والحسن بن زياد، وأقر له معاصروه بالسبق والتقدم، قال عنه النضر بن شميل: “كان الناس نياما عن الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتقه وبيّنه”، وبلغ من سمو منزلته في الفقه أن قال الشافعي رحمه الله : “الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة.

كما كان ورعا شديد الخوف والوجل من الله، وتمتلئ كتب التاريخ والتراجم بما يشهد له بذلك، ولعل من أبلغ ما قيل عنه ما وصفه به العالم الزاهد فضيل بن عياض بقوله: “كان أبو حنيفة رجلا فقيها معروفا بالفقه، مشهورا بالورع، واسع المال، معروفا بالأفضال على كل من يطيف به، صبورا عل تعليم العلم بالليل والنهار، حسن الليل، كثير الصمت، قليل الكلام حتى ترد مسألة في حلال أو حرام، فكان يحسن أن يدل على الحق، هاربا من مال السلطان”.

وتوفي أبو حنيفة في بغداد بعد أن ملأ الدنيا علما وشغل الناس في (11 من جمادى الأولى 150 هـ = 14 من يونيو 767م).
 
Al-Shafie_Name.png

الإمام الشافعي


الإمام الشافعي هو ثالث الأئمة عند أهل السنة والجماعة وصاحب المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي، ومؤسس علم أصول الفقه، مؤلف كتاب “الرسالة” أول كتاب في علم أصول الفقه، وهو العالم الذي مزج في فقهه بين طريقة أهل العراق والحجاز. وهو أيضا إمام في علم التفسير وعلم الحديث، كما عمل قاضيا وعرف بالعدل والذكاء.

بعد أكثر من 1200 عام على وفاته لا يزال الشافعي حاضرا في قلوب المسلمين، الذين يجدون أنفسهم منساقين إلى تذكر أئمة العلم وأهل الصلاح والعبادة، ودراسة سيرتهم ومسيرتهم في تقريب الخلق إلى الحق وحفظ أصول الدين والدعوة إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن هؤلاء الأعلام الذين أناروا طريق الهداية وخدموا علوم الدين بكل ما أوتوا من نية صالحة وموهبة فذة، الإمام الشافعى.

اقترن اسم هذا العالم الجليل بـ “الإمام”، وتقلَّد “قاضي الشريعة” دون أن يكون على منصة القضاء، حاضرا في قلوب المسلمين ودينهم رغم وفاته قبل 1199 عام، وولد في غزة، ودفن في مصر، التي تشهد حاليا ترميم ضريحه الشهير، وسط القاهرة.

الإمام الشافعي هو أحد أبرز أئمة أهل السنة والجماعة في التاريخ الإسلامي، وصاحب المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي.

ويجمع أهل السنة والجماعة في الإسلام على أربعة مذاهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي وجميعهم متفقون على الأصول الفقهية لكنهم مختلفون في بعض المسائل والفروع التي كونت نشأتها.

والإمام الشافعي ثالث الأئمة الأربعة بعد ابو حنيفة النعمان ومالك بن أنس، وكان تلميذًا للإمام مالك وشيخًا للإمام أحمد بن حنبل، رابع الأئمة.

مولده ونسبه ونشأته

ولد الإمام الشافعي في شهر رجب عام 150 هجرية (أغسطس/ آب 767 ميلادية)، واتفق مؤرخو الفقهاء على أنه ولد بمدينة غزة بفلسطين، بينما توفي في مصر في آخر يوم من شهر رجب عام 204 هـ الموافق لـ 20 يناير/ كانون الثاني 820 م.

يعود نسب “الشافعي” إلى أجداد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قيل عنه إنه “ابن عم النبي”، و”إمام قريش (قبيلة في مكة ينسب إليها النبي محمد) الذي ذكره النبي بقوله: عالم قريش يملأ الأرض علمًا.
عاش الشافعي عيشة اليتامى الفقراء، و حفظ القران الكريم في سن السابعة من عمره، وحفظ الموطأ في العاشرة، وأُذن له بالإفتاء ولم يبلغ العشرين من عمره. بدأ ذكاؤه الشديد في سرعة حفظه له، ثم اتجه بعد حفظه القران الكريم إلى حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كلفا بها، حريصا على جمعها، ويستمع إلى المحدثين فيحفظ الحديث بالسمع، ثم يكتبه على الخزف أحيانا، وعلى الجلود أخرى، وكان يذهب إلى الديوان يستوعب الظهور ليكتب عليها.

هاجر الشافعي إلى المدينة المنورة طلبًا للعلم عند الإمام مالك بن أنس، ثم ارتحل إلى اليمن وعمل فيها، ثم ارتحل إلى بغداد سنة 184 هـ، فطلب العلم فيها عند القاضي محمد بن الحسن الشيباني، وأخذ يدرس المذهب الحنفي، وبذلك اجتمع له فقه الحجاز (المذهب المالكي) وفقه العراق (المذهب الحنفي).

ثم عاد الشافعي إلى مكة وأقام فيها تسع سنوات تقريبًا، وأخذ يُلقى دروسه في الحرم المكي، ثم سافر إلى بغداد للمرة الثانية، فقدِمها سنة 195 هـ، وقام بتأليف كتاب الرسالة الذي وضع به الأساسَ لعلم أصول الفقه، ثم سافر إلى مصر سنة 199 هـ.
وفى مصر، أعاد الشافعي تصنيف كتاب الرسالة الذي كتبه للمرة الأولى في بغداد، كما أخذ ينشر مذهبه الجديد، ويجادل مخالفيه، ويعلِّم طلابَ العلم.

فقه الشافعي

الشافعية أو المذهب الشافعي أو الفقه الشافعي اشتهر هذا المصطلح منذ البدايات المبكرة لنشوء المدارس الفقهية السنية المختلفة، لكنه بالتأكيد ظهر في حياة الإمام محمد بن إدريس الشافعي (150-204 هـ) الذي ينسب إليه المذهب الشافعي.

ويعتمد المذهب الشافعي في استنباطاته وطرق الاستدلال على الأصول التي وضعها الإمام الشافعي بشكل عام، لكن ليس بالضرورة أن تتوافق آراء المذهب الشافعي مع آراء الإمام الشافعي نفسه، بل قد يكون المذهب استقر على ورجّح خلاف ما رجحه الشافعي، لكن الأصول وطرائق الاستدلال واحدة.

ومما يُذكر أن الإمام الشافعي يُعد أول من دوّن كتاباً متكاملاً في العلم المعروف بأصول الفقه وذلك في كتابه الشهير الرسالة، كما دوّن كتباً أخرى منها: (الحجة) وهو الكتاب الفقهي الذي دوّنه أولاً في العراق ثم أعاد تأليفه وغير مذهبه في بضع عشرة مسألة فقهية فيه عندما سكن القاهرة وسمى الكتاب (الأم).

بعد مكوثه في بغداد، عاصمة الدولة الإسلامية وقتها، انتقل الشافعي مجددا إلى مكة ليمزج بين “فقه أهل الحديث (الحافظين الملتزمين بأقوال النبي)، ” و”فقه أهل الرأي (أصحاب الرأي والقياس)”، ليبدأ فقه ثالث الأئمة في النضوج.

وخلال إقامته في مكة، بدأ الشافعي في وضع أسس الفقه الشافعي القائم على المزج بين أحكام السنة والقرآن الكريم والاجتهاد في المسائل والأحكام الدينية قياسًا ما لم تكن في القرآن ولا السنة. ولاحقًا، سافر الشافعي إلى بغداد للمرة الثانية، حاملاً قواعد فقهية كلية، فكان قبلة للفقهاء والعلماء في زمانه، وخلال إقامته هناك أعد النسخة الأولى خلاصة فقهه “كتاب الرسالة”.

والكتاب يضع الضوابط التي يلتزم بها الفقيه أو المجتهد لبيان الأحكام الشرعية لكل حديث ومستحدث في كل عصر، ولما أقام بمصر أعاد الإمام تنقيح الكتاب.

قدم الإمام الشافعي إلى مصر سنة 815 ميلادية ومات فيها في 20 يناير 820 ميلادية. وفي مصر عرف بالحكمة والبلاغة والشعر، فاقترون اسمه بـ”الإمام” وأسماه فقراؤها “قاضي الشريعة” وأحبوه وظلوا متعلقين بمقامه وضريحه (وسط القاهرة) إلى يومنا هذا، والذي يعد واحدًا من أكبر الأضرحة الإسلامية بالبلاد.

وبمصر، تجسدت أمام عينيه فكرة أن الشرع يدور حيث تكون مصالح الناس، وبمسجد عمرو بن العاص بالقاهرة، جلس مفتيًا مهتمًا باختلاف الناس، فقام بتعديل وتغيير بعض آرائه، فقال عنه الإمام أحمد بن حنبل، رابع الأئمة الأربعة وصاحب المذهب الحنبلي: “خذوا عن أستاذنا الشافعي ما كتبه في مصر.

مذهب الشافعي

تعد مصر الموطن الأول للمذهب الإمام الشافعي، ورغم فقدانه صفته الرسمية بالبلاد لصالح المذهب “الحنبلي”، إلا أنه باق بجانب المذهب المالكي في العديد من قرى مصر، ولا يزال يدرس في الجامع الأزهر. كما ينتشر المذهب الشافعي في كثير من دول العالم وإن كان أغلبها لا يقره رسميًا في القضاء والأحكام.

اجتهد الشافعي بمكة، ودرس أهلُ العراق مذهبه، ولكن العلماء في ذلك الوقت لم يكونوا قد سلكوا الطريق المذهبي في دراستهم، بل كان كل عالم يجتهد فيما يعرض له من المسائل اجتهاداً حراً، وقد يستعين بدراسة غيره، ليستن لنفسه طريقاً، وليكون له رأياً من غير أن يتقيد بطريق من استعان به، ولا برأيه، ولم يكن ثمة تقليد إلا تقليد العامة لمن يستفتونهم من العلماء، لذلك لم تصبح هذه البلاد شافعية باجتهاد الشافعي فيها، أو دراسته لأهلها.

ولما أخذت ريح التقليد تهب بعد أن اختار المجتهدون أو بعضُهم طريقة بعض الأئمة في الاجتهاد، ثم صار أهل الإقليم يقلدون إماماً، ويختارون مذهبه، كان المذهب الشافعي قد استقر في مصر، واستقام أهلها على طريقته، إذ شُغل الناسُ بدراسته عن المذهب المالكي الذي كان غالباً، والمذهب الحنفي الذي كان معروفاً، لذلك كانت مصرُ المكانَ الذي صدر عنه المذهب الشافعي. وقد جاء في طبقات ابن السبكي عن مصر والشام بالنسبة للمذهب الشافعي: هذان الإقليمان مركز ملك الشافعية منذ ظهر مذهب الشافعية، اليد العالية لأصحابه في هذه البلاد، لا يكون القضاء والخطابة في غيرهم.

انتشر المذهب الشافعي بعد مقامه في مصر والسودان، فظهر في العراق، وكثر أتباعه في بغداد، وانتشر بين أهل الشام، وغلب على كثير من بلاد خراسان وتوران واليمن، ودخل ما وراء النهر، وبلاد فارس والحجاز وتهامة، وزاد انتشاره في كردستان وأرمينية والقوقاز وتركستان الشرقية وبعض بلاد جنوب شرق آسيا والهند، وتسرب إلى بعض شمال وشرق أفريقيا، والأندلس بعد سنة 300 هـ.

مؤلفات الشافعي

للإمام الشافعي عشرات الكتب في أصول الفقه، ويعد كتابة الرسالة الأول في اصول الحديث ، كما ألف كتابًا دافع فيه عن السنة النبوي أسماه “جماع العلم”، كما كتب في أصول الإسلام كالصلاة والزكاة والحج، بجانب فروعه كالطهارة والنكاح والطلاق وغيرها.

%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%B4%D8%A7%D9%81%D8%B9%D9%8A-1-250x330.jpg


وبجانب علومه الشرعية والإسلامية، كان له ديوان شعر، يتناول الحكمة والاستغفار، ومن أبرز أقواله وحكمه: “نعيب زماننا والعيب فينا، وما لزماننا عيب سوانا”، و”تموت الأسد في الغابات جوعًا، ولحم الضأن تأكله الكلاب”.. “وعبد قد ينام على حرير، وذو نسب مفارشه التراب “.

وهذه الكتب التي تجمع أصول الفقه وتدل على الفروع:
  • كتاب الرسالة القديمة (كتبه في بغداد)
  • كتاب الرسالة الجديدة (كتبه في مصر)
  • كتاب اختلاف الحديث
  • كتاب جمَّاع العلم
  • كتاب إبطال الاستحسان
  • كتاب أحكام القرآن
  • كتاب بيان فرض الله عز وجل
  • كتاب صفة الأمر والنهي
  • كتاب اختلاف مالك والشافعي
  • كتاب اختلاف العراقيين
  • كتاب الرد على محمد بن الحسن
  • كتاب علي وعبد الله
  • كتاب فضائل قريش
وهناك كتب مصنفة في الفروع، وقد جمعت كلها في كتاب واحد اسمه كتاب الأم. وله كتاب في الطهارة، وكتاب في الصلاة، وكتاب في الزكاة، وكتاب في الحج، وكتاب في النكاح وما في معناه، وكتاب في الطلاق وما في معناه، وفي الإيلاء والظهار واللعان والنفقات، أملاها على أصحابه، ورواها عنه الربيع بن سليمان المرادي.

ديوان الشافعي

كان الشافعي أديباً وشاعراً فصيحاً بالإضافة إلى معرفته للعلوم الشرعية الإسلامية، فقد ارتحل الشافعي إلى البادية في صغره، ولازم قبيلة هذيل التي كانت أفصح العرب وتعلَّمَ كلامها، وقد بلغ علمه في اللغة العربية أن الأصمعي الذي له مكانة عالية في اللغة قال: “صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس.

%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%AF%D9%8A%D9%88%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D9%81%D8%B9%D9%8A-250x330.jpg


ويتميز شعرُ الشافعي أنه لم يكن يَقصد منه التكسُّبَ أو التقربَ إلى أصحاب المال والجاه والسلطان، بل كان شعرُه في أغلبه يتناول الحكمة ومناجاة الخالق، و الدعاء والاستغفار والتندم على المعاصي.

ولذلك انتشر شعره بين الناس، ولا يزال شعره متداولاً حتى الآن، وصارت بعض أبياته أمثالاً يتداولها الناس في حياتهم اليومية.

ومن قصائده المشهورة:

إذا شئتَ أن تحيا سليماً من الأذى *** ودينك موفورٌ وعرضك صينُ

لسانُك لا تذكرْ به عورةَ امرئٍ *** فكلُّك عوراتٌ وللناس ألسنُ

وعينُك إن أبدت إليك مَعايباً *** فصُنْها وقلْ يا عينُ للناس أعينُ

وعاشر بمعروفٍ وسامح من اعتدى *** ودافعْ ولكنْ بالتي هي أحسنُ


وللشافعي أشعار كثيرة في مواضيع كثيرة منها:

كُلُّ العُلُومِ سِوَى القُرآنِ مَشْغَلَةٌ *** إِلَّا الحَديِثَ وَعِلْمَ الفِقْهِ فِي الدِّينِ

العِلْمُ مَا كَانَ فِيهِ قَالَ حَدَّثَنَا *** وَمَا سِوَى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ

علم وأخلاق وصفات الشافعي

شغل الشافعي الناسَ بعلمه وعقله، شغلهم في بغداد وقد نازل أهل الرأي، وشغلهم في مكة وقد ابتدأ يَخرج عليهم بفقه جديد يتجه إلى الكليات بدل الجزئيات، والأصول بدل الفروع، وشغلهم في بغداد وقد أخذ يدرس خلافات الفقهاء وخلافات بعض الصحابة على أصوله التي اهتدى إليها.

فقد أوتي الشافعي علم اللغة العربية، وأوتي علم الكتاب، ففَقِهَ معانيه، وطبَّ أسراره ومراميه، وقد ألقى شيئاً من ذلك في دروسه، قال بعض تلاميذه: «كان الشافعي إذا أخذ في التفسير كأنه شاهد التنزيل»، وأوتي علم الحديث، فحفظ موطأ مالك، وضبط قواعد السُّنَّة، وفهم مراميها والاستشهاد بها، ومعرفة الناسخ والمنسوخ منها، وأوتي فقه الرأي والقياس، ووضع ضوابط القياس والموازين، لمعرفة صحيحه وسقيمه، وكان يدعو إلى طلب العلوم، فقد كان يقول: «من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في الفقه نبل قدره، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه».

كان الشافعي رحمَه الله يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث، فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا ارتفع الضحى تفرقوا وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر، فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار.

وكان الشافعي متواضعاً مع كثرة علمه وتنوعه، ومما يدل على ذلك قوله: ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ، وما في قلبي من علم إلا وددت أنه عند كل أحد ولا ينسب إلي.

كما كان الشافعي معروفاً بالكرم والسخاء، ومن ذلك ما قاله الربيع بن سليمان: تزوجت، فسألني الشافعي: “كم أصدقتها؟”، فقلت: “ثلاثين ديناراً”، فقال: “كم أعطيتها؟”، قلت: “ستة دنانير”، فصعد داره، وأرسل إلي بصرَّة فيها أربعة وعشرون ديناراً.

وكان الشافعي ورعاً كثير العبادة، فقد كان يختم القرآن في كل ليلة ختمة، فإذا كان شهر رمضان ختم في كل ليلة منها ختمة، وفي كل يوم ختمة، وكان يختم في شهر رمضان ستين ختمة. وقال الحسين بن علي الكرابيسي: “بتُّ مع الشافعي ثمانين ليلة، كان يصلي نحو ثلث الليل، لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه وللمؤمنين أجمعين، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوّذ بالله منها، وسأل النجاة لنفسه ولجميع المسلمين، وكأنما جُمع له الرجاءُ والرهبةُ”.

وكان الشافعي يدعو إلى طلب العلم فيقول: “من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في الفقه نبُل قدره، ومن نظر في اللغة رَقَّ طبعُه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه”.

شيوخ الشافعي

تلقى الشافعي الفقه والحديث على شيوخ قد تباعدت أماكنهم، وتخالفت مناهجهم، حتى لقد كان بعضهم معتزلياً ممن كانوا يشتغلون بعلم الكلام الذي كان الشافعي ينهى عنه، ولقد نال منهم ما رآه خيراً، فأخذ ما يراه واجبَ الأخذ، وترك ما يراه واجبَ الرد. لقد أخذ الشافعي عن شيوخ بمكة وشيوخ بالمدينة وشيوخ باليمن وشيوخ بالعراق، ومشايخُه الذين روى عنهم كثيرون، أما المشهورون منهم والذين كانوا من أهل الفقه والفتوى فهم عشرون، خمسة مكية، وستة مدنية، وأربعة يمانية، وخمسة عراقية.
أما الذين من أهل مكة فهم:
  1. سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي.
  2. مسلم بن خالد بن فروة الزنجي.
  3. سعيد بن سالم القداح.
  4. داود بن عبد الرحمن العطار.
  5. عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد.
وأما الذين من أهل المدينة فهم:
  1. مالك بن أنس بن مالك الأصبحي المدني.
  2. إبراهيم بن سعد بن إبراهيم الزهري.
  3. عبد العزيز بن محمد بن عبيد بن أبي عبيد الدراوردي.
  4. إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي.
  5. محمد بن أبي سعيد بن أبي فُدَيْك.
  6. عبد الله بن نافع الصائغ.
وأما الذين من أهل اليمن فهم:
  1. مُطَرَّف بن مازن الصنعاني.
  2. هشام بن يوسف الصنعاني قاضي صنعاء.
  3. عمرو بن أبي سلمة التنيسي، وهو صاحب الأوزاعي.
  4. يحيى بن حسان بن حيان التنيسي البكري، وهو صاحب الليث بن سعد .
وأما الذين من أهل العراق فهم:
  1. محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني الحنفي.
  2. وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي الكوفي.
  3. حماد بن أسامة بن زيد، أبو أسامة الكوفي.
  4. إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم البصري.
  5. عبد الوهّاب بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي البصري.
ومن هذا السياق يُستفاد أن الشافعي قد تلقى العلم على عدد من الشيوخ أصحابِ المذاهب والنزعات المختلفة، وبذلك يكون قد تلقى فقهَ أكثرِ المذاهب التي قامت في عصره، فتلقى فقه الإمام مالك عليه، وكان هو الأستاذ في شيوخه، وتلقى فقه الأوزاعي عن صاحبه عمرو بن أبي سلمة، وتلقى فقه الليث بن سعد فقيه مصر عن صاحبه يحيى بن حسان، ثم تلقى فقه أبي حنيفة وأصحابه على محمد بن الحسن الشيباني. وهكذا اجتمع له فقه مكة والمدينة والشام ومصر والعراق، ولم يجد حرجاً في أن يطلب الفقه عند من اشتهر بالاعتزال وعُرف أنه لا يَسلُكُ في طلب أصول الاعتقاد مسلك أهل الحديث والفقه، وإن رحلاتِه العلميةَ جعلته لا يقتصر في دراسته على فقهاء أهل السنة والجماعة الذين دخلوا في طاعة الخلفاء، بل كان يدرس آراء الشيعة وغيرِهم، ويظهر أثر ذلك في ثنائه على بعض علمائهم.

تلاميذ الشافعي والرواة عنه

أما تلامذته، فقد تلقى كثيرٌ من طلاب العلم والمتفقِّهين العلمَ على الإمام الشافعي، كما روى عنه أناسٌ كثيرون منهم:
  1. إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان أبو ثور الكلبي البغدادي.
  2. أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الذهلي وهو أحد الأئمة الأربعة.
  3. إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق، أبو إبراهيم المزني المصري، قال فيه الشافعي: «المزني ناصر مذهبي».
  4. الحارث بن أسد أبو عبد الله المحاسبي، أحد مشايخ الصوفية.
  5. الحارث بن سريج البغدادي أبو عمرو النقال.
  6. حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران التجيبي أبو حفص المصري.
  7. الحسن بن محمد بن الصباح أبو علي البغدادي الزعفراني.
  8. الحسين بن علي بن يزيد أبو علي البغدادي الكرابيسي.
  9. الربيع بن سليمان بن داود الجيزي أبو محمد الأزدي.
  10. الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي، قال فيه الشافعي: “الربيع راويتي”، وقيل أنه آخر من روى عن الشافعي بمصر.

من أقوال وحكم الشافعي

من أشهر أقوال وحكم الشافعي، وتعتبر من كنوز المقولات والعبر، ما يلي:
هذه هي الدنيا

تموت الأسد في الغابات جوعًا *** ولحم الضأن تأكله الكــلاب

وعبد قد ينام على حريـــر*** وذو نسب مفارشه التــراب


دعوة إلى التنقل والترحال

ما في المقام لذي عـقـل وذي أدب … من راحة فدع الأوطان واغتـرب

سافر تجد عوضًـا عمن تفارقــه … وانْصَبْ فإن لذيذ العيش في النَّصب

إني رأيت ركـود الـماء يفســده … إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب

آداب التعلم

اصبر على مـر الجفـا من معلم … فإن رسوب العلم في نفراته

ومن لم يذق مر التعلم ساعــة … تجرع ذل الجهل طول حياته

ومن فاته التعليم وقت شبابــه … فكبر عليه أربعا لوفاتــه

وذات الفتى والله بالعلم والتقى … إذا لم يكونا لا اعتبار لذاته


متى يكون السكوت من ذهب؟

إذا نطق السفيه فلا تجبه … فخير من إجابته السكوت

فإن كلمته فـرّجت عنـه … وإن خليته كـمدا يمـوت

لا تيأسن من لطف ربك

إن كنت تغدو في الذنـوب جليـدا … وتخاف في يوم المعاد وعيـدا

فلقـد أتاك من المهيمـن عـفـوه … وأفاض من نعم عليك مزيـدا

لا تيأسن من لطف ربك في الحشا … في بطن أمك مضغة ووليـدا

لو شــاء أن تصلى جهنم خالـدا … ما كان أَلْهمَ قلبك التوحيــدا

الصديق الصدوق

إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا … فدعه ولا تكثر عليه التأسفا

ففي الناس أبدال وفي الترك راحة … وفي القلب صبر للحبيب وإن جفا

فما كل من تهواه يهواك قلبه … ولا كل من صافيته لك قد صفا

إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة … فلا خير في ود يجيء تكلفا

ولا خير في خل يخون خليله … ويلقاه من بعد المودة بالجفاء

التوكل على الله

توكلت في رزقي على الله خـالقي … وأيقنـت أن الله لا شك رازقي

وما يك من رزقي فليـس يفوتني … ولو كان في قاع البحار العوامق

سيأتي بـه الله العظـيم بفضلـه … ولو، لم يكن من اللسـان بناطق

ففي اي شيء تذهب النفس حسرة … وقد قسم الرحـمن رزق الخلائق

لمن نعطي رأينا

ولا تعطين الرأي من لا يريده … فلا أنت محمود ولا الرأي نافعه

كتمان الأسرار

إذا المـرء أفشـى سـره بلسانـه *** ولام عليـه غيـره فهـو أحمـق

إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ***


فصدر الذي يستودع السر أضيـق

الإعراض عن الجاهل

أعرض عن الجاهل السفيه *** فكل مـا قـال فهـو فيـه

ما ضر بحر الفرات يومـاً *** إن خاض بعض الكلاب فيه

السكوت سلامة

قالوا اسكت وقد خوصمت قلت لهم *** إن الجـواب لبـاب الشـر مفتـاح

والصمت عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرف *** وفيه أيضاً لصون العرض إصـلاح

أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة ؟ *** والكلب يخسى لعمري وهـو نبـاح

مناجياً رب العالمين

قلبي برحمتك اللهم ذو أنس ….. في السر والجهر والإصباح والغلس

ما تقلبت من نومي وفي سنتي ….. إلا وذكرك بين النفس والنفس

لقد مننت على قلبي بمعرفة ….. بأنك الله ذو الآلاء والقدس

وقد أتيت ذنوبا أنت تعلمها ….. ولم تكن فاضحي فيها بفعل مسي

فامنن علي بذكر الصالحين ولا ….. تجعل علي إذا في الدين من لبس

وكن معي طول دنياي وآخرتي ….. ويوم حشري بما أنزلت في عبس

الدعاء


أتهزأ بالدعــاء وتزدريــه *** وما تدري بما صنع القضــاء

سهــام الليل لا تخطــي *** لها أمد، وللأمــد، انقضـاء

العيب فينا

نعيب زماننا والعيب فينا … وما لزمانا عيب سوانا

ونهجو ذا الزمان بغير ذنب … ولو نطق الزمان لنا هجانا

وليس الذئب يأكل لحم ذئب … ويأكل بعضنا بعضا عيانا


ثناء العلماء على الإمام الشافعي

روى الخطيب بسنده إلى إسحاق بن راهويه قال: أخذ أحمد بن حنبل بيدي وقال: تعال حتى أذهب بك إلى من لم تر عيناك مثله، فذهب به إلى الشافعي.فالإمام الشافعي يعتبر شيخ الإمام أحمد.

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: يا أبت أي شيء كان الشافعي فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ فقال: يا بني الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، انظر هل لهذين من خلف أو منهما عوض؟ وعن أيوب بن سويد قال: ما ظننت أني أعيش حتى أرى مثل الشافعي.

وقال صالح بن أحمد بن حنبل: ركب الشافعي حماره فجعل أبي يمشي والشافعي راكب وهو يذاكره، فبلغ ذلك يحيى بن معين فبعث إلى أبي في ذلك؛ فبعث إليه الإمام أحمد فقال: إنك لو كنت في الجانب الآخر من الحمار كان خيراً لك.

وعن سويد بن سعيد قال: كنا عند سفيان بن عيينة فجاء محمد بن إدريس فجلس، فروى ابن عيينة حديثاً رقيقاً فغشي على الشافعي فقيل: يا أبا محمد مات محمد بن إدريس، فقال ابن عيينة: إن كان قد مات محمد بن إدريس فقد مات أفضل أهل زمانه.

قال الرازي رحمه الله: إن ثناء العلماء على الإمام الشافعي أكثر من أن يحيط به الحصر، ونحن نذكر السبب في محبتهم له وثنائهم عليه، فنقول: الناس كلهم كانوا قبل زمان الشافعي فريقين: أصحاب الحديث وأصحاب الرأي، أما أصحاب الحديث فكانوا حافظين لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل، وكلما أورد عليهم أصحاب الرأي سؤالاً أو إشكالاً بقوا على ما في أيديهم عاجزين.
 
التعديل الأخير:

عبد_الله_بن_احمد.png

أحمد بن حنبل .. إمام أهل السنة


مسند الإمام أحمد

كان أحمد بن حنبل واحدًا من أئمة الهدى الذين ازدانت بهم القرون الهجرية الأولى، يلوذ بهم الناس حين تدلهمّ بهم الطرق، وتتشعب بهم السبل، فلا يجدون إلا يدًا حانية، ونورًا هاديًا يأخذهم إلى جادة الطريق، ويلقي بهم إلى بر النجاة.

ينظر الناس إليهم فيجدون دينهم فيهم، وخلقهم وآدابهم ماثلة بين أيديهم، وسنة نبيهم حية ناطقة، كأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال حيا بين ظهرانيهم، وأصحابه المهديين يعيشون بينهم، فيطمئنون إلى سلامة المنهج، وصدق التطبيق.

وكانت حلقاتهم في ساحات المسجد منازل للوحي ومجامع للأفئدة، وملجأ للعقول، يتحلق حولهم تلاميذهم ومن يرغب في سماع تفسير آية أو بيان حديث، أو طلب فتوى، ينزلهم الناس من أنفسهم المحل الأسمى، ويقتدون بهديهم كمن يطلب النجاة لنفسه من خطر داهم، ويستقبلونهم بالبشر والترحاب أينما حلوا كما يُستقبل القادة والفاتحون.

المولد والنشأة

في بيت كريم من بيوت بني شيبان في بغداد وُلد أحمد بن حنبل في (ربيع الأول 164هـ = نوفمبر 780م)، وشاء الله ألا يرى الوالد رضيعه؛ فقد توفي قبل مولده، فقامت أمّه برعايته وتنشئته، وحرصت على تربيته كأحسن ما تكون التربية، وعلى تعليمه فروع الثقافة التي كانت سائدة، فحفظ القرآن الكريم، وانكبّ على طلب الحديث في نهم وحب، يسرع الخطى إلى شيخه قبل أن يسفر الصباح؛ حتى يكون أول من يلقاه من تلاميذه، حتى إذا شبّ عن الطوق انتقل إلى حلقة ابي يوسف تلميذ ابي حنيفة النعمان ، وأول من اعتلى منصب قاضي القضاة، وكانت حلقته آية في السمو والرقي، يؤمها طلاب العلم والعلماء والقضاة على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، وقد لزم أحمد بن حنبل حلقة أبي يوسف أربع سنوات، كتب ما سمعه فيها ما يملأ ثلاثة صناديق، كما لزم حلقة “هشيم بن بشير السلمي” شيخ المحدثين في بغداد، ولا يسمع بعالم ينزل بغداد إلا أقبل عليه وتتلمذ له، فسمع من “نعيم بن حماد”، و”عبد الرحمن بن مهدي”، و”عمير بن عبد الله بن خالد”.

رحلاته في طلب العلم


كانت الرحلة في طلب العلم وسماع الحديث من سمات طالبي العلم في هذه الفترة، وكان كبار الفقهاء وشيوخ المحدثين موزعين في أنحاء العالم الإسلامي، لا يختص بهم قطر أو إقليم؛ ولذا كان الطلاب النابهون يقومون بالترحال إليهم، لا يعوقهم عن ذلك قلّة المال أو بُعد المكان.

بدأ أحمد بن حنبل رحلته الميمونة في طلب الحديث سنة (186هـ = 802م) وهو في الثانية والعشرين من عمره، واتجه إلى البصرة، والكوفة والرقّة، واليمن، والحجاز، والتقى بعدد من كبار علماء الأمة وفقهائها العظام، من أمثال: يحيى بن سعيد القطان، وأبي داود الطيالسي، ووكيع بن الجراح، وأبي معاوية الضرير، وسفيان بن عيينة، والشافعي الذي لازمه ابن حنبل وأخذ عنه الفقه والأصول، وكان يقول عنه الإمام الشافعي : “ما رأيت أحدًا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى القرشي.

وكان شغف ابن حنبل بطلب الحديث يجعله يستطيب كل صعب، ويستهين بكل مشقة، لم تمنعه إمامته وعلوّ قدره من الاستمرار في طلبه العلم، ولا يجد حرجًا في أن يقعد مقعد التلميذ بعد أن شهد له شيوخه أو أقرانه بالحفظ والإتقان، يراه بعض معاصريه والمحبرة في يده يسمع ويكتب، فيقول له: “يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين “، فيكون جواب الإمام: “مع المحبرة إلى المقبرة”.

جلوسه للتدريس

كان من تصاريف القدر أن يجلس الإمام أحمد للفتيا والتدريس في بغداد سنة (204هـ – 819م) وهي السنة التي توفي فيها الشافعي فكان خلفًا عظيمًا لسلف عظيم، وكان له حلقتان: واحدة في بيته يقصدها تلاميذه النابهون، وأخرى عامة في المسجد، يؤمها المئات من عامة الناس وطلاب العلم، وتُعقد بعد صلاة العصر، وكان الإمام يهش للذين يكتبون الحديث في مجلسه، ويصف محابرهم بأنها سُرُج الإسلام، ولا يقول حديثًا إلا من كتاب بين يديه، مبالغة في الدقة، وحرصًا على أمانة النقل، وهو المشهود له بأن حافظته قوية واعية، حتى صار مضرب الأمثال.

ولزم الإمامَ عدد من تلاميذه النابهين، نشروا علمه، وحملوا فقهه إلى الآفاق، من أشهرهم: أبو بكر المروزي، وكان مقربًا إلى الإمام، أثيرًا عنده، لعلمه وفضله، وصدقه وأمانته، حتى قال عنه الإمام أحمد: “كل ما قاله على لساني فأنا قلته”، ومن تلاميذه: أبو بكر الأثرم، وإسحاق بن منصور التميمي، وإبراهيم بن إسحاق الحربي، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وبقي بن مخلد.

مذهب الإمام أحمد

لم يدون الإمام أحمد مذهبه الفقهي، ولم يصنف كتابًا في الفقه، أو أملاه على أحد من تلاميذه، بل كان يكره أن يُكتب شيء من آرائه وفتاواه، حتى جاء أبو بكر الخلال المتوفى سنة (311هـ = 923) فقام بمهمة جمع الفقه الحنبلي، وكان تلميذًا لأبي بكر المروزي، وجاب الآفاق يجمع مسائل الإمام أحمد الفقهية وما أفتى به، فتيسرت له منها مجموعة كبيرة لم تتهيأ لغيره، وقام بتصنيفها في كتابه: “الجامع الكبير” في نحو عشرين مجلدًا، وجلس في جامع المهدي، ببغداد يدرّسها تلاميذه، ومن هذه الحلقة المباركة انتشر المذهب الحنبلي، وتناقله الناس مدونًا بعد أن كان روايات مبعثرة.

ثم قام أبو القاسم الخرقي المتوفى سنة (334هـ = 946م) بتخليص ما جمعه أبو بكر الخلّال في كتاب اشتهر بـ”مختصر الخرقي”، تلقاه الناس بالقبول، وعكف عليه فقهاء الحنابلة شرحًا وتعليقًا، حتى كان له أكثر من ثلاثمائة شرح، كان أعظمها وأشهرها “كتاب المغني” لابن قدامة المقدسي المتوفى سنة (620هـ = 1233م)، ولم يكتف مؤلفه فيه بالشرح وإنما تعداه إلى بيان اختلاف الروايات وذكر الأدلة الفقهية، مرجحًا بينها، وصاغ ذلك في عبارة سلسلة دقيقة المعنى.

ثم جاء الإمام إبن تيمية الجد “عبد السلام بن عبد الله” المتوفى سنة (652هـ = 1254م)، فحرر مسائل المذهب، وألّف كتابه “المحرر” في الفقه، ثم تعددت بعد ذلك كتب المذهب وانتشرت بين الناس.

ويجدر بالذكر أن المذهب الحنبلي هو أوسع المذاهب الإسلامية في إطلاق حرية التعاقد، وفي الشروط التي يلتزم بها الطرفان؛ لأن الأصل عند الإمام أحمد هو جعل معاملات الناس على أصل الإباحة حتى يقوم دليل شرعي على التحريم؛ ومن ثمّ كان في الفقه الحنبلي متسع لنظام المعاملات، يمتاز بالسهولة واليسر وتحقيق المصلحة للناس.

محنة الإمام أحمد

كان الإمام أحمد على موعد مع المحنة التي تحملها في شجاعة، ورفض الخضوع والتنازل في القول بمسألة عمّ البلاء بها، وحمل الخليفة المأمون الناس على قبولها قسرًا وقهرًا دون دليل أو بيّنة.

وتفاصيل تلك المحنة أن المأمون أعلن في سنة (218هـ = 833م) دعوته إلى القول بأن القرآن مخلوق كغيره من المخلوقات، وحمل الفقهاء على قبولها، ولو اقتضى ذلك تعريضهم للتعذيب، فامتثلوا؛ خوفًا ورهبًا، وامتنع أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح عن القول بما يطلبه الخليفة، فكُبّلا بالحديد، وبُعث بهما إلى بغداد إلى المأمون الذي كان في طرسوس، لينظر في أمرهما، غير أنه توفي وهما في طريقهما إليه، فأعيدا مكبّلين إلى بغداد.

وفي طريق العودة قضى محمد بن نوح نحبه في مدينة الرقة، بعد أن أوصى رفيقه بقوله: “أنت رجل يُقتدى به، وقد مدّ الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك؛ فاتق الله واثبت لأمر الله”.

وكان الإمام أحمد عند حسن الظن، فلم تلن عزيمته، أو يضعف إيمانه أو تهتز ثقته، فمكث في المسجد عامين وثلث عام، وهو صامد كالرواسي، وحُمل إلى الخليفة المعتصم الذي واصل سيرة أخيه على حمل الناس على القول بخلق القرآن، واتُّخذت معه في حضرة الخليفة وسائل الترغيب والترهيب، ليظفر المجتمعون منه بكلمة واحدة، تؤيدهم فيما يزعمون، يقولون له: ما تقول في القرآن؟ فيجيب: هو كلام الله، فيقولون له: أمخلوق هو؟ فيجيب: هو كلام الله، ولا يزيد على ذلك.

ويبالغ الخليفة في استمالته وترغيبه ليجيبهم إلى مقالتهم، لكنه كان يزداد إصرارًا، فلما أيسوا منه علّقوه من عقبيه، وراحوا يضربونه بالسياط دون أن يستشعر واحد منهم بالخجل وهو يضرب إنسانًا لم يقترف جرمًا أو ينتهك عرضًا أو أصاب ذنبًا، فما بالك وهم يضربون إمامًا فقيهًا ومحدثًا ورعًا، يأتمّ به الناس ويقتدون به، ولم تأخذهم شفقة وهم يتعاقبون على جلد جسد الإمام الواهن بسياطهم الغليطة، حتى أغمي عليه، ثم أُطلق سراحه، وعاد إلى بيته، ثم مُنع من الاجتماع بالناس في عهد الخليفة الواثق (227-232هـ = 841-846م)، لا يخرج من بيته إلا للصلاة، حتى إذا ولي المتوكل الخلافة سنة (232هـ = 846م)، فمنع القول بخلق القرآن، ورد للإمام أحمد اعتباره، فعاد إلى الدرس والتحديث في المسجد.

مؤلفات الإمام أحمد

ترك الإمام أحمد عددًا من المؤلفات يأتي في مقدمتها “المسند”، وهو أكبر دواوين السُّنّة؛ إذ يحوي أربعين ألف حديث، استخلصها من 750 ألف حديث، وشرع في تأليفه بعدما جاوز السادسة والثلاثين.

أما كتبه الأخرى فهي كتاب “الزهد”، وكتاب “السُّنّة”، وكتاب “الصلاة وما يلزم فيها”، وكتاب “الورع والإيمان”، وكتاب “الأشربة”، وكتاب “المسائل”، وكتاب “فضائل الصحابة” وكلها مطبوعة ومتداولة.

وبعد حياة حافلة بجلائل الأعمال توفي الإمام أحمد في (12 من ربيع الآخر 241هـ = 30 من أغسطس 855م) عن سبعة وسبعين عامًا، ودُفن في بغداد » .
 
عودة
أعلى