الصحراء الشرقية المغربية المحتلة من طرف الجزائر
سعى الحسن الثاني لاستعادتها لكن الجزائر فتحت له ملف "الصحراء الغربية"
الصحراء المنسية اللتي لم ولن تسقط بالتقادم :
"أذكر أننا ذهبنا للمنفى في العشرين من غشت 1953 يوم عيد الأضحى، وقبل ذلك بشهرين جاء باشا تيندوف لتقديم البيعة، وكان ذلك في أواخر شهر رمضان. ومعلوم أنه إلى حدود 1953 لم يكن يروج في تندوف إلا الطابع البريدي المغربي، وهذا بصرف النظر عن الأراضي الأخرى"، هكذا تحدث الملك الراحل الحسن الثاني، عن "الصحراء الشرقية" وشرعية المطالب المغربية بشأنها. رغم أنه هو من اتخذ قرارا عسكريا حاسما سنة 1963، حين دعا قوات جيشه إلى الانسحاب من هذه الصحراء، رغم تحقيقها لانتصار كاسح على نظيرتها الجزائرية ، لأنه لم يكن مقتنعا أن هذا النصر سيحقق السلم. واختار الملك الراحل سبيل التفاوض العسير مع جيرانه الشرقيين، إلى أن اضطر للتوقيع على اتفاقية الحدود عام 1972 في إفران ، تحت ضغط "الدور المشؤوم" للجنرال أوفقير، بتعبير المؤرخ والخبير محمد المعزوزي. فهل يعود هذا الملف إلى الواجهة بعدما غير المغرب إستراتيجيته تجاه خصومه في ملف الصحراء، وأصبح يبادر بالهجوم عوض الاكتفاء بالدفاع؟
بعد زوال يوم الجمعة من الأسبوع الماضي، وفي قاعة داخل أحد أفخم وأكبر فنادق العاصمة الرباط، جهزت منصة للخطابة، واعتلت واجهتها لافتة كبيرة بعنوان اللقاء:" صحراؤنا الشرقية والخطة الاستعمارية لمحاولة طمس هويتها المغربية". وحملت اللافتة توقيع أحد الأحزاب السياسية المعترف بها قانونيا، هو حزب المجتمع الديمقراطي.
لم يقصد منظمو الندوة منطقة صحراوية متاخمة لجهة تافيلالت أو المغرب الشرقي، بل وضعوا لتوضيح هذا الأمر خريطة في خلفية لافتتهم الرسمية تشمل التراب المغربي ونصف مساحة الجزائر، لكن الركن الغربي الجنوبي من الأرض الخاضعة لسيادة جارتنا الشرقية، رصع بأعلام مغربية صغيرة، تبين المنطقة المقصودة بعبارة "صحراؤنا الشرقية".
عبارات ومشاهد كافية لترك الأغلبية الساحقة من سكان المغرب، بما ان النسبة الأكبر منهم شباب فتحوا أعينهم على بلد يردد في كل صياح عبارة "الصحراء مغربية"، ويرد عليهم الأعداء بعبارة "الصحراء الغربية" ، (تركهم) فاغرين أفواههم. ففي مرحلة اشتد فيها ترديد هذه العبارات إلى درجة اقترح معها أكبر حزب في البرلمان المغربي، حزب الأصالة والمعاصرة، إحداث جهة "الصحراء الغربية" ونزع سمة الشيطنة عن هذه العبارة، وبتزامن مع زيارات كل من الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الشخصي للمملكة تحضرا لجولة جديدة من التفاوض حول "الصحراء" موازاة مع معركة إعلامية ودبلوماسية طاحنة بطلتها الجارة الشرقية الجزائر؛ ارتفعت أصوات مغربية بمناسبة هذه الندوة لتقول "صحراؤنا الشرقية المغتصبة من طرف الجزائر" ، فاتحين بذلك جرحا غائرا في التاريخ القريب للمملكة، أحدثه اقتطاع هذه الصحراء الشاسعة من نفوذ سلاطينها العلويين، وإلحاقه بتراب جارتنا الشرقية.
الصحراء الشرقية "المغتصبة"
"حتى نفهم جانبا آخر من الصراع المغربي الجزائري، ينبغي أن نقف ولو لحظة قصيرة أمام خارطة الجزائر المستقلة سنة 1962، لنرى كيف أن بطنها منتفخ بشكل غير طبيعي وممتلئ بأراضي وقبائل وشعوب الجيران التي اقتطعت وانتزعت بالقوة من طرف الاستعمار الفرنسي المتواجد في منطقة شمال إفريقيا منذ 1830"، يقول أستاذ العلاقات الدولية بجامعة الدار البيضاء ، عبد الرحمان المكاوي. فما هي قصة هذه الصحراء الشرقية "المغتصبة"؟ كيف كانت مغربية ثم بدلت جنسيتها وارتدت سيادة الجيران؟ لماذا يتحدث الجميع عن هوية أهل وسكان الصحراء الغربية ولا يتساءل أحد عن مقابل ذلك في أختها الشرقية؟ ثم لماذا يسكت المغرب الرسمي عن هذه الأرض الشاسعة التي تفوق مساحتها مساحة الإقليم المتنازع عليه مع "البوليساريو"؟
يجيب الجزء الأول من كتاب "المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربي" عن بعض هذه التساؤلات، حين يقول إن هذه المناطق الصحراوية كانت جزءا لا يتجرأ من التراب المغربي، بل أقاليم خاضعة للنفوذ السلطاني، يدفع سكانها الجبايات ويحظون لدى كل السلاطين طوال القرون التي أعقبت إقامة الدولة المرابطية، "خصوصا وأن الوثائق الكثيرة المتوفرة لا تعتبر محط نقاش أو نزاع". ويضيف الكتاب الذي ألفه قيدوم الصحافيين المغاربة مصطفى العلوي في الثمانينات: "وقد لاحظنا كيف أن الحكومة الفرنسية كتبت كيف أن الحكومة الفرنسية كتبت للسلطان محمد عبد الرحمان تخبره بان بعثة "بوران" في إقليم توات إنما كانت بعثة دراسية، بينما الوثائق الممضاة قبل سنة 1880، سواء من طرف الفرنسيين أو الإسبان، كانت تتعامل مع المغرب على أساس أن توات وكورارا وتيدكلت في مناطق مغربية". وتنضاف إلى ذلك حجة أخرى تتمثل أن الفرنسيين عندما احتلوا الجزائر، أقاموا في حدودهم الجنوبية مركزا عسكريا هو معسكر "الكولية" بتكلفة باهظة، من القتلى الفرنسيين والمغاربة من سكان "كورارا"الذين لم يكن لهم حول ولا قوة لمواجهة الجيوش الفرنسية التي احتلت طرفا صغيرا من إقليم كورارا بدعوى حماية الحدود، لكنهم توقفوا في الكولية .
عملية تصفح سريعة للكتب التاريخية المتعلقة بالمغرب في مرحلة ما قبل الحماية، والقرن التاسع عشر عموما، تكشف عن دولة "منتفخة الظهر" تمتد ككتلة ضخمة في الركن الأعلى جهة اليسار، يحدها البحر من الشمال والغرب، ونهر السينغال من الجنوب والإمبراطورية العثمانية من الشرق. وتظهر المنطقة المسماة اليوم "صحراء شرقية" وسط هذا المجال الترابي. و"بعد أن حل الاستعمار الفرنسي محل الاستعمار الفرنسي محل الاستعمار العثماني في الجزائر، وبعد أن احتلت الجيوش الفرنسية والبريطانية أجزاء هامة من الأطراف الإفريقية العربية والسودان، بقي المغرب راسخا موحدا لا تشوب حدوده الشاسعة أية شائبة ولا يجد أي نعل أجنبي موقع قدم له على أي شبر من أرضية باسم الاحتلال. أراضيه باسم السينغال جنوبا إلى عين صالح شرقا حيث العمالات الثلاث :"كورارا" في الشمال الشرقي ، و"توات"في الوسط الشرقي ،و"تيدكلت" في الجنوب الشرقي " يقول كتاب "المناورات الأجنبية".
صحراء الحسن الأول مقابل صحراء الحسن الثاني
بينما يرتبط ملف "الصحراء الغربية" ومعركة تحريرها، بملك اسمه الحسن الثاني، من خلال المسيرة الخضراء التي نظمها نحو هذا الإقليم الصحراوي ، واسترجاعه إياه من تحت الاحتلال الإسباني ، يعتبر الكثيرون قضية "الصحراء الشرقية" مرتبطة باسم الملك آخر هو الحسن الأول. ذلك أن المحاولات الاستعمارية الجادة لانتزاعها من النفوذ المغربي، تمت في عهد هذا السلطان الذي كان آخر سلاطين الدولة العلوية القوية قبل الحماية. و"لم يكن الحسن الأول غريبا عن الأحداث ولا الأحداث غربية عنه، عندما جاءه مرسول إلى البيت الذي كان يسكنه في حاحة ، بإقليم سوس، وهو الخليفة لوالده ، وأخبره بأنه بويع ملكا على المغرب. فقد كانت أربع واجهات مفتوحة تتفاوت في حجمها وتتبارى في ضخامتها ، وقاسم مشترك بين الواجهات الأربع، هو إصرار القوات الدولية على احتلال المغرب وتخريب اقتصاده وتشتيت شمله واستغلال جهله. وهذه الواجهات الأربع هي أولا الجبهة الداخلية وما تحمله من جهل ورجعية وعمالة واحتماء بالأجنبي وديون... وجبهة المناورات الدولية وأطماع الدول الاستعمارية الكبرى، وجبهة الصحراء الجنوبية، ثم جبهة الصحراء الشرقية مع رغبة الفرنسيين في التوسع وشروعهم في إقامة منشئات عسكرية في "كورارا" يقول مصطفى العلوي في الجزء الأول من كتابه.
هذا الأخير استغرب كيف أن أغلب الأحداث التي ربطها المؤرخون بشخص الحسن الثاني، لم تشر لا من بعيد ولا من قريب للمعركة الحقيقية التي خاضها الحسن الأول في حياته بالصحراء بينما خصصوا مجلدات ومؤلفات كثيرة لقضايا كانت بالنسبة إليها جانبية. "فبعدما تناقلت البرقيات العالمية نبأ تنصيب الحسن بن محمد ملكا على المغرب في الحادي عشر شتنبر 1973، أعادت القوات الدولية خلط الأوراق وتوزيعها من جديد. وبدأت الأخبار تتوارد على الحسن الأول، وتتحدث عن غزو الفرنسيين لإقليم توات والساورة بأسلوب جديد، هو إغراق المنطقة بالمواد الفرنسية والسلع التي كانت تغري السكان وتسيل لعابهم، وتجعل "التجار" الفرنسيين يكسبون تعاطفهم ... ففطن الحسن الأول إلى أن الغزو المادي لإقليم الصحراء الشرقية أصبح أمرا واقعيا".
السلطان الواعي بالتحديات الكبرى التي تطرق أبواب مملكته، والخائف من فقدان هيبة مملكته، والخائف من فقدان هيبة دولته الخارجية، اختار في البداية سلوك طريق الحل الإداري الداخلي من أجل تحصين المنفذ الصحراوي الذي يريد الفرنسيون فتحه نحو مملكته ، فبادر إلى تفقد مستوى حضور جيشه في المنطقة ، فلاحظ أن جنود قبائل "الغنانمة" متواجدون أكثر من غيرهم في مناطق بني عباس، كرزاز ، لواتة، كرزيم، القصابي، الزاوية الكبرى... فسارع إلى مكاتبتهم بعد سنة واحدة من اعتلائه العرش، وأوصاهم بالدفاع عن حدود البلاد والانتباه إلى الأخطار المحدقة بها من الخارج. إلا أن الفرنسيين كانوا قد عمدوا إلى استعمال تقنية ناجعة لضمان تسربهم التدريجي إلى المنطقة الصحراوية المتاخمة لهم في الجزائر، وهي تقنية "حق المتابعة"التي بدأ الجيش الفرنسي في ممارستها ضد من يفرون من الجزائر نحو "الصحراء الشرقية".
وفيما كانت إحدى أشهر القبائل الجزائرية القريبة من الأراضي المغربي، قبيلة "سيد الشيخ" كان من بين أعضاء هذه القبيلة علم كبير، كان يرابط في "موكرار" داخل الجزائر، وخاض الحرب ضد الفرنسيين وعندما انهزم حمل رجاله ومتاعه وجاء إلى منطقة "دلدول" المغربية في إقليم توات واستقر فيها، وبعد مدة قصيرة تحول بيته إلى شبه زاوية يتوجه إليها المغاربة نظرا للمكانة الدينية التي أبان عنها هذا الوفد. فأصبح "بوعمامة" أحد رموز الجهاد ضد النصارى في المنطقة وانتشر صيته بشكل واسع، أكثر من ذلك، تحول تدريجيا إلى دولة داخل الدولة بعدما تكاثرت الخيام والأتباع من حوله. لكن اغريب هو أن النشاط الذي كان يشتكي منه الحسن الأول كلن يتركز في منطقة نفوذ "بوعمامة" حيث المبادلات التجارية الواسعة مع الفرنسيين، وكان ذلك أولى بوادر مهمة "خاصة" لهذا الشيخ . فشكل رجال السلطة بقيادة الشيخ "باحسون" قائد "تيمي" وفدا من أعين المنطقة وذهبوا للسلام عليه معتقدين أن السلطان الحسن الأول قد أوكل أوامرهم لهذا لا الرجل ونسيهم. لكن مفاجأتهم كانت كبيرة حين أخرج " بوعمامة"رسالة توصل بها من الحسن الأول، يقول له فيها :"لا تتدخل في شؤون أبناء عمومتك... فإنه ليس بيننا وبين جيراننا إلا ما تنص عليه الاتفاقيات المعقودة بيننا في إطار السلم. فعش في اطمئنان واعتبر نفسك بعيدا عن الحرب ، وكن من بين رعايانا واحدا منهم ملتزما بتعاليم الله ورسوله وفي رعايتنا الشريفة. لكن، إذا حصلت بعض المشاكل نتيجة سوء تصرفك فلا تلومن إلا نفسك في ما قد يحصل لك وارحل آنذاك عن بلادنا".
هذه الرسالة تكشف عن رغبة الحسن الأول في تجنب الوقع في أي مشاكل مع الفرنسيين، حتى لا يسهل عليهم عملية الغزو التي يخططون لها. وهو ما بدا في ما بعد أنه نبوءة من السلطان، حيث سرعان ما تحول "بوعمامة" إلى مناوأته والتأمر عليه، وسوف يلتحق في وقت لاحق بجيش "بوحمارة" الذي قاد عملية انفصال انطلاقا من الشرق ضد خليفة الحسن الأول، السلطان مولاي عبد العزيز، و عندما وقع "بوعمامة" في قبضة القبائل الصحراوية، طالب الفرنسيون بإطلاق سراحه معتبرين إياه مجرد "مواطن فرنسي" في مهمة بالمغرب. ولم يكن "بوعمامة" وحده من جر الفرنسيين على الصحراء الشرقية ، بل كان من آخرون مثل "بوشاشا" المنحدر من قبيلة سيد الشيخ أيضا، الذي فر إلى المغرب وأخذ الفرنسيون يلاحقونه داخل الأراضي المغربية.
الفرنسيون يتسللون
بدل القيام بهجوم مباشر من أجل احتلال المزيد من الأراضي، لجأ الفرنسيون إلى رجل آخر من أبناء قبيلة "سيد الشيخ" وهو الحاج عبد القادر الذي استقر في الحدود الشمالية لتوات، وأصبح أميرا له طابع يوقع به على الاتفاقيات مع الفرنسيين، من بينها اتفاقيات تسمح للفرنسيين بحق المتابعة داخل الأراضي المغربية. لتندلع شبه حرب باردة بين الفرنسيين والحسن الأول، وأصبح هذا الأخير يبعث بالأسلحة لتوزع بين أبناء المنطقة ، لتقع أو معركة بين أبناء منطقة "حاسي الشيخ"والفرنسيين سنة 1886، انتهت بمقتل الضابط "بالاط" الذي كان يقود كتيبة الفرنسيين، فشكل أعيان المنطقة وفدا لزيارة الحسن الأول في فاس، وطلب الدعم في انتظار انتقام الفرنسيين المؤكد. فاستقبلهم السلطان رغم اعتراض السفير الفرنسي في طنجة ، ثم أرسل الحسن الأول بعثة عسكرية بقيادة الضابط أحمد الدليمي، فدخل منطقة "الدلدول" رسميا، وكان في استقباله "بوعمامة" ضمن المستقبلين. وجمع الحسن الأول الصحراء الشرقية مع تافيلالت تحت قيادة عسكرية واحدة تولاها الضابط الدليمي، ثم أرسل خبيرا في الاستطلاع السياسي لإعداد تقرير شامل عن المنطقة... وسرعان ما تطورت الأمور ليعلن الحسن الأول الحرب على قبيلة سيد الشيخ كما أعلن سخطه على "الشريف" مولاي عبد السلام الوزاني الذي قاد بعثة فرنسية ممن ادعوا إسلامهم، وراح يبشر بالسلم والأمن والتعاون بين قبائل الصحراء الشرقية والفرنسيين.
بالمقابل وموازاة مع كل ذلك، شجت القيادة العسكرية الفرنسية المستقرة بوهران الجزائرية ، ظاهرة قطاع الطرق الذين أخذوا ينبهون القوافل ويغتالون رجالها ثم يفرون، وغاية ذلك كانت هي خلق حالة من الرعب في نفوس السكان ، وقطع الاتصال بين الإقليم والعاصمة فاس، حيث كانت مهام مبعوثي السلطان إلى توات تتحول إلى عمليات انتحارية، وأصبح الحسن الأول يبحث لبعثاته عن طرق سرية حتى تبلغ إلى مناطق الصحراء الشرقية. بينما أخذ الفرنسيون في بناء مراكز المراقبة داخل "توات" بذريعة تضررهم من قطاع الطرق. وتلك وسيلة أخرى للتغلغل، تنضاف إلى أسلوب التسرب التجاري عبر جلب بضائع جديدة وإبهار السكان المحليين بالمنتوجات الغريبة. فكتب الحسن الثاني إلى قائد "الدلدول" في توات بتاريخ 13 ماشي 1893، وقال له "لقد أخبرتنا عن وصول المزيد من الناس من النواحي الجزائرية، ودائما وكما هي العادة تحت ستار التجارة ، ولقد سار بالبال.
وبدأ السلطان في تحضير "الرأي العام"المحلي واستنفار أعيان المنطقة، وتوالت رسائل السلطان إلى سكان المنطقة للدعوة والتحميس، "يا سكان توات والخنافسة والساورة، إن الإسلام الحنيف دينكم الذي ارتضاه الله لكم، فتشبثوا به واتخذوا منه وسيلة للحيطة والحذر من جواسيس الأعداء المحيقين بكم وبأراضيكم" تقول إحدى تلك الرسائل . وبعدما علم السلطان أن الفرنسيين يرسلون خبراءهم للبحث والتنقيب عن المعادن النفسية في صحرائه الشرقية ، بعث رجال السلطة إلى المنطقة ، وبعث بها إلى مختبرات غربية. فجاءته النتائج نافية لوجود الفضة، بينما كانت تقارير علمية قد رفعت إلى الحكومة الفرنسية تقول بوجود كميات كبيرة من هذا المعدن النفيس.
لكن عدم تأكده من وجود الفضة لم يمنعه من مواصلة "المقاومة" لمنع التدخل الفرنسي، وقرر القيام بزيارة إلى الصحراء، من أجل تثبيت حكمه وسيادته عليها، واستنفر لذلك 15 ألف جندي لمرافقته. واختار لموكبه الطريق الوعرة المليئة بقطاع الطرق، كي يعيد غليها الأمن والاستقرار. وكانت نقطة التحول في مسار هذه الرحلة وفي حياة السلطان الحسن الأول وفي تاريخ "الصحراء الشرقية" هي حين كان متوقفا في تافيلالت، وأخذ يستقبل الوفود والأعيان للسلام عليه، وعندما استدعى عامل "توات" باحسون، سمع البعض صراخ وصياح السلطان ، تبعه خروج العامل متوترا مفزوعا. وتقول المصادر التاريخية إن السلطان كان متفقا مع عامله على مخطط سري لإفشال التحركات الفرنسية بالمنطقة ، أدخل فيه الطوارق. لكن شيئا ما أفشل تلك الخطة وأغضب السلطان الذي ظهر عليه المرض الذي سيموت منه منذ تلك اللحظة. كما مات "باحسون" على أيدي "قطاع الطرق" بعد ذلك ببضعة أشهر دون أني يفصح عن حقيقة ما دار بينه وبين السلطان. والباحثين في الموضوع، يرجحون أن السلطان كان يخطط لإطلاق حرب شاملة، يشغلها الطوارق وينضم إليها بجيشه رفقة مقاتلي المنطقة، لتلقين الفرنسيين درسا يجعلهم يتوقفون عند الحدود المغربية. لكن ذلك لم يتم ، وكانت تلك أولى خطوة في طريق فقدان المغرب لصحرائه الشرقية، رغم أن الفرنسيين لم يبسطوا سيطرتهم العسكرية الشاملة عليها إلا في 1929، تاريخ وصول الجيش الفرنسي إلى تندوف. ورغم أن إخضاع فرنسا للمغرب عبر معاهدة الحماية، جعلت الحدود بين الأراضي المغربية والجزائرية غامضة، خاصة أن اتفاقية "لالة مغنية" التي وقعها المغرب بعد هزيمته أمام فرنسا في معركة إيسلي سنة 1844، لم توضح الحدود بين المغرب والجزائر المحتلة من طرف فرنسا، واقتصر ذلك التحديد على المسافة بين ساحل السعيدية وفكيك؛ إلا أن الوثائق العسكرية الفرنسية تبين أن باريس ظلت تتعامل مع منطقة "الصحراء الشرقية" على أنها أراضي مغربية إلى وقت قريب من استقلال المغرب، ولم تضمها على الجزائر غلا عندما بدأت تفكر في الانسحاب من المغرب والإبقاء على الجزائر كإقليم فرنسي
أخطاء التحرير
ضياع إقليم شاسع من تحت السيادة المغربية اسمه "الصحراء الشرقية" لا يعود لعوامل خارجية واستعمارية فقط، بل إن أخطاء فادحة زكت هذا المسار، و"عوض أن نتجنب والدسائس التي زرعها لنا المستعمر، سلكنا طريقا خططوه لنا من قبل، ووقعنا في كمين نصبوه لنا بعدما أقاموا التقسيمات الحدودية المصطنعة ليكون الإرث الاستعماري عسيرا جدا يقول شيخ العارفين بأسرار هذا الملف، المؤرخ محمد المعزوزي. هذا الأخير الذي يتساءل :"من منا لا يعرف ما قاساه المغرب بعد احتلال الجزائر ، وعندما بدأت الجيوش الفرنسية ابتداء من الجهة الشرقية والصحراء الجنوبية، مما مهد لتحويل جزء من أراضيها إلى أرض الجزائر التي كانت تعتبر جزءا من فرنسا". ورغم أن المغرب طالب بهذه المنطقة منذ 1953، حسب الخبير عبد الرحمان المكاوي، فإنه وفي "المرحلة الممتدة من 1956 تاريخ استقلال جزي من المغرب، إلى 1962 تاريخ استقلال الجزائر، سكت المغرب عن مطالبه على صحرائه الشرقية، حتى لا يربك ويشوش على الكفاح المسلح للإخوة في الجزائر" يقول المكاوي قبل أن يستدرك :"إلا أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، فمباشرة بعد استقلالها سنة 1962، قامت الدولة الجزائرية بضم الصحراء الشرقية التي انتزعت من المغرب خارقة بذبك عهودها والتزاماتها المتضمنة في اتفاقية 6 يوليوز 1961، هذا التنكر للماضي تبعه طمس كل الرموز التي تؤكد على مغربية المنطقة من طرف الجيش الجزائري، كما قتل العددي من السكان المطالبين بمغربيتهم في المواجهات بسبب رفضهم لاستفتاء تقرير مصير الشعب الجزائري المنظم من طرف فرنسا ، فالعديد من زعماء ركيبات الشرق هربوا إلى المغرب...".
وهو ما يؤكده محمد المعزوزي الرجل الذي كان ضمن الوفد المفاوض للجزائر حول الحدود ، "استقلت الجزائر بعد نضال مشترك، وحدث ما لم يكن في الحسبان : التنكر لاتفاقية 1961 التي كانت قائمة على الثقة. وبدأت الاعتداءات على بعض المراكز المغربية بالجنوب، وتخلت الجزائر على الالتزام ، مستندة إلى عدم خرق الحدود الموروثة عن الاستعمار" يقول المعزوزي. بعدما كانت وجدة تضم ما يقارب أربعين مركزا لتجميع الجنود والسلاح وصناعة القنابل والتدريب العسكري وتسريب السلاح للمقاومة الجزائرية، "وكان لي الحظ لأساهم لمدة 4 سنوات في ذلك كمسؤول في السلطة بمدينة وجدة والجهة الشرقية بكاملها. وأدى المغرب ضريبة التضامن والمساندة للأشقاء الجزائريين بانتهاك حرمة أراضيه من طرف القوات الفرنسية، وقتل مواطنيه... وقامت فرنسا بتجارب نووية بصحراء "ركان" وكان ذلك موضوع احتجاج شديد اللهجة من قبل السلطات المغربية" يضيف المعزوزي بحنين كبير.
الرجل الذي عايش تلك المرحلة وساهم فيها إلى جانب السلطات المغربية، شد انتباه وأسماع الحاضرين لندوة "الصحراء الشرقية" الأخيرة، وقال جازما "منذ استقلالنا وجد المغرب نفسه في مواجهة عنيفة مع الهيمنة الجزائرية، التي تطمع في السيطرة على مزيد من الأراضي للوصول إلى المحيط الأطلنتي، غير مكتفية بالأراضي الشاسعة المغربية التي ورثتها عن الاستعمار الفرنسي. وأصبح التراب المغربي مبتورا من بعض أراضيه واختار المغرب كل طرق السلم مع كل التنازلات الممكنة، إلى غاية اتفاقية 1972". هذه الاتفاقية اعتبر المعزوزي أنها وقعت في فترة "حرجة" من تاريخ المغرب، "لعب فيها أوفقير دورا مشؤوما، وقد كان رهانه مركزا على تصفية الحدود لصالح الجزائر".
الصحراء الشرقية خط أحمر لجنرالات الجزائر
يبدي حكام الجارة الشرقية حساسية كبيرة كلما تعلق الأمر بملف "الصحراء الشرقية"ويبدون استعدادا لارتكاب ما يفوق التصور في حال الإقدام على فتح هذا الملف أو مناقشته، وهو ما قد يفسر قبول الملك الراحل الحسن الثاني نسيان هذا الأمر والتضحية به مقابل تحقيق الأمن والاستقرار للبلدين. رغم مواصلة بعض الشخصيات والهيئات السياسية في مناوشته ومشاغبته بهذا الملف، بل إن الزعيم التاريخي لحزب الاستقلال ، الراحل علال الفاسي، جعل من قضية "الصحراء الشرقية" السبب الذي خلق من أجله ، وظل حزبه يضمن وثائقه الرسمية تشبثه بتحقيق الوحدة الترابية الشاملة، بما فيها استعادة هذا الجزء من الصحراء التاريخية للمغرب.
فيما يروي الخبير المتخصص في هذا الملف، عبد الرحمان المكاوي، حادثتين معبرتين عن حساسية الجزائريين تجاه هذا الملف. الأولى مع رضا مالك، المفاوض الأول من جانب الجزائر مع الجنرال دوغول قبيل استقلال الجزائر ،"الذي قال لي إنني رفضت رفضا باتا أن أتنازل عن الصحراء الشرقية عام 1959، حيث أن دوغول اقترح علينا استقلال الجزائر بعد استفتاء شعبي يجري عام 1960، وأن حدود الجزائر الطبيعية تقف عند مدينة توكولت وولاية ورغلة، وأن الصحراء الشرقية ليست بجزائرية، وأنه ينوي إقامة دولة بين مالي والجزائر تسمى تارغستان ، وأن أعيان هذه الدولة يطالبونه بإقامة دولة وعمهم في ذلك". وبرر مالك هذا التشبث الجزائري بهذه الصحراء، بقوله:"إننا إذا تركنا الصحراء الشرقية سواء للمغرب أو لدولة مستقلة، فإن مصير الجزائر هو التفكك لا محالة"، لتستمر الحرب الفرنسية الجزائرية سنتين إضافيتين من 1960 إلى 1962.
الحادثة الثانية بطلها الجنرال الراحل الذي شغل مهمة سفير لبلاده بالمغرب في آخر أيام حياته، "ومن الضباط الفرنسيين الذين دفعت بهم فرنسا للصعود إلى الجبال قبل 8 أشهر من استقلال الجزائر، للانضمام إلى الجبهة والاستيلاء على الحكم، وهو ما تحقق من 1962 إلى الآن" يقول المكاوي، ثم يضيف: "وقال لي إنك عندما تكتب في القدس العربي أو الشرق الأوسط أو لوموند، فإنك تزعج الجماعة كثيرا، وأضاف أنه يتلقى رسائل للبحث في شأني هنا بالمغرب وفي فرنسا، وتحديدا في سبب حديثي عن الصحراء الشرقية. وقال لي ، يمكنك الحديث عن الجنرالات وعن الفساد والرئيس وكل شئ، لكن لا تتحدث عن الصحراء الشرقية، فإنها خط أحمر بالنسبة للجماعة".
حرب الرمال.. حرب الصحراء الشرقية المغربية
بعيدا عن الحجج المغربية والحجج المضادة الجزائرية، خصص الكاتب والمؤرخ الفرنسي بيير فيرمورين، فصلا من كتابه "تاريخ المغرب منذ الاستقلال"، لـ"حرب الرمال" التي دارت بين المغرب والجزائر . وقال إن المغرب على عهد محمد الخامس، ساند جبهة التحرير الوطني خلال حرب التحرير الجزائرية. ولم يفاوض بعد استقلاله مع فرنسا حول حدود الصحراء،"بل آثر أن يفاوض فيها الحكومة الجزائرية المستقلة. مع ذلك، فقد كانت فرنسا عاقدة العزم على الإبقاء على سيادتها على الصحراء، حيث قامت يومئذ بتفجير قنبلتها الذرية في "ركان" يوم 21 فبراير 1960، والتي كانت تجربة مشتركة بين فرنسا وإسرائيلفت فيها حقولا نفطية زاخرة...".
وما إن تحقق استقلال الجهورية الجزائرية في 5 يوليوز 1962، يضيف المؤرخ الفرنسي، حتى اندلعت حوادث على الحدود المغربية الجزائرية. وتعود أسباب ذلك إلى تخلي فرنسا عن الصحراء (شكليا)، "وتعجل الحكومة الجزائرية الإعلان عن الإبقاء على الحدود الاستعمارية وعدم المساس بها عملا بميثاق منظمة الوحدة الإفريقية ". وبلغ التوتر ذروته سنة 1963، عندما لجأ "الاشتراكيون المغاربة المطاردون إلى الجزائر". وتعرضت القوات المسلحة الملكية للمحاصرة في نقطة حدودية، "وهذا ما جعل أوفقير يدين الصلة الواضحة لهذا الحصار بمن أسماهم "المتآمرين المغاربة" .. أعلن نظام الحزب الوحيد في الجزائر ، فكان سببا في توتر واضطراب في منطقة القبائل. " وكانت المواجهة العسكرية يوم 14 أكتوبر 1963.
مواجهة يرى الخبير العسكري عبد الرحمان المكاوي أنها كانت "مفبركة من طرف الهواري بومدين وبنبلة وعبد العزيز بوتفليقة ، وعندما لاحظوا أن الجيش الثالث الذي كان متمركزا في القبائل، يزحف نحو العاصمة للاستيلاء على الحكم، فأشعلوا الحرب مع المغرب.. نعم فبركوها وصنعوها صنعا. وجلبوا المغرب إلى فخ الصراع في حاسي بيضا، لكن المرحوم الحسن الثاني انتبه لذلك، وأمر الجنرال إدريس بنعمر بالعودة فورا إلى المواقع السابقة للجيش المغربي". وتؤكد جميع الوثائق المتعلقة بتلك الحرب، أن القوات المغربية حققت انتصارا يمكنها من السيطرة بسهولة على الصحراء الشرقية، لكن الملك الراحل أصر على الانسحاب، مثيرا غضب قائد قواته في تلك المعركة ، الجنرال إدريس بنعمر. لتنطلق بذلك سلسة من المشاورات والمفاوضات حول الحدود في المناطق الصحراوية :" وتدخلت لجنة التحكيم المكونة من دول إفريقية لإيقاف القتال ، وهي شاطئ العاج وإثيوبيا ومالي ونيجيريا والسنغال والسودان وتانزانيا. واستمرت المفاوضات حول أراضي يعرف الجزائريون أنها مغربية، لكن الأطماع وروح الهيمنة والدسائس الاستعمارية دفعت إخواننا إلى سلوك هذا الطريق غير المشرف نحو بلد لم يبخل بالعطاء في المجال العسكري والدبلوماسي والاجتماعي أثناء حرب التحرير" يقول محمد المعزوزي الذي شارك في تلك المفاوضات.
استمرت المفاوضات من 1963 إلى 1967 وكانت اجتماعات متتالية في أديس أبابا وأبيدجان والقاهرة والجزائر ونيروبي وطنجة. "وكان لي شرق المساهمة في الوفد المغربي، خصوصا في طنجة. وهناك تقررت مشروعية المطالب المغربية، وطلب الوفد الجزائري مهلة للتفكير، لكنه لم يفي بالتزاماته، حيث قالوا لنا نحن ضيوف عندكم فانتظروا جلسة مقبلة في الجزائر. فتم إخراج ملف آخر ، وبدأت المناورات مع الإسبان ضد المغرب الذي شرع في استرجاع ترابه. وهكذا تحولت الأنظار من الصحراء الشرقية إلى الصحراء الغربية لمحاولة فصلها هي كذلك عن الوطن بواسطة عملاء مرتزقة "يتذكر المعزوزي بحرقة واضحة.
الحسن الثاني: تجنبت الحرب مع الجزائر لأنها لا تحقق السلم
أصحيح أنه عندما كان يلوح في الأفق انتهاء حرب الجزائر اقترحت السلطات الفرنسية علا والدكم التفاوض معه بشكل منفرد حول الحدود الشرقية والجنوبية للمغرب؟
لقد جائنا السيد بارودي موفدا من قبل الجنرال دوغول ، وصرح قائلا: "نحن على وشك تسوية سلكية مع الجزائر ، ونعتقد أنه من المناسب أن يتباحث المغرب وفرنسا من الآن في مشكل حدودهما ".فكان جواب والدي:"إنه غير وارد أن أتفاوض في هذه الظروف، فذلك سيكون مني طعنا من الخلف للجزائر المكافحة. إننا سنسوي قضايانا في ما بعد". وهكذا بدأت العلاقات المغربية الجزائرية بالنسبة لأحد الطرفين بالاقتناع بأنه سلب منه شيء وبالنسبة للطرف الآخر بالإصرار على ألا يتنازل عن شيء ويتشبث بالفصل المعروف من ميثاق أديس أبابا القاضي بالإبقاء على الحدود كما تركها الاستعمار. لقد كانت السلطات الفرنسية تعتقد منذ وقت مبكر أن الجزائر ستظل فرنسية، في الوقت الذي بدا فيه المغرب يتحرك . ثم كان هناك استغلال غاز الصحراء ونفطها. فبالنسبة لباريس كانت الفرصة ما تزال سانحة لتحلق بالجزائر ، وهي الإقليم الذي ظنت فرنسا أنه سيبقى لمدة طويلة خاضعا لها، أقصى ما يمكن أن ينتزع من المغرب، وكانت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بقيادة فرحات عباس اعترفت أنه لا يمكن تحقيق الوفاق مع المغرب على حساب مشكلات الحدود ومطالب بلدي. لقد كان المغرب إذن غداة إعلان استقلال الجزائر محقا في تقديم بعض المطالب. بينما لم تكن الجزائر مرتاحة لأنها مصممة سلفا أن لا تعيد أي شيء للمغرب ، وبسبب ذلك وقعت أحداث الحدود مع بن بلة.