الـتـسـلّـح مـابـيـن الـطـمـوحـات والإمـكـانـيـات

عــمــر الـمـخــتــار

رئاسة الأركان العامة للجيش الليبي
عضو قيادي
إنضم
14/5/19
المشاركات
5,688
التفاعلات
30,129
بسم الله الرحمن الرحيم
1443/9/27 - 2022/4/28

12430636_0_46_1200_800_1400x0_80_0_0_22a0b24c2087acf89dde6d9ea961d7db.jpg


ما من شك أن لكل دولة سياسة وغايات تنبثق عنها أهداف، الغرض منها في الأساس هو تأمين مصالحها القومية وتطلعات شعبها، وتضمن بذلك تحقيق طموحاتها سواء كانت تلك الطموحات مشروعة وعادلة أم كانت غير مشروعة وعدوانية، فمهما كانت تلك التطلعات والأهداف فإن تحقيقها يبقى مرهوناً بقوة الدولة في كافة الأصعدة والمستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية أي بمعنى قوة الحق في مواجهة حق القوة. ويتجسد إعداد القدرات العسكرية في امتلاك قوات مسلحة كاملة الجاهزية وقادرة على ردع الخصوم، ليتحقق للدولة ما تصبو إليه من تسخير القوى البشرية والمادية والفكرية في سبيل بناء قوة دفاعية فاعلة وتسخير ما تحصل عليه من معونات لتأخذ شكل وحدات مقاتلة ومدربة أو أسلحة و تدريب أو على شكل دعم لوجستي.

ومن المسلّم به أيضاً أن بناء القوات المسلحة والحفاظ على جاهزيتها أمر بالغ التعقيد؛ ذلك لاعتماد هذا الأمر على عدة عوامل منها عوامل مادية وعوامل فنية وعوامل بشرية وعسكرية، وحتى دون تفكير في الدخول في الحرب فإن توقعها والاستعداد لها لا يقل تكلفة عن وقوعها في عالم يسوده عدم الأمان والتنافس والصراع. ومن جهة أخرى فإن أية أمة ومهما كانت الأخطار التي تهددها لا تستطيع دون الإضرار بنفسها أن تخصص للجهد العسكري إلا نسبة محدودة من مواردها الاقتصادية، وإذا تجاوزت متطلباتها بأي مبرر فإنها حتما سوف تلحق بنفسها خطراً شديداً، ومن ثم يكون انهيارها محققاً لأسباب في مجملها تكون داخلية لا خارجية، والأمثلة على ذلك كثيرة لو رجعنا لصفحات التاريخ ..

إن مجرد التفكير العلمي المنهجي في عملية التسلح سوف يقودنا لا محالة إلى التفكير الدقيق المتمعن الذي ينطلق من ركائز رئيسة لا يمكن تجاهلها أو التغاضي عنها، وهذه الركائز هي:

- الهدف


- الخطة

- الإمكانات

تشارك في إعداد هذه الركائز هيئات عليا للدولة ذات اختصاصات دقيقة تضم خبراء عسكريين و خبراء في المجالات المدنية تشمل الاقتصاد والسياسة والصناعة والقانون والتخصصات الاستراتيجية والتقنية بحيث تكون المهمة الرئيسية لهم بالدرجة الأولى وضع الخطة التي منها يتم التوافق ما بين ما هو ضروري في المرحلة الحالية والمستقبلية من جهة والإمكانيات المتاحة والمتوقعة من جهة أخرى، وبذلك تبرمج آلية مراحل الحصول على الأسلحة واستيعابها، هذا الأمر حتماً سوف يقود إلى نوع من التضارب والاختلاف ما بين وجهات نظر تلك الهيئات والجهات، وهذا أمر طبيعي بالفعل؛ فالدور الرئيس للخبراء العسكريين عند وضع سياسة التسليح تتمحور حول مسائل فنية صرفة أي بمعنى أن التركيز ينصب على امتلاك القوة العسكرية اللازمة لتحقيق تلك الأهداف وتأمين متطلبات بناء التشكيلات المقاتلة ورفع مستوى قدراتها وجاهزيتها وضمان إعدادها لخوض الأعمال القتالية المتوقعة والحفاظ على زخمها القتالي، وكذلك يدرس الخبراء العسكريون في الوقت نفسه الإمكانات الاقتصادية والبشرية بيد أن دراستهم هذه لا تستهدف سوى التحقق من أن الإمكانات المتاحة متناسبة مع أهداف سياسة التسلح كافية ولبناء القوات المسلحة القادرة على تنفيذها أي بمعنى أن الإمكانيات المتاحة قادرة على تلبية تلك الأهداف .

أما الخبراء المدنيون بكافة تخصصاتهم وخاصة رجال الاقتصاد والسياسة فإن الدور الرئيس لهم يتمثل في مناقشة أهداف سياسة التسلح أي مناقشة حاجات الدولة لامتلاك قوة مسلحة من حجم معين، كما تشمل الدراسة إمكانات تأمين الموارد المادية والتكنلوجية الصناعية والبشرية اللازمة لبناء تلك القوة والانعكاسات السلبية أو الإيجابية الناجمة عن جهود التسليح وتأثيرها على أوضاع الدولة الاقتصادية والمالية والسياسية.

خلاصة الأمر أن هناك تكاملاً بين دور الخبراء العسكريين ودور الخبراء الآخرين، وقد ينتج في كثير من الأحيان تضارب في الرؤى كما ذكرنا سلفاً يبدو ذلك في رغبة العسكريين في الحصول على أفضل الأسلحة والمعدات في أقصر وقت ممكن، ورغبة الخبراء الآخرين في ملاءمة تلك المطالب العسكرية مع المستوى الذي تسمح به القدرات المتاحة الاقتصادية والعلمية والانعكاسات المتوقعة، فعلى سبيل المثال قد يرغب العسكريون في اقتناء معدات متطورة بالغة التعقيد باهظة الثمن كما هو موجود بالأسواق العالمية حالياً، ولكنها تحقق نتائج حاسمة في المعركة، فتصدم هذه الرغبات بعدم قدرة الصناعة الوطنية على إنتاج تلك المعدات ووجود عقبات مادية أو فنية تحول دون الحصول عليها من دول أخرى أو عدم وجود قاعدة علمية متقدمة في استيعاب تلك المعدات المتطورة وصيانتها، وأحياناً قد تصطدم رغبات العسكريين في اقتناء أعداد كبيرة من المعدات بغلاء ثمنها أو بعد فترة تسليمها فيحول ذلك دون إتمام الصفقة.

ولكن وفي كل الأحوال فإن إعداد الدراسة الخاصة بسياسة التسلح تخضع لعديد من العوامل قد تتباين وتختلف في طبيعة تأثيرها، وبذلك تؤثر في بناء تلك السياسة، فهناك من العوامل ما يتعلق بالدول المتقدمة صناعياً، ومنها ما يتعلق بالدول النامية، ومنها ما يؤثر على كلتيها على حد سواء بنسب قد تكون متساوية أو متباينة، وأهم هذه العوامل هي:

العامل الأول: العدو المحتمل (الخصم)

إلى حد كبير يتساوى (عامل العدو المحتمل) عند دراسة سياسة التسلح بالنسبة إلى كافة الدول، ويقع عبء دراسة هذا العامل على عاتق العسكريين والمدنيين على حد سواء دون استثناء. وتأتي أهمية هذا العامل من أن قيام أي دولة ببناء قواتها المسلحة لا يتم انطلاقاً من قواعد نظرية بحتة، بل يستند على تصور ملموس لمهامها وأهدافها وحجم القوى المعادية التي سوف تواجهها. ويشمل هذا العامل نوع الخصم واستراتيجيته، وحجم قواته، ومستوى تجهيزه، وماهية أساليب القتال التي يستخدمها، ومدى تقدمه العلمي والتكنلوجي، ومستوى إنتاجه الصناعي الحربي الحالي والمستقبلي على الصعيدين الكمي والنوعي، ومدى علاقته بالسياسة الخارجية التي تسمح له باستيراد أسلحة ومعدات متطورة من الدول التي تدعمه، وقدرة قواته على استيعاب تلك الأسلحة والمعدات وصيانتها، والفترة الزمنية اللازمة للاستلام و الاستيعاب.

العامل الثاني: (مسرح العمليات القتالية)

يؤثر هذا العامل عند تحديد سياسة التسليح في الدول كلها بنسب متساوية، وهو من اختصاص الخبراء العسكريين والخبراء المدنيين المعنيين بمسائل الجغرافيا والطبوغرافيا والإرصاد الجوي، وتأتي أهمية هذا العامل من تأثر نشاطات القوات المسلحة بطبيعة مسرح القتال وموقعه؛ وذلك بسبب العلاقة الوطيدة التي تربط السلاح بالمحيط الذي حوله؛ لذا فإن تأمين استخدام السلاح المناسب في الوسط المناسب من أجل تحقيق أقصى مردود يفرض على سياسة التسلح اختيار الأسلحة والمعدات انطلاقاً من المعطيات الآتية: (طبيعة مسارح القتال، سعة مسارح القتال، المناخ العام الذي يسود مسارح القتال، بعد مسارح القتال عن مناطق التحشد).

العامل الثالث: (الإستراتيجية العسكرية للدولة)

وينصب عبء دراسة هذا العامل على عاتق الخبراء العسكريين، وذلك بتحديد نوع السلاح واختيار المعدات التي تحقق أهداف الدولة والتي بنت عليها استراتيجيتها في ذلك، فأحياناً تتبنى الدولة استراتيجية دفاعية، فيتطلب الأمر أسلحة ومعدات قادرة على صد الهجوم والرد عليه بضربات مضادة، أما إذا كانت الاستراتيجية المتبناة استراتيجية هجومية فإن ذلك يتطلب أسلحة ومعدات تمتلك القوة النارية والقدرة على الاختراق والمناورة والاندفاع في العمق.

العامل الرابع: (القوات المسلحة)

دراسة هذا العامل تدخل ضمن اختصاصات العسكريين سواء أكان الهدف منه بناء القوات المسلحة أو إعادة بنائها أو تحديثها وجعلها في مستوى يتناسب مع طبيعة الأخطار المحتملة، وعند دراسة هذا العامل لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل مجموعة من المعطيات:

ــ في وقت السلم يجب دراسة المعطيات الآتية: (حجم القوات المسلحة، تنظيمها، نشاطاتها، تدريباتها، وما ينجم من استهلاك للأسلحة والمعدات والذخائر).

ــ في حالة إعلان حالة التعبئة العامة أو الجزئية يجب دراسة المعطيات الآتية: (حجم القوات المسلحة عند إعلان التعبئة العامة أو الجزئية، وكميات الأسلحة والذخائر المخزونة لصالح القوات الاحتياطية التي ستتشكل عند التعبئة أو حال اندلاع الحرب، جاهزية الأسلحة والمعدات من الناحية الفنية والسنوات المتبقية من عمرها، العقيدة العسكرية وأساليب الخصم في القتال وتأثيرها على توازن الأسلحة داخل التشكيلات القتالية وانعكاسها على وتيرة وحجم استهلاك الأسلحة والمعدات والذخائر وقطع الغيار أبان القتال الحقيقي وحجم المخزون الذي ينبغي على سياسة التسليح تأمينه علماً بأن الحسابات الخاصة بتحديد المخزون لا تعتمد على الأشكال التي دارت بها حرب الأمس ومعدلات حجم وتيرة الاستهلاك فيها، بل تعتمد على أشكال متوقعة لحرب الغد أو في مراحلها الأولى على الأقل والمعدلات المنتظرة لحجم الاستهلاك ووتيرته..)

العامل الخامس (القاعدة الصناعية):

يقع تحديد هذا العامل من قبل الاختصاصيين في مجال الصناعة ومراكز الأبحاث العلمية والتقنية، ويأخذ تأثيره الأعلى عند الإعداد لدراسة سياسة التسليح في الدول الصناعية المنتجة للأسلحة والقادرة في الوقت نفسه على صيانتها وتحديثها بوسائط ذاتية، ويتعلق تأثيرها بالأمور التالية:

*مدى التطور في الصناعة المحلية الخفيفة والثقيلة ومدى تقدمها التكنلوجي.


* مستوى تأهيل القوى البشرية العاملة ومدى قدرتها على التحول للإنتاج الحربي.

* مرونة الصناعة الوطنية وإمكانية تحول فروعها الأساسية من الإنتاج المدني إلى العسكري.

*مدى توافر المواد الأولية للصناعة بشكل عام وللصناعات الحربية تحديداً في أراضي الدولة أو في الدول الحليفة، ومدى توفر المخزون من المعادن الثمينة التي تدخل في صناعة الأسلحة.

* قدرة الصناعة الحربية على تنفيد سياسة التسليح، وإنتاج الأسلحة والمعدات المطلوبة ضمن المهل المحددة وبالمواصفات المطلوبة، ونجاح التدابير المتخذة للاستمرار في الإنتاج بوتيرة متصاعدة في وقت الحرب.


العامل السادس: (وضع الدولة الاقتصادي و السياسي)

من الطبيعي أن هذا العامل ومكوناته يخرج من اختصاصات العسكريين، ويدخل ضمن اختصاصات رجال السياسة والاقتصاد؛ ذلك لعدة أسباب، من أهمها أن ما تتميز به الأسلحة والمعدات الحديثة في هذا العصر هو التطور والتعقيد وارتفاع تكلفة تصنيعه أو اقتنائه، ناهيك عن ضرورات تحديثه بشكل دوري بحيث يتوافق مع أحدث الاختراعات والمبتكرات العلمية؛ ليكون في المستوى المناسب لمواجهة الخصم؛ وبسبب هذه الخصائص تصبح طموحات التسلح مرهونة باقتصاد الدولة، فهل باستطاعة الدولة تحمل نفقات الدفاع والتسليح المتصاعدة، بل تحمل قدرتها انعكاسات تلك النفقات على النمو الاقتصادي للدولة، علاوة على ذلك فإن ذلك مرهون بالمبالغ التي تستطيع الدولة اقتطاعها من الدخل القومي العام لأغراض الدفاع على حساب قطاعات أخرى مثل التعليم والصحة، وما سبق كذلك مرهون بقدرة الدولة على تحمل الانعكاسات الاجتماعية الناشئة عن تلك الاقتطاعات واستيعاب تأثيراتها السلبية؟

العامل السابع: (التحالف في المجال العسكري)

يقع عبء تحديد هذا العامل على السياسيين انطلاقاً من أن سياسة التسليح في الدول المتقدة في مجال الصناعات العسكرية تتأثر بصورة إيجابية أو سلبية بالدول التي بحوزتها وتمتلك المعادن الثمينة اللازمة للصناعات الحربية، أو تسيطر على احتكارات تلك المعادن، كما تتأثر بمستوى تحالفاتها السياسية مع الدول الصناعية و بإمكانية ترجمة تلك التحالفات إلى مشروعات صناعية عسكرية مشتركة أو أجهزة ومعدات فرعية تدخل في تركيب أنظمة التسليح المنتجة محلياً، أما الدول النامية فإن طبيعة علاقاتها السياسية مع دولة صناعية أو أكثر تؤثر على سياستها التسليحية بأشكال متعددة منها على سبيل المثال:

* إمكانية الحصول على أسلحة شديدة التطور، وتسهيل تدريب الكوادر والعناصر على استخدامها وصيانتها وإصلاحها.


* إمكانية استخدام المبادلة بالمواد الأولية عند دفع ثمن الأسلحة.

* احتمالية الحصول على الأسلحة مجاناً (مساعدات عسكرية).

* إمكانية الحصول على تسهيلات تتعلق بدفع أثمان صفقات الأسلحة قد تصل إلى فترة 50 سنة من دون فوائد أو بفائدة رمزية.

* إمكانية الحصول على دعم لوجستي يؤدي من بعد إلى خفض أعباء التسلح نوعاً ما.

* مدى قدرة الدولة على إقامة تعاون أمنى واستخباراتي وتبادل المعلومات.


* قيام دولة أو عدة دول بدعم الصناعات العسكرية الوطنية، وذلك عن طريق تقديم الخبرات الفنية والتقنية والموارد المادية اللازمة لهذه الصناعات أو من خلال التعاون المشترك، أو عن طريق منح تراخيص وامتيازات التصنيع.


إن العوامل سالفة الذكر تدل على أن تأثيراتها متشابكة دائماً ومتناقضة في معظم الحالات، وهي تؤثر حتماً في صانعي القرار المعنيين بدراسة سياسة التسلح، وخاصة في الدول النامية التي لا تمتلك صناعات عسكرية متطورة، ولا تتمتع باقتصاد قوي، وليست لها قاعدة علمية وتكنلوجية، وغير داخلة في كيانات تحالف مع دول أخرى، إلا أنه ومهما تكن طبيعة تلك العوامل وتأثيراتها وعلاقات الوفاق والتناقض بين كافة الهيئات المعنية بدراسة التسلح فإن دراسة سياسة التسلح وفق منهج علمي وواقعي بعيداً عن العشوائية والارتجالية تشكل حلاً وسطاً يجمع بين الطموحات والإمكانات.







مقدم بحار/ نور الدين محمد الغاوي
almusallh.ly









 
عودة
أعلى