ثقافة البناء العشوائي وزيادة معدلات التحضر يسببان هبوط دلتا نهر النيل

يوسف بن تاشفين

التحالف يجمعنا🏅🎖
كتاب المنتدى
إنضم
15/1/19
المشاركات
63,402
التفاعلات
180,333
ثلاثة أنماط تميز هبوطات الدلتا بين عامي 2015 و2019، أعلاها في مدن وسط الدلتا، وأقلها على ساحل البحر المتوسط.

البناء العشوائي وزيادة معدلات التحضر يسببان هبوط دلتا نهر النيل

خريطة منطقة الدراسة من برنامج جوجل إيرث ونطاق صور الأقمار الصناعية "سنتينيل 1" Credit: Ashraf Rateb, and Abotalib Zaki


قبل أكثر من 5000 عام، استقرت دلتا نهر النيل على شكلها الثلاثي الأيقوني الحالي، والذي يشبه الحرف الرابع للأبجدية اليونانية (Δ). وتُعد الدلتا -التي تمتاز بمواردها الزراعية والصناعية والثقافية- موطنًا لأعداد غفيرة من سكان مصر، ولكن أراضيها الآن تهبط بشكل تدريجي.
أظهرت دراسة جديدة تناولت أسباب المشكلة، أن البناء العشوائي في العديد من مدن الدلتا السبب الرئيسي لهذا الهبوط، مخالفةً بذلك الاعتقاد السائد في دراسات سابقة، الذي يُرجع الهبوط إلى أسباب طبيعية، مثل انكماش التربة، أو الحركات التكتونية.

تميزت الدراسة -التي نُشرت أبريل الماضي، في مجلة "ساينس أوف ذا توتال إنفيرونمنت"- عن سابقاتها بحداثة الفترة الزمنية التي تغطيها، والتي تمتد في الفترة بين 2015 و2019، بالإضافة إلى الاعتماد على تقنيات حديثة في عمليات الرصد والقياس.

وتحظى قضية هبوط دلتا النيل بأهمية كبيرة، نظرًا إلى أن أراضيها تُعد أكثر الأراضي الزراعية خصوبةً في مصر، بالإضافة إلى أن تأثيرها يشمل مدنًا شديدة الحيوية، كمدن إقليم القاهرة الكبرى ومدينة الإسكندرية، وهى المساحة التي تستوعب معًا أكثر من 50 مليون نسمة.

كيف تهبط الدلتا

رصد باحثا الدراسة معدلات الهبوط الأرضي للدلتا وأنماطه، باستخدام البيانات المستخلصة من القمر الصناعي Sentinel-1 -التابع لوكالة الفضاء الأوروبية- ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS). يوضح الجيولوجي أبو طالب زكي -الباحث في جامعة ميشيجان الغربية" في الولايات المتحدة، والباحث المشارك في الدراسة- أن "التربة الرسوبية للدلتا تتكون من خليط من الطمي والرمال الناعمة والغرين، فهي تربة فيها فراغات ممتلئة بالهواء أو الماء، ومن ثم فهي عرضة للانضغاط بسهولة تحت التأثيرات الطبيعية والبشرية".

ويضيف "زكي": "تكونت هذه الرواسب من فيضانات نهر النيل خلال آلاف السنين، قبل أن تتوقف بعد حجزها أمام بحيرة السد العالي، ومع زيادة الضغط عليها عن طريق البنايات العشوائية المرتفعة وغير المدعومة بأساسات محكمة هندسيًّا ومتناسبة مع ارتفاعات المباني، تنضغط تربة الأساس وتنكمش الفراغات البينية المحملة بالهواء ويقل سُمكها تدريجيًّا، مما يؤدي إلى هبوطها".

ويُتوقع أن يزيد بناء أي سدود مستقبلية على مجرى النهر -مثل سد النهضة الإثيوبي- من نقص الرواسب، لكن هذا التأثير يظل محدودًا، خاصة وأن أثره تحقق بالفعل من السدود القائمة على مجرى النهر مثل السد العالي وخزان أسوان. لكن التأثير الأكبر المتوقع للسد الإثيوبي سيرتبط بفترة ملء خزانه، التي قد تتسبب في نقص حصة مصر من المياه، مما سيترتب عليه زيادة السحب الجائر للمياه الجوفية، وبالتالي زيادة احتمالات الهبوط، وفق تصريح "زكي" لـ"للعلم".

ويرى عبد الحميد كليو، أستاذ الجغرافيا الطبيعية المساعد بجامعة المنصورة، أن هناك أسبابًا للهبوط لا يمكن تجاهلها، وهي نتاج التدخلات البشرية حين يؤدي الإنسان وظيفة العامل الجيومورفولوجي، فيجرف التربة ويزيل الجسور، فضلًا عن التحميل الزائد للهياكل العمرانية على التربة. لكن "كليو" يشدد في تصريح لـ"للعلم" على التأثير الكبير لوقف إمدادات الرواسب الفيضية للدلتا، وهو ما أثر بشدة على بنيتها، كما عرَّض ساحلها لمخاطر التآكل.

أنماط الهبوط

ربط باحثا الدراسة بين العوامل البشرية، مثل زيادة معدلات التحضر والاستهلاك المفرط للمياه الجوفية، والعوامل الطبيعية، مثل انضغاط التربة أو معدلات تراكُم الرواسب السطحية. وحددت الدراسة ثلاثة أنماط للهبوط: النمط الأول في منطقة السهل الفيضي في وسط الدلتا، والثاني في المدن الساحلية، أما الثالث فيحدث في المناطق المستصلحة حديثًا على جانبي الدلتا.

وتُظهر النتائج التي توصلت إليها الدراسة أن مدن وسط الدلتا -مثل طنطا، والمحلة الكبرى، والزقازيق، والمنصورة، وميت غمر، وأبو كبير، والمحلة، والمنوفية- تهبط بمقدار 12 إلى 20 ملليمترًا في السنة (مم/ سنة)، في حين تهبط بعض المدن الواقعة على ساحل البحر المتوسط -مثل دمياط، وبلطيم- بمعدلات أقل تتراوح بين 3 إلى 8 مم/ سنة. وكشفت عمليات مراقبة الأراضي في مناطق الاستصلاح الزراعي في الظهيرين الصحراويين الشرقي والغربي للدلتا (مزارع الصالحية والنوبارية)، حدوث هبوطات بمعدلات تتراوح بين 6 إلى 20 مم/ سنة.

كما جرى رصد وقوع هبوط يتراوح من 5 مم/سنة إلى 8 مم/ سنة في دمنهور وكفر الشيخ وحول القاهرة الكبرى، ويُعزى الهبوط في هذه المدن إلى الحمل الزائد (الطرق والمباني) في المناطق الحضرية، التي تنهار فيها التربة غير المتماسكة، وتؤدي إلى تلف المباني والطرق، بالإضافة إلى تمزق خطوط الأنابيب. لكن، لماذا هبوط الدلتا؟
يشرح الجيولوجي "أشرف راتب"، الباحث في جامعة تكساس في أوستن، والباحث المشارك في الدراسة: يحدث النمط الأول في المدن الكبيرة، نتيجةً لحمل التربة والتوسع العمراني الرأسي والأفقي خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بالإضافة إلى الاستخدامات الزراعية، وهو - لحسن الحظ- يمكن السيطرة عليه. وينقسم استخدام الأراضي في مناطق السهل الفيضي إلى ثلاث فئات: أرض زراعية على مساحة 20.000 كم2؛ وأراضٍ رطبة على مساحة تصل إلى 1000 كم2، ومناطق مستصلحة على أطراف السهل. وأظهرت دراسات استخدام الأرض في الدلتا في الفترة بين 1994 و2018 زيادةً كبيرةً في الاستخدام الحضري للأراضي، خاصةً في مدن مثل المحلة والمنصورة وميت غمر وطنطا والزقازيق، ولوحظت فترات ذروة التوسع الحضري في الفترتين بين 2000 و2006 وبين 2012 و2019. كما تضاعفت مدينتا ميت غمر والزقازيق تقريبًا من عام 1994 (9 كم2 و12 كم2 على التوالي) إلى (16 كم2 و24 كم2 على التوالي) في عام 2018. واتسعت المساحة الإجمالية لهذه المدن من حوالي 69 كيلومترًا مربعًا في 1994 إلى 115 كيلومترًا مربعًا في 2018 مع معدل زيادة قدره 12.5 كيلومترًا مربعًا/ 6 سنوات.

مستوى المياه الجوفية

عزت الدراسات السابقة الهبوط الأرضي في مدن الدلتا الكبرى إلى الاستغلال المفرط للمياه الجوفية، الذي أدى إلى انضغاط الخزان الجوفي، لكن الدراسة الحالية تشير إلى عدم وجود دليل بشأن ضغط طبقة المياه الجوفية في الأجزاء الجنوبية والوسطى من الدلتا استجابةً لانخفاض مستوى المياه الجوفية، على العكس من ذلك، تَبيَّن أن طبقة المياه الجوفية الضحلة مرتبطة هيدرولوجيا مع المسطحات المائية السطحية، بما في ذلك فروع النيل وقنوات الري، ويتم تجديدها باستمرار خلال التدفق السنوي للنيل، وري الأراضي الزراعية.

جدير بالذكر أن مدينة ميت غمر التي تشهد هبوطًا كبيرًا يصل إلى 20 مم في السنة، لم تُظهر أي انخفاض كبير (أقل من 0.5 متر) في مستويات المياه الجوفية خلال الفترة بين 1991 و2004. وتُظهر نمذجة تدفق المياه الجوفية أنه حتى مع مضاعفة معدلات الاستخراج الحالية حول مدينتي المنصورة والمحلة، فلن يحدث انخفاض كبير في المياه الجوفية (أقل من متر). لذلك، من غير المحتمل أن يكون ضغط طبقة المياه الجوفية -نتيجة السحب المفرط للمياه- قد تَسبَّب في الهبوط في مدن الدلتا الرئيسية.

أما النمط الثاني، فيميز المدن الساحلية؛ إذ تهبط بمعدلات أقل نتيجة لعوامل رص أو دمك التربة Sediments Compaction، حين تنضغط طبقات الطمي الموجودة بصورة طبيعية بسبب قلة الطمي الواصل إلى تلك المدن نتيجة بناء السدود، فتتسارع عملية الهبوط. ويشرح الباحث أنه بطول الخط الساحلي الذي يبلغ ارتفاع أرض الدلتا فيه حوالي متر واحد، يحدث تراكم للرواسب الطينية نتيجةً للعمليات الجيولوجية، وهو ما يؤدي إلى ضغط هذه التربة الطينية المتشبعة بالمياه. ومع زيادة التحميل الطبيعي عليها، تنكمش وتهبط. وتراوح معدل الهبوط في الإسكندرية بين 3 و5 ملم/ سنة خلال الفترة من 2001 إلى 2019. في حين تراوح معدل الهبوط في مدن رشيد ودمياط وبورسعيد بين 3 و5 ملم/ سنة خلال الفترة بين 2015 إلى 2019. وتوضح الدراسة أن استخراج المياه الجوفية له تأثير محدود على هبوط الأرض في الخزان الجوفي الساحلي، بسبب الملوحة والتغذية السريعة بواسطة الأمطار. كما لم تتمكن الدراسة من إثبات دور لاستخراج الغاز من حقل أبو ماضي غربي الإسكندرية في عملية الهبوط.

ويضيف الباحث: النمط الثالث يُعد الأحدث، ويحدث في الأراضي المستصلحة على جانبي الدلتا نتيجةً لسحب المياه الجوفية بمعدلات جائرة لاستخدامها في الري، بحيث تصل الخزانات إلى نقطة غير متزنة بين الوارد إليها من مياه الأمطار -أو المياه السطحية- وعمليات السحب، فيحدث الهبوط، كما في شمال الدلتا. رصدت الدراسة معدلات هبوط أعلى في غرب الدلتا (مثل منطقة النوبارية) مقارنةً بمعدلات شرق الدلتا (منطقة الصالحية). إذ يتراوح معدل الهبوط في النوبارية بين 16 و20 ملم في السنة، أما في الصالحية فيتراوح معدل الهبوط بين 6 و12 ملم في السنة. وتتوقع الدراسة حدوث هبوطات في هوامش الدلتا نتيجة السحب المفرط للمياه الجوفية الذي ارتفع من 1.6 جيجا طن في عام 1980 إلى 6.1 جيجا طن في عام 2018، مع زيادة متوقعة إلى 6.5 جيجا طن في عام 2020، متجاوزًا صافي التغذية السنوية في طبقة المياه الجوفية المقدر بـ2.6 جيجا طن.

يشير "راتب" إلى أن بيانات القمر الصناعي (Sentinel-1) التي تراقب الأرض على فترات متكررة كل 12 يومًا، بغض النظر عن حالة الظروف الجوية، سهلت رصد هذه الأنماط الثلاثة والعوامل المسببة لها. إذ يرسل المستشعر الخاص بالقمر الصناعي موجات رادارية إلى سطح الأرض، ثم يستقبل الجزء المنعكس منها، والذي يحمل كل المعلومات عن سطح الأرض في تلك اللحظة. ومع تكرار زيارات القمر للنقطة نفسها من سطح الأرض، يمكن حساب معدلات الهبوط وتحديد أسبابه باستخدام برامج رياضية.

ويستطرد "زكي": "هذه النتائج جرت مقارنتها بنتائج رصد محطة الـGPS المتاحة بمدينة الإسكندرية، في حين لم تستعن الدراسة ببيانات رصد محطة حلوان، التي تقتصر بياناتها على الفترة بين 2001 و2003، وهي فترة لا تغطيها الدراسة. كما استخدمت أيضًا بيانات من القمر الصناعي الأمريكي "لاندسات" لحساب زيادة معدلات الأراضي الزراعية في الفترة ما بين 1984 و2019 وبيانات أقمار صناعية أخرى لحساب معدلات الزيادة في المدن كل 6 سنوات، في الفترة ما بين 1994 و2019".

تدابير مطلوبة

ولتجنُّب الأثر المدمر للهبوط المستمر للأراضي في دلتا النيل، توصي الدراسة باتخاذ بعض التدابير اللازمة من قِبَل السلطات لإدارة التوسع الحضري في المدن الكبرى، واعتماد لوائح صارمة لإدارة معدل استغلال المياه الجوفية بما يتفق مع صافي التغذية السنوية في طبقة المياه الجوفية في المناطق المستصلحة حديثًا شرق وغرب دلتا النيل.

يوضح "زكي" أنه "لحسن الحظ" فإن هبوط منسوب الدلتا هو غالبًا هبوط موضعي في نقاط محددة، وليس هبوطًا نطاقيًّا على امتداد جغرافي كبير، والأهم من ذلك أن هذا الهبوط يحدث غالبًا نتيجة عمليات بشرية وليست عمليات طبيعية، وبالتالي يمكن التحكم فيه عن طريق تشديد القواعد والتراخيص لإنشاء بنايات محكومة هندسيًّا وبارتفاعات لا تؤثر بشكل كبير على التربة، ومراقبة كردون المباني للمدن والقرى بشكل يمنع التوسعات الأفقية العشوائية.

"بالنسبة للمناطق المستصلحة، يجب ربط معدلات سحب المياه بمعدلات الوارد إلى هذه الخزانات، وتقنين عمليات الري نفسها وإحلال الري بالتقطير محل الري بالغمر، واختيار أنواع محاصيل قليلة استهلاك المياه. أما في المدن الساحلية، فلا بد من إعادة النظر في تنظيم هذه المدن من ناحية البناء ومعالجة التربة، وإنشاء حواجز بين الساحل والمدن لصد موجات الأعاصير"، يقول "زكي".
وتشدد الدراسة على أهمية إجراء دراسات تجريبية على انضغاطية التربة تحت المناطق الحضرية لتقدير حجم الإجهاد الذي تتعرض له والتنبؤ بالهبوط. كما تلفت إلى أهمية الاستعانة ببيانات حديثة للتمكُّن من رصد الهبوطات وتحديد كيفية التعامل معها. ويجب أن تراعي الدراسات التي تقيِّم تأثير ارتفاع مستوى سطح البحر على دلتا النيل أن الهبوط في السهل الفيضي في الدلتا ليس متناسقًا ولكنه موضعي في المدن الرئيسية. كما توصي الدراسة بزيادة عدد محطات الـGPS الدائمة، ووضع معايير لعلامات الرفع المساحي، وتوفير بيانات مراقبة طبقة المياه الجوفية الضحلة في دلتا النيل؛ لتسهيل رصد التشوهات والهبوطات في الدلتا.

 
عودة
أعلى