العالم المجاهد محمد أمين الشنقيطي / د. محمد موسى الشريف

Nabil

التحالف يجمعنا
مستشار المنتدى
إنضم
4/5/19
المشاركات
10,850
التفاعلات
19,867
العالم المجاهد محمد أمين الشنقيطي
(1876ـ 1932 م) (1293 - 1351 هـ)

الدكتور محمد موسى الشريف



لقد كان لعلماء شنقيط صولات وجولات في العلم لكن ربما لأن قطرهم بعيد جداً فقد سقطوا من ذاكرة الأمة، هذا وفيهم جهابذة كبار، وحالهم هذا يشبه حال أهل اليمن، وقد ذكر الشوكاني أن علمـاء اليمن -على عظمتهم- قَلّ من يعرفهم في مصر والشام والعراق، وهذا لبعد بلادهم وعزلتهم فيها، فإن كان هذا حال اليمن فكيف يكون حال شنقيط إذن؟

ولد الشيخ محمد في موريتانيا، ونشأ في طلب العلم وحفظ القرآن العظيم والمنظومات العلمية كما ينشأ طلاب العلم في بلده لكنه توسع في دراسة الأدب والشعر الذي كان سائداً في المنطقة آنذاك، ولما بلغ من العمر خمسة وعشرين عاماً أي في سنة 1318 ذهب إلى المغرب لطلب العلم ودار في مدنها: الصويرة ومراكش والدار البيضاء والرباط، ومنها كان ينوي الذهاب إلى فاس حاضرة العلم والعلماء في المغرب الأقصى لكنه أصيب بالجدري ثم شفاه الله منه في العام نفسه فتوجه إلى القاهرة، ووفد على بلديّه الشيخ المشهور العلامة محمد محمود التركزي الشنقيطي المعروف بابن التلاميد، فعني به وأخذه إلى مفتي الديار المصرية آنذاك الشيخ محمد عبده، فعُني به أيضاً وكتب له كتاباً إلى محافظ السويس ليركبه إلى جدة، فأدى العمرة في أواخر المحرم سنة 1319.

ثم توجه إلى المدينة ليصاب بحمى ثقيلة لمدة سنتين لكنها لم تمنعه من التردد على العلماء ودروسهم، وبقي في الحجاز بين مكة والمدينة إلى سنة 1326/1908، وذلك لأنه قد بلغه استيلاء الفرنسيين على بلاده فلم يشأ أن يبقى تحت العبودية، ثم سافر إلى الهند، ثم إلى عُمان فالبحرين، ثم الإحساء وقرأ هناك على شيخها عيسى بن عكاس.

وفي صفر سنة 1327/1909 جاءته رسالة من أحد مشايخه يطلب منه أن يتوجه إلى الزبير في العراق ليدرس في مدرسة بناها مزعل باشا السعدون فلم يجد بداً من الذهاب، فلما وصل الزبير وجد أن مزعل باشا قد مات، وقد عين أوصياؤه رجلاً مغربياً مدرساً في المدرسة فهمّ بالرجوع فطلب إليه بعض الطلبة أن يعقد لهم دروساً ففعل فأعجب به كل من سمعه حتى أنهم رجوه أن يبقى بينهم فاستجاب لهم وبقي بينهم ورأوا أن يقيدوه فزوجوه فتاة يتيمة فكانت أمَّ أولاده السبعة.

وقام في البصرة يعظ بأسلوب قوي وجريء يحارب فيه الأوهام والبدع والخرافات، وينعى على العلماء جمودهم وتقصيرهم، وعلى الدولة العثمانية تعطيلها للحدود الروادع وإقرارها للفواحش -وهذا والله أعلم لأنه كان يدير الدولة العثمانية آنذاك جمعية الاتحاد والترقي الماسونية- وكل هذا أثار عليه بعض المشايخ الذين حسدوه ورفعوا إلى مدير الناحية أمره وأنه يجب إبعاده لأنه يحرض العوام على الدولة العثمانية ويقلل من شأنها وهيبتها في النفوس؛ لكن كان المدير عاقلاً عالماً بسبب الحملة هذه على الشيخ فذهب إلى الشيخ محمد بن عوجان إمام مسجد الباطن وكان تقياً ورعاً فسأله عن الشيخ الشنقيطي فأثنى عليه وبين أنه لا يقصد في وعظه إلا الخير، وأنه قد حصل به خير كثير لأهالي الزبير فاقتنع مدير الناحية وكف عنه.

وبقي الشنقيطي يدعو إلى الله تعالى ويجتهد في نشر الخير إلى سنة 1331/1913 حيث دُعي إلى الكويت ليشارك في الجمعية الخيرية التي أنشأها مجموعة من أهل الكويت وكان الغرض منها إعداد طلاب العلم في البلاد العربية المتفوقة علمياً آنذاك مثل القاهرة ودمشق وبيروت، والإنفاق عليهم حتى يعودوا، ولها أغراض خيرية متنوعة، وقد أسهمت هذه الجمعية في تحريك المجتمع الكويتي آنذاك ودفعه إلى نهضة فكرية وعلمية وأدبية فقد دعت إلى الكويت مشايخ كثيرين كرشيد رضا وحافظ وهبة ومصطفى لطفي المنفلوطي وعبد العزيز الثعالبي التونسي وغيرهم، وظل الشيخ الشنقيطي في الكويت يعظ ويدرس إلى أن أصبحت الحرب العالمية الأولى على الأبواب، وكان الحاكم في الكويت آنذاك الشيخ مبارك الذي كان قد عقد اتفاقية مع الإنكليز سنة 1899 فخشي من الجمعية فأغلقها، وكاد الشيخ الشنقيطي أن يعتقل إثر أحداث جرت هناك حيث تخوف مبارك منه ومن مناصرته الدولة العثمانية فهرب إلى الزبير تاركاً زوجه وأولاده ست سنوات!!

ولما وصل البصرة راح يدعو للجهاد في سبيل الله ضد الإنجليز الكفرة، ولم يكتف بهذا بل شارك في القتال بنفسه في معركة الشعيبة، وهي قرية تبعد عن البصرة عشرة أميال وعن الزبير ميلين، وقصة هذه المعركة كالتالي:
وردت برقية من البصرة لمختلف المدن العراقية جاء فيها: ثغر البصرة الكفار محيطون به، الجميع تحت السلاح، نخشى على باقي بلاد الإسلام، ساعدونا بأمر العشائر بالدفاع" وتليت البرقية على الناس، وصار الوعاظ والخطباء يلهبون الحماس ويثيرون المشاعر الدينية وأن الإنكليز إذا احتلوا العراق فإنهم سيهدمون المساجد، ويحرقون القرآن، وينتهكون حرمات النساء، وساد العراق كله حركة جهادية جليلة خاصة عندما أفتى شيخ الإسلام في الدولة العثمانية آنذاك خيري أفندي أن الجهاد قد أصبح فرض عين على جميع المسلمين، والتحم المسلمون بالإنجليز في الشعيبة ثلاثة أيام أظهر فيها المسلمون شجاعة هائلة وحماساً عظيماً، وكان الهنود المسلمون جنوداً في الجيش البريطاني!! فأثرت فيهم دعوات الجهاد فكان الإنجليز ينخزونهم بالسيوف والحراب ليخرجوهم لقتال المسلمين، وانتهت المعركة بانتصار الإنجليز المتفوقين عسكرياً.

ومن ثم انتقل الشنقيطي إلى بغداد لمدة أربعة أشهر ومنها إلى حائل التي مكث فيها قليلاً يدرس ثم توجه إلى عنيـزة واجتمع بالملك عبد العزيز هناك، واستضافة آل البسام مدة كتب فيها مذكراته.

ثم إن الشيخ أحمد الجابر الكويتي أراد الحج فعرّج على عنيـزة واقترح على الشيخ الشنقيطي أن يرافقه إلى الحج، فوافق الشيخ وأكرم الشريف حسين مثواهما في مكة، ثم عاد إلى عنيـزة وبقي فيها سنتين يدرس ويعظ، ثم لما مات مبارك الكبير عاد إلى الكويت ليرى أسرته التي تركها ست سنوات!! والتقى بأمير الكويت الشيخ سالم الذي أساء استقبالهم إلى حد غريب فطرده من البلد وأمهله ثلاثة أيام للخروج منها، وربما كان ذلك بسبب ما جرى بين مبارك الكبير والشنقيطي، والله أعلم.

وتوجه الشيخ إلى الزبير ثم لحقت به أسرته بعد ذلك، وأخذ في وعظ الناس وإرشادهم، ودعاهم إلى إنشاء المدارس فاستجاب له نفر من الزبيريين وأنشأوا جمعية النجاة سنة 1339/1920، ومدرسة النجاة سنة 1342/1923، وقد تفوقت هذه المدرسة على مثيلاتها، وصار لها أثر جليل، وبلغ عدد طلابها سنة 1366/1947 أربعة آلاف طالب منذ تأسيسها.

ولما تأسست المدرسة سأله أحد وجهاء العراق عن رأيه في افتتاح مدرسة للبنات فبين الشيخ أهمية هذا الأمر، لكن الحسدة لم يرضوا إلا أن يؤذوه بهذه الفتوى فهيجوا عليه العامة بدعوى أنه يريد شيوع الاختلاط بين الرجال والنساء، وفاجأه أحد العوام بعد العشاء فضربه بعصا ضرباً مبرحاً، لكن أنقذه بعض الحاضرين، وأخذ الرجل للسجن، وانتشر الخبر في العراق والكويت والخليج، ووردت البرقيات المنددة بهذا الصنيع الآثم، ولما خرج الرجل المعتدي من السجن جفاه الناس وعضّه الجوع بنابه حتى جاء باكياً إلى الشيخ تائباً معتذراً فواساه الشيخ بطعام من حانوت يتعامل معه، وكان الشيخ بهذا مطبقاً لقوله تعالى:
{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ }.


ولما صار الشيخ أحمد الجابر أميراً للكويت -وكان صديقاً للشنقيطي- جاءته دعوة من النادي الأدبي في الكويت سنة 1343/1924 فلباها مسروراً واستقبل استقبالاً حافلاً وأقيمت له حفلة تكريمية رائعة، أنسته ما لاقاه زمان مبارك وسالم من قبل، وعاش أياماً سعيدة في الكويت.

ثم إنه عاد إلى الزبير ليشرف على المدرسة التي أسسها هو وثلة من وجهاء الزبير، وكان يعمل كل ما في وسعه من أجل إنجاح مقاصد المدرسة ورعاية طلابها وجلب التبرعات لها من المحسنين في العراق والكويت، وسار على هذه السيرة حتى صار خريجو المدرسة منتشرين في الزبير والبصرة والكويت وبغداد وغيرها وصار منهم الأطباء والمحامون، والعسكريون والمربون، والشعراء والوعاظ والمعلمون، وثبت الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى على عطائه وبذله حتى لقي الله تعالى سنة 1351/1932، ودفن في مقبرة الحسن البصري رحمه الله تعالى.

تلك كانت حياة هذا الشيخ الذي جمع بين أعمال كثيرة جليلة: تعليم العلم الشرعي، الدعوة إلى الله تعالى، الجهاد في سبيل الله تعالى، التوعية في زمن الجهل، الوقوف في وجه الظلمة، مقارعة الاستخراب البريطاني، وغير ذلك من أعمال جليلة تحمّل في سبيلها الغربة عن وطنه، والبعد عن أهله، وشظف العيش وشدته، وتجهم الأقارب والأباعد، والازدراء والاستخفاف، وكل ذلك في زمن الخوف والاضطراب أيام الحرب العالمية الأولى وانتشار الفوضى في كل مكان، فرضي بما هنالك، وثبت ثباتاً عجيباً حتى أتاه اليقين، وهذا هو المرجو من ورثة سيد المرسلين وإمام المتقين، وذلك هو الطريق الذي لا مناص منه ولا محيد عنه، فرحمه الله رحمة واسعة، ورفع درجته في عليين.

عن موقع التاريخ
 
عودة
أعلى