المجاهد ألب أرسلان.. سلطان السلاجقة

السلاجقة

ملازم
إنضم
22/12/19
المشاركات
98
التفاعلات
468
Sultan_Alp_Arslan1.jpg


نشأت الدولة السلجوقية على يدي”طغرل بك” بعدما نجح السلاجقة في إقامة دولة قوية في خراسان وبلاد ما وراء النهر، وأعلنوا تبعيتهم للخلافة العباسية، ثم توسعت وسيطرت على إيران والعراق، وغدت أكبر قوة في العالم الإسلامي.



“ألب أرسلان” والمشاكل الداخلية:
توفى”طغرل بك” دون أن يترك ولداً يخلفه على سدة الحكم، فشبَّ صراع على الحكم، حسمه ابن أخيه “ألب أرسلان” لصالحه وساعده وزيره “نظام الملك” المعروف بالذكاء والقوة وتنوع الثقافة. وكان “محمد بن جغري بك داود التركماني” الذي عُرف باسم “ألب أرسلان” ومعناها الأسد الباسل باللغة التركية، قائد ماهر وفارس شجاع، نشأ في خراسان حيث كان والده حاكماً عليها، وأسندت إليه قيادة الجيوش في سن مبكرة فأظهر شجاعة نادرة في كل المعارك التي خاضها، وبعد وفاة أبيه تولى إمارة خراسان خلفاً لوالده، وكانت كل هذه السوابق تؤيد حكمه للبلاد.

ولم تسلم الفترة الأولى من عهده من الفتن والثورات سواء من ولاته، أو من بعض أمراء البيت الحاكم، فقضى على فتنة ابن عم أبيه “شهاب الدولة” وكانت فتنة هائلة كادت تقضي على “ألب أرسلان” بعد أن استولى على العاصمة “الري” وأعلن نفسه سلطاناً. وأحبط كذلك محاولة عمه “بيغو” للاستقلال بأحد أقاليم الدولة، وبعد سنوات من العمل الجاد نجح في المحافظة على ممتلكات دولته وتوسيع حدودها ودانت له الأقاليم بالسمع والطاعة، وأخمدت الفتن والثورات، وتصاعد نفوذه حتى قويت دولته مما شجعه على التفكير في تأمين حدود دولته ضد غارات الروم.

فتح بلاد الروم:
اطمأن “أرسلان” إلى جبهته الداخلية المستقرة فبدأ يتطلع إلى ضم المناطق النصرانية المجاورة له؛ بهدف نشر الإسلام فيها، فأعدّ جيشاً بلغ أربعين ألف جندي، وتمكن به من فتح بلاد الأرمن وجورجيا والأجزاء المطلة على بلاد الروم، وكانت لهذه لفتوحات أثرها على قيصر الروم، الذي أدرك أن بلاده معرضة للهجوم، والقتال وشيك لا محالة؛ فخرج على رأس جيش كبير لمواجهة السلاجقة، واستولى على حلب، وكان حاكمها يتبع الخليفة الفاطمي في مصر. فطِن “ألب أرسلان” إلى محاولات القيصر فبعث ابنه “ملكشاه” لاسترداد حلب من الروح وتأمين الأجزاء الشمالية لبلاد الشام، فنجح في مهمته، واستولى على حلب وضم القدس أيضاً، وأجزاء من بلاد الشام.

موقعة ملاذ كرد:

قام “أرسلان” بحملة كبيرة ضد الأقاليم النصرانية المجاورة لحدود دولته، وقاد جيشه نحو جنوب أذريبجان، واتجه غرباً لفتح المناطق المطلة على بلاد البيزنطيين، وانضم إليه أحد أمراء التركمان “طغتكين” الذي كان دائم الغارة على تلك المناطق، وفصل “أرسلان” أثناء زحفه إلى بلاد الكُرج، قوة عسكرية بقيادة ابنه ووزيره هاجمت حصوناً ومدناً بيزنطية، ويبدو أن ملك الكُرج هاله التوغل السلجوقي فهادنهم وصالحهم على دفع الجزية. ونتيجة لهذا أضحى الطريق مفتوحاً أمام السلاجقة للعبور إلى الأناضول بعد أن سيطروا على أرمينية. وبعد أن أدرك الإمبراطور البيزنطي أن “ألب أرسلان” يصبغ غزوه للبلاد بصبغة الجهاد الديني، ويطبع المناطق المفتوحة بالطابع الإسلامي جعل نشوب الحرب بينهم أمراً لا مفر منه.

عرض المصالحة مع ملك الروم:
أرسل السلطان “ألب أرسلان” وفداً إلى إمبراطور الروم، وعرض عليه المصالحة، ولكنه تكبر وطغى ولم يقبل العرض، وقال: (هيهات!! لا هدنة ولا رجوع إلا بعد أن أفعل ببلاد الإسلام ما فُعِل ببلاد الروم)،

فحمي السلطان وشاط، وقال له إمامه ” أبو نصر محمد البخاري”:




استعداد المسلمون للمعركة:
أعد المسلمون العدة للمعركة الفاصلة واجتمع الجيشان يوم الخميس، فلما كان وقت الصلاة يوم الجمعة، صلى السلطان بجنوده ودعا الله وابتهل وبكى وتضرع، وقال لهم:

نحن مع القوم تحت الناقض، وأريد أن أطرح نفسي عليهم في هذه الساعة التي يُدعى فيها لنا وللمسلمين على المنابر، فإما أن أبلغ الغرض وإما أن أمضي شهيداً إلى الجنة، فمَن أحب أن يتبعني منكم فليتبعني، ومَن أحب أن ينصرف فليمضِ مصاحباً، فما هاهنا سلطان يأمر ولا عسكر يؤمر، فإنما أنا اليوم واحد منكم، وغازٍ معكم، فمَن تبعني ووهب نفسه لله تعالى فله الجنة أو الغنيمة، ومَن مضى حقت عليه النار والفضيحة

فقالوا: (مهما فعلت تبعناك فيه وأعناك عليه). فبادر ولبس البياض وتحنط استعداداً للموت، وقال: (إن قُتلت فهذا كفني).
ولما وقع الزحف بين الطرفين، نزل “أرسلان” عن فرسه ومرغ وجهه بالتراب وأظهر الخضوع والبكاء لله تعالى وأكثر من الدعاء، ثم ركب وحمل على الأعداء وصبر المسلمون وصابروا حتى زلزل الله الأعداء وقذف الرعب في قلوبهم، ونصر المسلمين عليهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا منهم جموعاً كبيرة، كان على رأسهم ملك الروم نفسه، وأُحضر إلى السلطان، وقال: ويلك ألم أبعث أطلب منك الهدنة؟ قال: دعني من التوبيخ. قال له السلطان: ما كان عزمك لو ظفرت بي؟ قال: كل قبيح. قال: فما تؤمَّلُ وتظُن بي؟ القتل أو تُشهّرني في بلادك، والثالثة بعيدة العفو وقبول الفداء. قال السلطان: ما عزمت على غيرها. واشترى نفسه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، وأطلق كل أسير مسلم في بلاده، وبعث السلطان مع الملك عدة، وأعطاه نفقة توصله. وأما الروم فبادروا وأخذوا ملك غيره، ولما شعر بزوال ملكه، لبس الصوف وترهب، وجمع ثلاثمائة ألف دينار، وبعث بها.



دور الوزير “نظام الملك”:

ما كان للسلطان “ألب أرسلان” أن يحقق كل هذه الإنجازات بدون جهود وزيره، الذي لم يكن وزيراً لامعاً وسياسياً ماهراً فحسب، بل كان داعياً ومحباً للأدب والعلم، أنشأ المدارس المعروفة باسمه “المدارس النظامية”، وجذب إليها كبار الفقهاء والمحدثين، وفي مقدمتهم حجة الإسلام “أبو حامد الغزالي”.

موت الأسد الثائر:
ارتفع شأن “أرسلان” في الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، وحقق شهرة واسعة هو ووزيره، غير أن السلطان لم يهنأ كثيراً بما حققه، ويواصل فتوحاته، فقد قُتِل بعد عام ونصف من موقعة ملاذ كرد على يد أحد الثائرين عليه، وخلفه ابنه “ملكشاه” صاحب الإنجازات العسكرية والحضارية.

ويُحكى أنه قال لما عاين الموت بعينه:

ما كنت قط في وجه قصدته ولا عدو أردته إلا توكلت على الله في أمري، وطلبت منه نصري، وأما في هذه النوبة، فإني أشرفت من تل عال، فرأيت عسكري في أجمل حال، فقلت في نفسي: أنا ملك الدنيا ما يقدر أحد عليّ، فعجّزني الله تعالى بأضعف خلقه، وأنا استغفر الله، وعلى القادة الحكام أن يستشعروا نعائم الله عليهم ويتذكروا فضله وإحسانه وينسبوا الفضل لله تعالى صاحب المن والإحسان والإكرام

 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
بعد انتصار المسلمين في هذه المعركة ملاذكرد تغيّرت صورة الحياة والحضارة في هذه المنطقة؛ فاصطبغت بالصبغة الإسلامية بعد انحسار النفوذ البيزنطي تدريجيًا عن هذه المنطقة، ودخول سكانها في الإسلام، والتزامهم به في حياتهم وسلوكهم.

وواصل الأتراك السلاجقة غزوهم لمناطق أخرى بعد ملاذكرد، حتى توغلوا في قلب آسيا الصغرى، ففتحوا قونية وآق، ووصلوا إلى كوتاهية، وأسسوا فرعًا لدولة السلاجقة في هذه المنطقة عرف باسم سلاجقة الروم، ظل حكامه يتناوبون الحكم أكثر من قرنين من الزمان بعد انتصار السلاجقة في ملاذكرد، وأصبحت هذه المنطقة جزءًا من بلاد المسلمين إلى يومنا هذا.​

غير أن هزيمة الروم في موقعة ملاذكرد جعلتهم ينصرفون عن هذا الجزء من آسيا الصغرى، ثم عجزوا عن الاحتفاظ ببقية الأجزاء الأخرى أمام غزوات المسلمين الأتراك من السلاجقة والعثمانيين، وقد توالت هذه الغزوات في القرون الثلاثة التالية لموقعة ملاذكرد، وانتهت بالإطاحة بدولة الروم، والاستيلاء على القسطنطينية عاصمتها، واتخاذها عاصمة للدولة العثمانية، وتسميتها بإسلامبول أو إستانبول.
 

لماذا يحتفل الأتراك بمعركة ملاذ كرد؟
==================
(1)​

كانت الإمبراطورية البيزنطية هي أشد القوى السياسية عداء للإسلام وصلابة في مواجهته طوال ثمانية قرون، وكانت عاصمتها القسطنطينية تحتوي على الكنيسة العظمى (أيا صوفيا) التي هي عاصمة المسيحية الأرثوذكسية في كل العالم. وكانت هذه الإمبراطورية هي القوة المسيحية العظمى. للمسيحية تاريخيا عاصمتان كبريان: القسطنطينية وروما.. في الأولى أيا صوفيا، وفي الثانية: الفاتيكان.. وقد كانت بشرى النبي بفتح المسلمين لهما تساوى البشرى بانتصار الإسلام وسيادته على العالم. تحققت البشرى الأولى بعد ثمانية قرون على يد السلطان محمد الفاتح، ولا زال المسلمون ينتظرون نصف الوعد بفتح روما.

لكن الذي يهمنا الآن أن روما في وقت النبي كانت ضعيفة ومفككة، وكانت القوة المسيحية التي تصدت للإسلام وعرقلت انتشاره في أوروبا هي الدولة البيزنطية التي أخفق المسلمون فتح عاصمتها القسطنطينية رغم محاولاتهم الكثيرة المضنية منذ زمن الدولة الأموية وحتى الدولة العثمانية.​


يمكن اختصار التاريخ الطويل المرير بين دولة الإسلام والدولة البيزنطية في ثلاث معارك فارقة: اليرموك، ملاذ كرد، فتح القسطنطينية.
1. معركة اليرموك أدت إلى زوال الوجود الرومي البيزنطي نهائيا من الشام ثم من مصر.

2. معركة ملاذ كرد أدت إلى زوال الوجود الرومي البيزنطي من الأناضول، وصار بإمكان المسلمين أن يشاهدوا كنيسة أيا صوفيا من الطرف الآسيوي.. لذلك تسمى ملاذ كرد بـ "اليرموك الثانية".

3. فتح القسطنطينية هي المعركة الأخيرة التي أزالت الإمبراطورية البيزنطية نفسها وفتحت الطريق أمام انتشار الإسلام في شرق أوروبا والذي وصل إلى فيينا.
بين كل معركة وأخرى أربعة قرون: اليرموك (15 هـ) وملاذ كرد (463 هـ) وفتح القسطنطينية (857 هـ).​

أي أن ملاذ كرد هي المحطة الثانية من ثلاث محطات في انتشار الإسلام وسقوط القوة المسيحية العظمى. ولهذا فهي واحدة من أعظم المعارك في تاريخ الإسلام.​

(2)​

السلاجقة من الجنس التركي، وقد تكونت دولتهم في المشرق ثم قويت حتى استحالت عاصفة كبيرة حكمت خراسان ثم فارس ثم العراق وصارت على حدود الشام


وقعت المعركة في منتصف القرن الخامس الهجري، وكان هذا القرن من قرون الصحوة الإسلامية في المشرق والمغرب. لقد عاشت الأمة الإسلامية القرنَ الرابع الهجري في حال ضعف قوية، وسيطرة شيعية شاملة، فالبويهيون يسيطرون على فارس والعراق، والقرامطة على الجزيرة العربية والشام، والدولة العبيدية الفاطمية الإسماعيلية على مصر والشمال الإفريقي.. ولم ينجُ من هذا الوضع البائس إلا الأندلس والمغرب الأقصى التي كانت تعيش واحدة من أعظم ازدهارها تحت حكم عبد الرحمن الناصر ثم ابنه المستنصر ثم الحاجب المنصور بن أبي عامر.

في القرن الخامس تغير الحال، دخلت الأندلس في عصر ملوك الطوائف وتضعضعت قوتها، بينما نبغ في الشرق الدولة الغزنوية التي فتحت الهند، ثم السلجوقية التي اكتسحت الدولة الشيعية، وفي المغرب نبغت دولة المرابطين التي منعت الأندلس من السقوط وتضعضعت الدولة العبيدية الفاطمية في مصر وزالت عن الشمال الإفريقي.​

ما يهمنا الآن هم السلاجقة: السلاجقة من الجنس التركي، وقد تكونت دولتهم في المشرق ثم قويت حتى استحالت عاصفة كبيرة حكمت خراسان ثم فارس ثم العراق وصارت على حدود الشام.. وأنقذت الخلافة العباسية من الدولة البويهية الشيعية التي سيطرت عليها مدة 113 عاما، وصار طغرل بك (زعيم الدولة) هو الرجل الأقوى في العالم الإسلامي.

في فترات الضعف السابقة كانت الدولة البيزنطية قد استطاعت احتلال الكثير من الأراضي التي فتحها المسلمون في آسيا الصغرى وإرمينية، وصارت تهاجم الشام، ومدنها الكبرى كحلب وأنطاكية وتنفذ مذابح كثيرة في منبج وفي شرق آسيا الصغرى. لما توفي طغرل بك آل السلطان من بعده إلى ابن أخيه ألب أرسلان (تعني بالتركية: الأسد الثائر)، فإذا نظرنا إلى الخريطة السياسية التي سيواجهها ألب أرسلان سيكون الوضع كالآتي:​

1. البيزنطيون صاروا يهاجمون الشام ويستبيحون مدنه.. بينما الدولة العبيدية الفاطمية في مصر قد تضعضت ولا تستطيع الدفاع عن الشام الذي كان تابعا لها، بل على العكس من ذلك يرى الطرفان (العبيديون والبيزنطيون) أن عدوهما القادم هو السلاجقة الذين يحكمون دولة شاسعة تمتد من خراسان حتى الشام ومن حدود أرمينية حتى المحيط الهندي.. وبالفعل كان بين الطرفين تحالف ضد هذا العدو السني القوي القادم.

2. مناطق التنازع والاحتكاك بين هاتين القوتين: في مناطق إرمينية والجزيرة الفراتية.. وكليهما كانتا قبل الآن مناطق إسلامية لكن الضعف الإسلامي في القرون الماضية أدخلهما تحت سلطان أو تهديد البيزنطيين والعبيديين.

ولذلك شهدت هذه المناطق حركتان متوازيتان: ألب أرسلان يفتح مناطق في إرمينية وآسيا الصغرى، وإمبراطور الروم البيزنطيين يهاجم المناطق الجنوبية من آسيا الصغرى ويصل إلى الشام. كان اللقاء حتميا..

300



كان ألب أرسلان في حاجة إلى أمرين معا: أن يجعل جيشه في أقصى طاقته المعنوية والقتالية، وأن يضع خطة عسكرية تكسر التفوق العددي والعُدَدي الهائل بينه وبين الروم

(3)​
جمع إمبراطور الروم حشدا رهيبا يقدر بمائتي ألف مقاتل وخرج به إلى نواحي أرمينية وفي خطته أن يكمل المسير إلى العراق ثم إلى فارس حتى يدمر عاصمة السلاجقة (الري) ومن شديد ثقته بقوته أعطى كل أمير أرضه التي سيتولى عليها في طول هذه البلاد. وكان ألب أرسلان في الطريق بين ديار بكر وحلب فبلغه هذا الحشد الرهيب لإمبراطور الروم.. ولأسباب تختلف المصادر فيها كثيرا لم يكن معه من الجيش في ذلك الوقت إلا خمسة عشر ألفا من الجنود، لكنهم كانوا من نخبته المتميزة.

كان الجيش الرومي يتكون من سائر العناصر العرقية التي تحكمها الإمبراطورية البيزنطية: الروس والكرج واليونان والأرمن فضلا عن الروم فضلا عن أتراك من مجموعات لم تعتنق الإسلام. لم يكن أمام ألب أرسلان في هذا الظرف العصيب الذي لم يستطع فيه حشد الجنود إلا أن يطلب الهدنة.. لكنه لو طلبها من موقع ضعف فلن يُستجاب له بحال، تلك هي قاعدة السياسة والقوة التي يفهمها الجميع.. فلذلك دبَّر أمره لكي يوقع بمقدمة الجيش البيزنطي التي تسبقه بمسافة -وكانت من الروس- ثم يرسل في طلب الهدنة.

وبالفعل، استطاع خوض معركة قوية سحق فيها المقدمة الروسية التي تتكون من عشرين ألف جندي، فحسَّن وضعه التفاوضي، وأرسل سفيره يطلب الهدنة.. لكن الإمبراطور ذي المائتي ألف لم يبال أن هلك له عشرون ألفا، فقال ساخرا: سأرد على هذا العرض حين أصل الري! هنا لم يعد أمام ألب أرسلان إلا الانسحاب ومحاولة الإعداد.. أو الاندفاع في هذه المغامرة المجنونة والتي فيها احتمال هلاك نخبته المكونة من خمسة عشر ألف جندي مرة واحدة!

كان الانسحاب يعني خسارة نتائج الأعوام الماضية من الفتوح في أرمينية وشمال الشام، ويعني انهيار الروح المعنوية لدى الجنود المسلمين، كما يعني مئات آلاف القتلى والجرحى والسبايا في المدن المسلمة.. ويعني تعاظم الروح المعنوية لدى البيزنطيين وازدياد القوى العسكرية بمن سينضم إليهم من بلاد إرمينية والكرج وأذربيجان ونصارى شمال الشام. قرر ألب أرسلان أن يخوض المعركة.. وشجعه على ذلك الفقيه الذي كان في الجيش نصر بن عبد الملك البخاري، قائلا: إنك تقاتل عن دين قد وعد الله بنصره.​

(4)​

كان ألب أرسلان في حاجة إلى أمرين معا: أن يجعل جيشه في أقصى طاقته المعنوية والقتالية، وأن يضع خطة عسكرية تكسر التفوق العددي والعُدَدي الهائل بينه وبين الروم (15 ألفا مقابل 200 ألف). فعلى مستوى الطاقة المعنوية أعلن أنه قد تخلى عن منصبه كسلطان، وقال: ليس هاهنا اليوم سلطان يأمر ولا جُنْد يُؤمر، فمن أراد البقاء للقتال بقي ومن أراد أن يرجع رجع.. وخلع ثوب السلطنة ولبس الثياب البيض (أي: الكفن) وقال: إن قتلت فمن حواصل النسور الغبر إلى حواصل الطير الخضر رمسي، وإن انتصرت فإني أُمْسِي ويومي خير من أمسي.

وعقد يده بذنب خيله (علامة على الثبات وعدم الفرار)، ونزل ومرغ وجهه في التراب وتضرع إلى الله.. وكانت وصية فقيهه أن يؤجل المعركة إلى ساعة الزوال من يوم الجمعة حتى تدركه دعوات المسلمين على المنابر. وكان هو قبل ذلك قد أرسل إلى الخليفة في بغداد يخبره، فأمر الخليفة بعض الفقهاء بوضع دعاء موحد، وزعه على المساجد، وفيه الدعاء لألب أرسلان وجيشه. وكان من البشريات العاجلة أنهم اكتشفوا الجيش البيزنطي وقد حفر خندقا حول معسكره، فعلموا أن هذا دليل على خوفهم وخشيتهم وأنهم لا يتمتعون بما أظهره الإمبراطور من ثقة كاملة في نصره.

وعلى مستوى الخطة العسكرية فإن مجموع ما وصلنا من الروايات التاريخية يؤدي بنا إلى القول بأنها كانت كالآتي:

- كان الهمّ الأول والأكبر لجيش ألب أرسلان منع التطويق، ومن ثم فقد وضع قطعة من جيشه في كمين خلف طريق الجيش البيزنطي ليثخن فيه من الخلف ويشاغله ويعرقله.

- عند لحظة انتشاب القتال سيتحول الجيش كله إلى ما يشبه السهم، ليتحرك حركة سريعة وخاطفة إلى قلب الجيش مباشرة حيث خيمة الإمبراطور نفسه، وبهذا تنقسم مهمة الجيش إلى من يصدون ويشاغلون ويفتحون الطريق، وإلى نخبة أخرى تخترق هذه الصفوف بأقصى ما تملك من سرعة لتصل إلى خيمة الإمبراطور فتقتله وتشيع خبره فينهار الجيش الكبير.

وهو ما كان فعلا.. لم تلبث المعركة كثيرا حتى كان بعض نخبة السلطان ألب أرسلان قد اخترق خيمة الإمبراطور فنزع عن رأسه التاج، ووضعه فوق رمح ونادى بأن الإمبراطور قتل، فيما كان جندي آخر قد جرده من ملابسه الإمبراطورية وسحبه أسيرا.. وما إن انتبه الجيش إلى التاج المرفوع فوق رمح حتى انهار وتفتت وانسحب لا يلوي على شيء. يضطرب كثير من المؤرخين في محاولة وصف أسباب الهزيمة مع وجود هذا الفارق العددي الكبير، ولذلك تتنوع اجتهاداتهم في تحليل ما حدث.

البعض يرفع من عدد جيش المسلمين حتى يوصله إلى خمسين ألفا أو مائة ألف، ويخفض من جيش الروم حتى يوصله إلى مائة ألف.. والبعض يعزو الهزيمة إلى اختلاف أجناس الجيش البيزنطي وعدم اتساقه وانسجامه.. والبعض يذكر خيانة وقعت من بعض القادة غير الروم للإمبراطور الرومي مما أدى لهذه الهزيمة.. والبعض يذكر أن المجموعات التركية التي كانت في جيش الروم تخلت عنه وانحازت لبني قومها الترك وإن لم تكن على دينهم.. والبعض يقول انقلب اتجاه الريح ليصير في وجه الجيش البيزنطي مما ساعد حركة الجيش الإسلامي.

لكن القدر المشترك المتفق عليه بين الروايات، ولا سيما الروايات الإسلامية، هو هذا الفارق الهائل في العدد والعدة، وفي أن المعركة لم تطل وكانت سريعة، وفي أمور تضرع السلطان وحماسة جنده وترتيبه أن تبدأ المعركة لحظة ارتقاء الخطباء المنابر.


300


كانت هذه المعركة هي بداية سكنى الأتراك منطقة الأناضول.. وهي المنطقة التي سيظلون بها أربعة قرون أخرى، حتى إذا انتهت الدولة السلجوقية من هناك كانت الدولة العثمانية قد ولدت

(5)

كانت هذه أعظم نتيجة يحققها جيش إسلامي على جيش بيزنطي، فلم يسبق من قبل أن استطاع الجيش المسلم أسر الإمبراطور، وغاية ما حصل قبل ذلك أن الإمبراطور أصيب كما في معركة ذات الصواري -زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه- أو كان جيشه ينتصر في أوقات الضعف الإسلامية في منطقة شرق آسيا الصغرى وشمال الشام. لهذا لم تكن الصدمة التي نزلت بالروم صدمة عسكرية فقط أدت إلى انهيار الجيش، بل كانت صدمة سياسية أيضا، إذ ترتب عليها صراع في بلاط الحكم حول الإمبراطور القادم.

كانت حالة أرمانوس -الإمبراطور الأسير- مريعة، وقد ظهر منه هذا إلى حد أن السلطان ألب أرسلان قرر أن يُطلقه.. فالذي تلقى صدمة الهزيمة أنفع للمسلمين وهو في الحكم من إمبراطور جديد قد يطلب الثأر.. فالقاعدة أن القيادات المنهزمة المنهارة أفضل لعدوها من القيادات الجديدة الناشئة. رأى ألب أرسلان بفراسته أن أرمانوس هذا لن يفكر مرة أخرى في حرب المسلمين، فقرر إطلاقه، مقابل جزية سنوية (مليون ونصف المليون دينار) وإطلاق كل أسرى المسلمين لدى الروم، وهدنة خمسين سنة.. وقد وافق على هذا كله، ثم نظر ناحية بغداد -حيث الخليفة- وانحنى كعلامة على الخضوع والتعظيم.​

ولما عاد إلى عاصمته كان منبوذا من قومه، ولم يستطع أن يعود إلى ملكه، بل قُبِض عليه وسَمَلوا عينيه لكيلا يصلح للحكم ولكي ينتهي أمله. فكانت ميتته بيد قومه بعد هزيمة ساحقة لم تلق الإمبراطورية البيزنطية مثلها من المسلمين من قبل. لكن النتيجة الأهم التي جعلت لمعركة ملاذ كرد تأثيرها العظيم في التاريخ هو أن قوة الإمبراطورية البيزنطية انتهت تماما من كل أملاكها في الأناضول وبلاد أرمينية.. لقد صارت هذه الأنحاء ضمن نفوذ المسلمين، وتكاثر فيها المسلمون، ودخل كثير من أهاليها في الإسلام.. ولم يخرج الإسلام من تلك المناطق أبدا فيما بعد إلا قبل مائة سنة مع الحرب العالمية الأولى التي انتزعت أرمينية وجورجيا وأذربيجان.​

فكانت هذه المعركة هي بداية سكنى الأتراك منطقة الأناضول.. وهي المنطقة التي سيظلون بها أربعة قرون أخرى، حتى إذا انتهت الدولة السلجوقية من هناك كانت الدولة العثمانية قد ولدت، وهي التي ستستكمل مهمة الفتح حتى تفتح القسطنطينية ثم شرق أوروبا حتى فيينا. لهذا يحتفل الأتراك بهذه المعركة باعتبارها المعركة الفاصلة التي أسكنتهم هذه الأرض وجعلتها قلعة الإسلام قرونا ثم قلعة الخلافة قرونا.

(6)

اتضح بعد هذه الهزيمة أن الدولة البيزنطية بدأت عصر الغروب، ورغم أنها استمرت أربعة قرون بعد هذه اللحظة إلا أن ملاذ كرد قد اضطربت لها الكنائس الغربية التي بدأت تشعر بالارتياع من الزحف الإسلامي إلى أوروبا​
استغربت حين سمعت كلمة دولت بهجلي -رئيس الحزب القومي التركي- كأنها كانت كلمة رئيس حزب إسلامي (إلا قليلا).. وأشد ما لفت نظري في كلمته أنه قال: إن الروم الذين هزمناهم لم ينتهوا بعد، بل إنهم لا زالوا أحياء ولا زالوا يقاتلوننا ولا يزالون يبثون الفتن بين المسلمين. نعم.. إن الغرب لا يزال يتخوف من الأتراك باعتبار أنهم كثيرا ما قلبوا ميزان القوة لصالح المسلمين، ومعركة ملاذ كرد هي واحدة من أهم هذه اللحظات الكبرى الحاسمة!

لقد اتضح بعد هذه الهزيمة أن الدولة البيزنطية بدأت عصر الغروب، ورغم أنها استمرت أربعة قرون بعد هذه اللحظة إلا أن ملاذ كرد قد اضطربت لها الكنائس الغربية التي بدأت تشعر بالارتياع من الزحف الإسلامي إلى أوروبا. لا سيما وأنه لم تمض خمس عشرة سنة على هذه الهزيمة إلا وكان المرابطون يحققون نصرا حاسما آخر في الزلاقة يطيلون به عمر الأندلس أربعة قرون أخرى. إثر هاتين الهزيمتين استيقظت المسيحية الأوروبية وقررت أن تدافع عن المسيحية بنفسها بعد انهيار ثقتها بالحصن البيزنطي الذي يحمي المسيحية من الشرق، وهي الصحوة التي ولدت فيما بعد أشهر حدث في التاريخ: الحروب الصليبية.

من المؤسف أن دولة السلاجقة (وإن بقيت في الأناضول أربعة قرون) إلا أنها دخلت في طور ضعف بعد وفاة السلطان ألب أرسلان ثم ابنه ملكشاه.. واستطاعت الجيوش الصليبية أن تخترق الأناضول وتهزم السلاجقة في منطقة الروم لتستقر في الشام قرنين من الزمان حتى يكون انكسارهم على يد صلاح الدين بعد نحو القرن ثم نهايتهم تماما على يد المماليك بعد نحو قرن آخر.. وتلك الحروب الصليبية كانت لها آثار واسعة ليس هذا مجال بيانها.​

لكن المهم في سياقنا هذا الآن، أن الكتابات الغربية تنظر للأتراك المعاصرين وترى فيهم السلاجقة كما ترى فيهم العثمانيين، وتتخوف من نهضة معاصرة تجدد ملاذ كرد وفتح القسطنطينية مرة أخرى. والتراث الغربي تجاه العثمانيين حافل بما يجعل ذكراهم مرعبة ومثيرة للفزع. هذا شعور الغرب نحو المسلمين جميعا، لكن الخطر الذي يرونه الآن أقرب إليهم هو خطر الأتراك.. وهو الأمر الذي يعرفه أردوغان ويستدعيه ويجدد ذكراه ويثير حماسة الأتراك به، وهكذا تفعل الأمم الناهضة: تحيي تاريخها ولحظات مجدها.

لكن أسوأ ما يحدث هنا أن هذه الظروف تجعل من نصر ملاذ كرد يبدو وكأنه نصر تركي، بينما الحقيقة أنه نصر إسلامي لا شك في ذلك.. فما كان في الزمن القديم معنى القومية العرقية العنصرية التي زرعها فينا الاحتلال وعملاؤه من بعده.. ولذلك، فبقدر ما يحتفل المسلمون في كل مكان بهذا النصر بقدر ما يتحرر النصر من هذه الصبغة القومية الضيقة ليكون نصرا من انتصارات المسلمين ويوما من أيام الله.​
 
كيف شق ألب أرسلان طريقه إلى معركة ملاذكرد؟
=========================


يحكى أن السلطان السلجوقي ألب أرسلان حين عبر أعالي نهر الفرات شرق الأناضول فاتحا لمناطقه، ومسيطرا على تلك الأراضي، قال له أحد كبار الفقهاء: يا مولانا؛ أحمد الله تعالى على ما أنعم به عليك،

فقال ألب ارسلان : وما هذه النعمة؟

فقال الفقيه : هذا النهر لم يقطعه قط تركي إلا مملوك، وأنتم اليوم قد قطعتموه ملوكا،

قال: فمن وقته أرسل لإحضار جماعة من الأمراء والملوك، وأمر ذلك الفقيه بإعادة الحديث، فأعاده، فحمد الله هو وجماعة من حضر عنده حمدا كثيرا على كون الأتراك قد انتقلوا من المملوكية إلى الملوكية[1]!



هكذا ,تعود جذور السلاجقة إلى الأتراك الغُزّ في وسط آسيا، نسبوا إلى جدهم الأكبر سُلجوق بن دقّاق،
وهؤلاء السلاجقة عاشوا أول أمرهم في إقليم تركستان في وسط آسيا، حتى نزحوا صوب بلاد الإسلام على حدود نهر سيحون (سيرداريا) في بلاد ما وراء النهر (قيرغيزستان، كازاخستان، تركمانستان)، وهناك اعتنقوا الإسلام، وبعد وفاة سلجوق رحل السلاجقة إلى إقليم بخارى؛ حيث ظلوا يتبعون الغزنويين تبعية غامضة حتى ثاروا عليهم في نهاية الأمر، واستطاع زعيمهم طغرل بك الاستيلاء على نيسابور عاصمة خراسان سنة 428هـ/1037م، في الوقت الذي كان الغزنويين مشغولين فيه بتمددهم في الهند، وتمكن الزعيم السلجوقي طغرل بك من السيطرة على مناطق الدولة الغزنوية في وسط آسيا، حينها اقتصر نفوذ الغزنويين على أفغانستان[2].

الصراع على العرش السلجوقي
--------



توسعت الأسرة السلجوقية في إيران ووسط آسيا، وانتخبوا طغرل بك زعيما لهم، وهو الذي تمكن من السيطرة على أهم المدن الإيرانية مثل الري (قُرب طهران اليوم)، وأصفهان وغيرها،​

وكانت الخلافة العباسية حينذاك في النصف الأول من القرن الخامس الهجري ترزح تحت وصاية بني بويه وسيطرتهم 2، ذلك أن بني بويه القادمين من شمال إيران، عملوا منذ دخولهم بغداد في القرن الرابع الهجري على الحد من نفوذ العباسيين واحتقار شأنهم، ثم إن اعتناق بني بويه للمذهب الشيعي وتعصبهم لمذهبهم، وإرغامهم السنة في العراق وبغداد على الاشتراك في أعيادهم، كل ذلك أدى إلى انتشار الفتن المذهبية في العراق.2

f9711b7b-86cf-48fb-b4c2-5dae7d03b4f9


السلطان السلجوقي ألب أرسلان


اضطر العباسيون إلى الالتجاء إلى السلاجقة باعتبارهم القوة العسكرية والسنية الأبرز، والاستعانة بهم لمواجهة القوة البويهية التي تخالفهم مذهبا وسياسة، وبالفعل نجح السلاجقة بقيادة طغرل بك في طرد البويهيين من بغداد سنة 447هـ، وبالرغم من فتنة البساسيري القائد العباسي والتركي الأصل الذي تحالف مع الفاطميين في مصر ضد العباسيين فإن هذه الحركة الانقلابية لم تتعد عدة أشهر تمكن فيها طغرل بك من إعادة الوضع إلى مساره الصحيح في ذي الحجة سنة 451هـ/1059م[3].


ومنذ ذلك الحين والسلطان السلجوقي طغرل بك هو المتحكم الأول والأخير في العراق، حتى في ممتلكات الخليفة الخاصة، بل تعدى ذلك إلى طلب مصاهرة الخليفة العباسي القائم بأمر الله وبالفعل تمت هذه المصاهرة التي لم تدم طويلا، حيث توفي طغرل بك في رمضان سنة 455هـ/1063م بعد أن تمكن السلاجقة في عهده من السيطرة على العراق وإيران[4].


b3bced50-4121-40b3-95ea-98a2ec8a000f



كانت وفاة طغرل بك دون أن يكون له ولد يرث عرشه سببا لاشتعال النزاع بين السلاجقة، فقد سبقه في الوفاة أخوه الأكبر طغري في ولاية خراسان، وخلف طغري ابنه ألب أرسلان في زعامة تلك المنطقة، وتطلع ألب أرسلان إلى الاستيلاء على عرش عمه طغرل بك فهو الابن الأكبر للأخ الأكبر للسلاجقة5، وكان يعاونه على هذه الرؤية وزيره أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي الوزير الشهير المعروف بنظام الملك[5].


على أن ألب أرسلان دخل في نزاع مع وزير عمه طغرل بك أبي نصر الكندري الذي أراد الأخ الأصغر غير الشقيق لألب أرسلان واسمه سليمان في الحكم ليتحكّم من خلاله في الدولة، الأمر الذي جعل ألب أرسلان يسرع في السير من خراسان إلى عاصمة السلاجقة الري للسيطرة عليها، ويجبر الوزير الكندري وأخيه الطفل سليمان على مبايعته سلطانا للسلاجقة، لكن ثائرا جديدا من السلاجقة هو قتلمش بن إسرائيل السلجوقي خرج على طاعة ألب أرسلان، معلنا نفسه سلطانا لأنه بمثابة عمه، وهكذا التحم الفريقان في معركة قُرب الري تم الظفر فيها لألب أرسلان، وانتهى الأمر بمقتل قتلمش في محرم سنة 456هـ/1063م[6].


ولم يكد الأمر يستتب لألب أرسلان حتى فوجئ بفتنة أخرى قادها هذه المرة عمه بيغو أكبر السلاجقة سنا والي هراة (في أفغانستان)، الذي عز عليه أن يكون تابعا لابن أخيه، فرفع عليه العصيان، ولكن ألب أرسلان سار إليه بجيش، وقاتله قرب هراة، وقيل حاصره في عام 457هـ، وانتصر عليه انتصارا حاسما، ليعود عمه إلى طاعته مرة أخرى([7]). هكذا,استطاع ألب أرسلان القضاء على كافة الحركات المسلحة والمتمردة من أقربائه وغيرهم، فاستتب له الأمر، وتوطد سلطانه، وذكر اسمه في الخطبة في جميع البلاد التي خضعت لسلطانه، وأقطع البلاد للأمراء، وبدأ يعمل على التمكين لدولته المترامية الأطراف، بل والعمل على زيادة رقعتها([8]).


لكن، لم يكن ألب أرسلان قد تحصل على تفويض بالسلطنة من الخليفة العباسي القائم بأمر الله، ولم يرد أن ينال هذا التفويض بالقهر كما فعل عمه طغرل بك الذي تزوج ابنة الخليفة العباسي دون رضا من أبيها، ومن ثم قد أمر ابنة الخليفة "بالعود من الرّيّ إلى بغداد، وبعث في خدمتها أميرا ورئيسا"([9])، حيث أنتهج ألب أرسلان سياسة جديدة ، وهي سياسة المهادنة مع الخليفة العباسي والتحالف معه، وإعلان احترامه أمام الكافة.


300




يتضح من تحركات الجيوش السلجوقية في بلاد الشام أنها كانت تهدف إلى ضرب القوى المناوئة لها وعلى رأسها الدولة الفاطمية، لتأمين ظهورهم قبل أي مواجهة محتملة مع البيزنطيين



فكانت ردة فعل الخليفة تجاه هذه السياسة الجديدة التي تتسم بالاحترام أن أمر بمبايعة ألب أرسلان وقبوله سلطانا جديدا للسلاجقة،

يقول ابن الجوزي: "وتقدّم (الخليفة) إلى الخطباء بإقامة الدعوة، فقيل في الدعاء: اللَّهمّ أصلح السلطان المعظّم عضد الدولة وتاج الملة أبا شجاع ألب أرسلان محمد بن داود"[10]. في المقابل وافق السلطان ألب أرسلان ولبس الخلعة أو الملابس الخاصة التي كانت ترسلها الدولة العباسية للسلاطين والملوك، وبايع للخليفة العباسي ([11]) وكان هذا التقليد أثناء حرب ألب أرسلان لعمه سليمان السلجوقي.


التوسع السلجوقي في أرمينية وأذربيجان
------​


أما سياسة السلطان ألب أرسلان فكانت ذات استراتيجية واضحة المعالم تمثلت هذه الاستراتيجية في ثلاثة محاور بارزة، أولها تصفير المشاكل السياسية مع الدولة العباسية صاحبة الشرعية الدينية والسياسية في العالم الإسلامي، وثانيا نشر الثقافة المعرفية التي ترسخ من الوجود السلجوقي دينيا وثقافيا، وثالثا تحويل فائض القوة العسكرية السلجوقية إلى الخارج، وتوسيع رقعة الدولة ونشر الإسلام في الممالك والمناطق المتاخمة للدولة الإسلامية شمالا وغربا لاسيما بلاد الأرمن والروم (الأناضول)؛ الأمر الذي أكسب السلاجقة وحروبهم صبغة وطابع الجهاد الديني([12]).


وهذا ما يعنون له ابن الأثير في تاريخه بقوله: "ذكر فتح ألب أرسلان مدينة آني وغيرها من البلاد النصرانية " ويسرد مجموعة من المشاهد والقصص التي تدلل على كون الجهاد السلجوقي كان استراتيجية واضحة المعالم آنئذ.


64e8cdb4-b7cc-4b21-9946-84fadb1cc095


فيقول ابن الأثير: " سار السلطان من الرّي (عاصمة السلاجقة قرب طهران اليوم) إلى أذربيجان عازمًا على قتال الروم وغزوهم، فلما كان بمرند بأذربيجان أتاه أمير من أمراء التركمان كان يُكثر غزو الروم اسمه طغدكين ومعه من عشيرته خلق كثير قد ألفوا الجهاد، وعرفوا تلك البلاد، وحثّه على قصد بلادهم، وضمِن له سلوك الطريق المستقيم إليها، فسلك بالعساكر في مضايق تلك الأرض ومخارمها"([13].


وهذا الخبر يؤكد أن التوسع السلجوقي لم يتوقف عند أذربيجان وإنما طال منطقة آني وقرس وهما العاصمتان القديمتان لأرمينية والمركزان الأساسيان لقوة البيزنطيين ونفوذهم في الأقاليم الشمالية الشرقية من آسيا الصغرى والأناضول[14]. ولم تتوقف استراتيجية السلاجقة على فتح مناطق الدولة الرومية البيزنطية في بلاد الأناضول، وإنما امتدت في أقصى الشرق في وسط آسيا، ففي سنة 457هـ سار ألب أرسلان إلى مدينة "جنَد" معقل الأسرة السلجوقية وهي بالقرب من بخارى في وسط آسيا، فاستقبله أميرها وهاداه، ودان إليه حكمها، وكانت هذه المدينة ذات أهمية خاصة عند السلاجقة قبيل قيام دولتهم لأن الجد الأكبر للسلاجقة مدفون بها([15]).


وبهذا ثبّت ألب أرسلان أركان دولته في المناطق المضطربة من وسط وغرب القارة الآسيوية، في إيران والعراق وأذربيجان، وفي بخارى وبلاد ما وراء النهر، وكانت الخطوة التالية الاتجاه صوب بلاد الشام التي كانت تُحكم مِن قبل الغريم والعدو التقليدي للعباسيين!لكن لماذا اتجه ألب أرسلان للشام؟


لماذا سيطر ألب أرسلان على الشام؟
--------------------​


كانت الشام قد سقطت في يد الفاطميين القادمين من المغرب، حكام مصر منذ النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، وحين قويت الدولة السلجوقية في العراق وإيران ووسط آسيا، وبدأت قوتها في التمدد شمالا تجاه بلاد أرمينية وأذربيجان وجنوب القوقاز فضلا عن مناطق شرق الأناضول، اضطر حكام مناطق شمال الشام المتاخمة لهذا الصراع الإقليمي بين البيزنطيين والسلاجقة إلى الانسحاب من المعسكر الفاطمي الذي كانت قبضته تضعف شيئا فشيئًا.

7e1eaf0d-5e2a-483d-873f-a02ea3f2e312




وأهم مناطق شمال الشام التي سعى السلاجقة لتأكيد سيطرتهم عليها، منطقة حلب التي كانت تُحكم من قبل الأسرة المرداسية منذ سنة 414هـ، وهي أسرة دانت بالمذهب الشيعي، والسياسي للفاطميين، وحين رأى حاكمها محمود بن مرداس الكلابي أن الكفة تميل لصالح السلاجقة والدولة العباسية، دعا إلى اجتماع عاجل لكبار رجال الحكم والسياسة في حلب، خاصة بعد تجرؤ الإمبراطور البيزنطي رومانوس ديوجينيس على مهاجمة مدينة منبج الحدودية شمال بلاد الشام مع الدولة البيزنطية، ونهبها والاستيلاء عليها لبعض الوقت في سنة 462ه/1070م[16].


حيث يقول ابن الأثير: "في هذه السنة (463هـ) خطب محمود بن صالح بن مِرداس بحلب لأمير المؤمنين القائم بأمر الله العباسي والسلطان ألب أرسلان؛ وسبب ذلك أنه رأى إقبال دولة السلطان وقوتها وانتشار دعوتها، فجمع أهل حلب وقال: هذه دولة جديدة ومملكة شديدة، ونحن تحت الخوف منهم، وهم يستحلّون دماءكم لأجل مذاهبكم، وأرى أن نقيم الخطبة قبل أن يأتي وقت لا ينفعنا فيه قول ولا بذل، فأجاب المشايخ ذلك"([17]).


بيد أن حادثة تجرؤ البيزنطيين على اقتحام بلاد الشام في سنة462هـ كان لها أثرها الكبير في السياسة السلجوقية، حيث أحس السلطان ألب أرسلان أن الخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية معرضتان للخطر إن اتحد البيزنطيون شمالا والفاطميون جنوبا(17)، خاصة وأن دخول البيزنطيين لمنبج لم يجد سوى مقاومة ضعيفة من المرداسيين والكلابيين المسيطرين على هذه البلاد.


يقول ابن الأثير: "في هذه السنة أقبل ملك الروم من القسطنطينية في عسكر كثيف إلى الشام، ونزل على مدينة منبج ونهبها وقتل أهلها، وهزم محمود بن صالح بن مرداس وبني كلاب وابن حسان الطائي ومن معهما من جموع العرب، ثم إن ملك الروم ارتحل وعاد إلى بلاده ولم يمكنه المقام لشدة الجوع»([18]).



لم يكتفِ ألب أرسلان بضم حلب إلى الدولة السلجوقية، بل أرسل في ذات العام 463هـ/1071م أحد معاونيه العسكريين وهو الأمير أتسز بن أوق الخوارزمي على رأس قوة عسكرية لتأمين مناطق جنوب الشام في فلسطين الحد الفاصل بين الفاطميين وبين عمق بلاد الشام وشماله، وبالفعل تمكن أتسز من ضم مدينة الرملة وبيت المقدس وما جاورها من بلاد ما عدا عسقلان مفتاح الطرق المؤدية إلى مصر، ثم أراد أن يضم أهم مدينة في بلاد الشام وهي دمشق ولم يتم له ذلك لحصانتها وقوتها([19]).

حيث يتضح من تحركات الجيوش السلجوقية في بلاد الشام أنها كانت تهدف إلى ضرب القوى المناوئة لها وعلى رأسها الدولة الفاطمية العدو التقليدي والشرس للعباسيين والسلاجقة على السواء، وذلك لتأمين ظهورهم قبل أي مواجهة محتملة مع البيزنطيين([20]).

على أن ألب أرسلان أراد أن يتأكد من صحة طاعة المرداسيين في حلب للسلاجقة، وذلك بتغيير سياستهم الدينية والثقافية في المدينة للمذهب السني، لكن هذا الأمر لم يقبله محمود المرداسي، فحاصر السلطان السلجوقي حلب، وحين اشتد الحصار، و"عظُم الأمر على محمود خرج ليلا ومعه والدته منيعة بنت وثّاب النميري فدخلا على السلطان وقالت له: هذا ولدي فافعل به ما تُحب. فتلقّاهما بالجميل وخلَع (أهداه) على محمود وأعاده إلى بلده فأنفذ إلى السلطان مالًا جزيلًا»([21]).

وهكذا تمكن السلطان ألب أرسلان من السيطرة على مناطق واسعة من بلاد الشام فضلا عن العراق وأذربيجان وأرمينية الكبرى، وهذه الجهات كانت بمثابة الطوق الذي يُحيط ويخنق الدولة البيزنطية، الأمر الذي رآه الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع تحديًا يجب مواجهته سريعا، وهو ما نتج عنه المعركة الأشهر والتي غيرت من تاريخ العصر الوسيط .. "ملاذكرد".


المصادر
 
شكرا لك أخ سلاجقة على هذه المشاركة التاريخية القيمة و تقبل تحياتي
 
عودة
أعلى