الدولة العثمانية : معلومات و وثائق وصور وتراجم

لادئاني

مستشار المنتدى
إنضم
16/12/18
المشاركات
27,908
التفاعلات
76,796

أسماء_السلاطين_العثمانيين_وزوجاتهم.jpg


الدَّوْلَةُ العُثمَانِيَّة، أو الدَّوْلَةُ العَلِيَّةُ العُثمَانِيَّة (بالتركية العثمانية: دَوْلَتِ عَلِيّهٔ عُثمَانِيّه - بالتركية الحديثة: Yüce Osmanlı Devleti) أو الخِلَافَةُ العُثمَانِيَّة،


هي إمبراطورية إسلامية أسسها عثمان الأول بن أرطغرل، واستمرت قائمة لما يقرب من 600 سنة، وبالتحديد من 27 تموز \ يوليو 1299م حتى 29 تشرين الأول \ أكتوبر 1923م


العثمانيون هم سلالة من قبيلة قايي التركية التي تنتمي الى القبيلة الاكبر وهم قبيلة الاغوز التركية .. مسقط الاتراك الرئيسي هو اواسط اسيا ( بلاد ما وراء النهر ) وأشهر مدنهم : بخارى - سمرقند - مرو - ترمذ - نسا - فسا - طشقند - فرغانة -خوارزم


نزحت القبيلة في عهد زعيمها "كنذز ألب" إلى المراعي الواقعة شماليّ غربي أرمينيا قرب مدينة خلاط، عندما استولى المغول بقيادة جنكيز خان على خراسان و هذه العشيرة تركت منطقة خلاط حوالي سنة 1229م تحت ضغط الأحداث العسكرية التي شهدتها المنطقة، بفعل الحروب التي أثارها السلطان جلال الدين الخوارزمي التركماني وهبطت إلى حوض نهر دجلة.


توفي "كندز ألب" في العام التالي لنزوح عشيرته إلى حوض دجلة، فترأس العشيرة ابنه سليمان شاه ، ثم حفيده "أرطغرل" الذي ارتحل مع عشيرته إلى مدينة إرزنجان ، وكانت مسرحًا للقتال بين السلاجقة التركمان حكام الاناضول والخوارزميين التركمان حكام خراسان ، فالتحق بخدمة السلطان السلجوقي علاء الدين سلطان قونية، إحدى الإمارات السلجوقية التي تأسست عقب انحلال دولة السلاجقة العظام، وسانده في حروبه ضد الخوارزميين، فكافأه السلطان السلجوقي بأن أقطع عشيرته بعض الأراضي الخصبة قرب مدينة أنقرة.


وظل أرطغرل حليفًا للسلاجقة حتى أقطعه السلطان السلجوقي منطقة في أقصى الشمال الغربي من الأناضول على الحدود البيزنطية، في المنطقة المعروفة باسم "سُكُود" حول مدينة أسكي شهر، حيث بدأت العشيرة هناك حياة جديدة إلى جانب إمارات تركمانية سبقتها إلى المنطقة.


علا شأن أرطغرل لدى السلطان بعد أن أثبت إخلاصه للسلاجقة، وأظهرت عشيرته كفاءة قتالية عالية في كل معركة ووجدت دومًا في مقدمة الجيوش وتمّ النصر على يدي أبنائها، فكافأه السلطان بأن خلع عليه لقب "أوج بكي"، أي محافظ الحدود، اعترافًا بعظم أمره. فاستولى ارطغرل على مدينة أسكي شهر وضمها إلى أملاكه، واستطاع أن يوسع أراضيه خلال مدة نصف قرن قضاها كأمير على مقاطعة حدودية، وتوفي في سنة 1281م عن عمر يُناهز التسعين عامًا،بعد أن خُلع عليه لقب كبير آخر هو "غازي"، تقديرًا لفتوحاته وغزواته.





مرحلة عثمان الأول المؤسس
-------------




تولّى زعامة الإمارة بعد أرطغرل إبنه البكر عثمان ، فأخلص الولاء للدولة السلجوقية التركمانية على الرغم مما كانت تتخبط فيه من اضطراب وما كان يتهددها من أخطار.أظهر عثمان في بداية عهده براعة سياسية في علاقاته مع جيرانه، فعقد تحالفات مع الإمارات التركمانية المجاورة، ووجه نشاطه العسكري نحو الأراضي البيزنطية لاستكمال رسالة دولة سلاجقة الروم بفتح الأراضي البيزنطية كافة، وإدخالها ضمن الأراضي الإسلامية، وشجعه على ذلك حالة الضعف التي دبت في جسم الإمبراطورية البيزنطية وأجهزتها، وانهماكها بالحروب في أوروبا، فأتاح له ذلك سهولة التوسع باتجاه غربي الأناضول، وفي عبور الدردنيل إلى أوروبا الشرقية الجنوبية. ومن الناحية الإدارية، فقد أظهر عثمان مقدرة فائقة في وضع النظم الإدارية لإمارته، بحيث قطع العثمانيون في عهده شوطًا كبيرًا على طريق التحول من نظام القبيلة المتنقلة إلى نظام الإدارة المستقرة، ما ساعدها على توطيد مركزها وتطورها سريعًا إلى دولة كبرى. وقد أبدى السلطان السلجوقي علاء الدين كيقباد الثالث تقديره العميق لخدمات عثمان، فمنحه لقب " عثمان غازي حارس الحدود العالي الجاه، عثمان باشا".


أقدم عثمان بعد أن ثبّت أقدامه في إمارته على توسيع حدودها على حساب البيزنطيين، ففي عام 1291م فتح مدينة "قره جه حصار" الواقعة إلى الجنوب من سُكُود، وجعلها قاعدة له، وأمر بإقامة الخطبة باسمه،وهو أول مظهر من مظاهر السيادة والسلطة، ومنها قاد عشيرته إلى بحر مرمرة والبحر الأسود. وحين تغلب المغول على دولة قونية السلجوقية، سارع عثمان إلى إعلان استقلاله عن السلاجقة ولقّب نفسه "پاديشاه آل عثمان" أي عاهل آل عثمان، فكان بذلك المؤسس الحقيقي لهذه الدولة التركية الكبرى التي نُسبت إليه لاحقًا.


وظلّ عثمان يحكم الدولة الجديدة بصفته سلطانًا مستقلاً حتى تاريخ 6 أبريل سنة 1326م، الموافق فيه 2 جمادى الأولى سنة 726هـ، عندما احتل ابنه "أورخان" مدينة بورصة الواقعة على مقربة من بحر مرمرة، وفي هذه السنة توفي عثمان عن عمر يناهز السبعين عامًا، بعد أن وضع أسس الدولة ومهد لها درب النمو والازدهار، وخُلع عليه لقب آخر هو "قره عثمان"، وهو يعني "عثمان الأسود" باللغة التركية الحديثة، لكن يُقصد به "الشجاع" أو "الكبير" أو "العظيم" في التركية العثمانية.





مرحلة حكم اورخان الأول
----




عُني أورخان بتنظيم مملكته تنظيمًا محكمًا، فقسمها إلى سناجق أو ولايات، وجعل من بورصة عاصمةً لها، وضرب النقود باسمه، ونظّم الجيش، فألّف فرقًا من الفرسان النظاميين، وأنشأ من الفتيان المسيحيين الروم والأوروبيين الذين جمعهم من مختلف الأنحاء جيشًا قويًا عُرف بجيش الإنكشارية.وقد درّب أورخان هؤلاء الفتيان تدريبًا صارمًا وخصّهم بامتيارات كبيرة، فتعلقوا بشخصه وأظهروا له الولاء.


وعمل أورخان على توسيع الدولة، فكان طبيعيًا أن ينشأ بينه وبين البيزنطيين صراعٌ عنيف كان من نتيجته فتحه لـ مدينتيّ إزميد ونيقية. وفي عام 1337م شنّ هجومًا على القسطنطينية عاصمة البيزنطيين نفسها، ولكنه أخفق في فتحها . ومع ذلك فقد أوقعت هذه الغزوة الرعب في قلب إمبراطور الروم "أندرونيقوس الثالث"، فسعى إلى التحالف معه وزوجه ابنته. ولكن هذا الزواج لم يحل بين العثمانيين وبين الاندفاع إلى الأمام، وتثبيت أقدامهم سنة 1357م في شبه جزيرة غاليبولي، وهكذا اشتد الخطر العثماني على القسطنطينية من جديد.


شهد المسلمون في عهد أورخان أوّل استقرار للعثمانيين في أوروبا، وأصبحت الدولة العثمانية تمتد من أسوار أنقرة في آسيا الصغرى إلى تراقيا في البلقان، وشرع الدعاة يدعون السكان إلى اعتناق الإسلام. توفي أورخان الأول في سنة 1360م بعد أن أيّد الدولة الفتيّة بفتوحاته الجديدة وتنظيماته العديدة، وتولّى بعده ابنه "مراد الله"، الملقب بمراد الأول




 


1- السلطان السلجوقي كافأ سليمان شاه زعيم ققبيلة قايي الجد الاكبر للعثمانيين باعطائه ثغراً في مملكتة مع البيزنطيين بمساحة 2000 كم مربع وتوفي سليماه شاه 1258 م



2- ارطغرل خلف والده في قيادة القبيلة ووسع حكمه على حساب البيزنطيين لتصبح مساحتها 4800 كم مربع وتوفي سنة 1288 م عن عمر 93 عاماً



3 - عثمان الأول أكبر أولاد أرطغرل خلف والده ونال من الباد شاه سلطان سلاجقة الروم لقب ( بيك ) ...1298 م اسقط المغول دولة سلاجقة الروم فقام عثمان الاول بضم بعض الامارات السلجوقية لسلطنته واتخذ من مدينة ( يني شهر ) عاصمة له وأصبح لقبه ( الباد شاه ) وتم تأسيس مملكته 1299 م وتوفي 1326 م ومساحة سلطنته 8000 كم مربع



4- أورهان ( أور خان ) الأول : توسع حتى بحر مرمرة واتخذ من ( بورصة ) عاصمة له وفي عهده تم تعيين العلم العثماني وصك عملة الاقجة

وأهم انجازاته تأسيس فرق (( الانكشارية ( يني شاري ) أي الجيش الجديد )) الجبارة ....كما أحدث لقب ( الباشا )

توفي 1363 م ومساحة سلطنته وصلت الى 100000 كم مربع

 
التعديل الأخير:

مراد الأول
-----


الملكُ العادل والسُلطانُ الغازي الخُداوندگار أبو الفتح غيَّاثُ الدُنيا والدين مُراد خان الأوَّل بن أورخان بن عُثمان القايوي التُركماني

ثالث سلاطين آل عُثمان وأوَّل من تلقَّب بِلقب سُلطانٍ بينهم، بعد أن كان والده أورخان وجدِّه عُثمان يحملان لقب «أمير» أو «بك» فقط



بعد وفاة اورخان الاول 1360 م خلفه ابنه مراد ..وكان عُمره 36 عامًا وقتها، واستمرَّ حُكمه 31 سنة تمكَّن خلالها من توسيع نطاق إمارته حتَّى أصبحت قوَّة إقليميَّة كبيرة.

شهد عهده تطوراً ملحوظاً في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية، إذ لأول مرة شهدت الدولة العثمانية تطبيق النظام المركزي في إدارتها، حيث طور أجهزة الدولة السياسية والإدارية، واستحدث أجهزة ومناصب لم تكن موجودة من قبل، أبرزها إنشاء منصب "قاضي العسكر".

كما اهتم بالمؤسسة العسكرية، فطوّر تشكيلاتها، واهتم بالأسلحة، والتدريب العسكري، كما كان له دور بارز في نشر التعليم وبناء المدارس، كما وشهد الاقتصاد العثماني انتعاشاً في عهده بفضل زيادة رقع البلاد، وارتفاع عدد سكانها.


كانت فاتحة أعمال مراد الأول السيطرة مدينة أنقرة مقر إمارة القرمان التركمانية السلجوقية ، وذلك أن أميرها واسمه علاء الدين، أراد انتهاز فرصة انتقال المُلك من السلطان أورخان إلى ابنه مراد لإثارة حمية الأمراء التركمان المجاورين وتحريضهم على قتال العثمانيين التركمان ليقوضوا أركان ملكهم الآخذ في الامتداد يومًا فيومًا، فكانت عاقبة دسائسه أن فقد أهم مدنه.وتحالف مراد مع بعض أمراء الأناضول مقابل بعض التنازلات لصالح العثمانيين، وأجبر آخرين على التنازل له عن ممتلكاتهم، وبذلك ضمّ جزء من الممتلكات التركمانية إلى الدولة العثمانية.


ضمَّ الكثير من البلاد إلى مُمتلكاته وإلى ديار الإسلام، وأجبر أُمراء الصرب والبلغار وحتَّى الإمبراطور البيزنطي يُوحنَّا الخامس پاليولوگ على الخُضوع له ودفع جزية سنويَّة لِلدولة العُثمانيَّة حيث وجّه مراد الاول اهتمامه نحو شبه جزيرة البلقان التي كانت في ذلك الحين مسرحًا لتناحر دائم بين مجموعة من الأمراء الثانويين، ففتح مدينة أدرنة سنة 1362م ونقل مركز العاصمة إليها لتكون نقطة التحرك والجهاد في أوروبا بعد ان كانت بورصة هي العاصمة سابقا ، وقد ظلت عاصمة للعثمانيين حتى فتحوا القسطنطينية في وقت لاحق، كما تم فتح عدّة مدن أخرى مثل صوفيا وسالونيك، وبذلك صارت القسطنطينية محاطة بالعثمانيين من كل جهة في أوروبا.

فاستولى سنة 1383م على مدينة صوفيا في بلغاريا، ثُمَّ سالونيك في مقدونيا، وشنَّ عدَّة غارات على عديدٍ من القلاع والحُصُون في شمال بلاد اليونان، فاضطَّرب لِذلك المُلوك المسيحيُّون المُجاورون وطلبوا من البابا أوربان الخامس أن يتوسَّط لدى مُلوك أوروپَّا الغربيين لِيُساعدوهم على مُحاربة المُسلمين وإخراجهم من أوروپَّا خوفًا من امتداد فُتُوحاتهم إلى ما وراء جبال البلقان، فلبَّى البابا نداءهم ودعا إلى حملةٍ صليبيَّةٍ لِلدفاع عن القارَّة الأوروپيَّة ضدَّ المُسلمين.

وفي 19 جُمادى الآخرة 791هـ المُوافق فيه 12 حُزيران (يونيو) 1389م، التقت الجُيُوش العُثمانيَّة بِالقوى الصربيَّة - تُساندُها قوىٍ من المجر والبلغار والأرناؤوط (الألبانيين) - في سهل قوصوه (كوسوڤو)، فدارت بين الفريقين معركةٌ عنيفة قُتل فيها السُلطان مُراد غدرًا على يد جُندي صربي تظاهر بِالموت، ولكنَّ العُثمانيين لم يلبثوا أن نظَّموا صُفوفهم تحت قيادة بايزيد بن مُراد، فهزموا القُوَّات الصليبيَّة هزيمة شنعاء.



كان مُراد الأوَّل أوَّل سُلطانٍ عُثمانيٍّ يموت في أرض المعركة، والوحيد من سلاطين بني عُثمان الذي قُتل في الحرب
، وأُضيف إلى ألقابه بعد وفاته لقب «السُلطان الشهيد».

تكمن أهميَّة مُراد الأوَّل بِنجاحه في الارتقاء بِالإمارة العُثمانيَّة إلى طور الدولة، وقد مهَّدت وضعيَّة فُتوحاته السبيل لِتطوير النظام الإنكشاري وإحداث تغييرات هامَّة في نُظم الإمارة، ما ساعد على وضع أُسس الهيكل المركزي فيها.وكما كان حالُ والده وجدِّه من قبل، عاش مُراد حياةً زاهدةً أقرب إلى حياة المُتصوفين، فكان لباسه لِباس الدراويش عكس ما تُصوِّره اللوحات، واشتهر بِقلَّة كلامه وحُبِّه مُجالسة العُلماء والتفقُّه بِالشريعة الإسلاميَّة،

وقد وصفه المؤرخ الفرنسي «كرينارد» بِقوله: «كَانَ مُرَاد أَحَد أَكبَر رِجَال آل عُثمَان، وَإِذَ قَوَّمنَا تَقويمًا شَخصيًّا، فَقَد كَان في مُستوى أَعلَى مِن كُلِّ حُكَّامِ أوروپَّا».[


خريطة الدولة العثمانية قبل وبعد استلام مراد الأول

753px-3_-Murad_I_map-ar.png


خريطة الامارات التركمانية في الاناضول من بينها العثمانية في مطلع عهد مراد الأول:


800px-E%C5%9Frefo%C4%9Fullar%C4%B1_Beyli%C4%9Fi%27nin_konumu-ar.png


بلاد الافلاق ( رومانيا حاليا ) والبغدان ( مولدافيا حاليا )
800px-BG-1371-ar.jpg






بايزيد الأول الصاعقة
---


صاعقةُ الإسلام سُلطانُ إقليم الرُّوم الغازي جلالُ الدين يلدرم بايزيد خان الأوَّل بن مُراد بن أورخان العُثماني

«يلدرم» كلمة تُركيَّة تعني «البرق» أو «الصاعقة»، وهو لقب أطلقهُ السُلطان مُراد الأوَّل على ابنه بايزيد لِسُرعة تحرُّكه وتنقُله بِرفقة الجُند، لِذلك كثيرًا ما يُعرف هذا السُلطان في المصادر العربيَّة باسم «بايزيد الصاعقة» أو «بايزيد البرق».

هو رابع سلاطين آل عُثمان وثاني من تلقَّب بِلقب سُلطانٍ بينهم بعد والده مُراد، وهو أيضًا ثاني سُلطانٍ عُثمانيٍّ صاحب جُذورٍ تُركمانيَّة - بيزنطيَّة. والدته هي گُلچيچك خاتون.

تولَّى بايزيد عرش الدولة العُثمانيَّة بعد مقتل والده مُراد في معركة قوصوه، وأثبت كفاءته العسكريَّة وقُدراته التنظيميَّة لمَّا تمكَّن من قيادة الجُيُوش العُثمانيَّة إلى النصر على الصليبيين في المعركة المذكورة.

ورث بايزيد عن أبيه دولةً واسعةً، فانصرف إلى تدعيمها بِكُل ما يملك من وسائل. ثُمَّ إنهُ انتزع من البيزنطيين مدينة فيلادلفية، وكانت آخر مُمتلكاتهم في آسيا الصُغرى، وأخضع البُلغار سنة 1393م إخضاعًا تامًا. وجزع الغرب عندما سمع بِأنباء هذا التوسُّع الإسلامي في أوروپَّا الشرقيَّة، فدعا البابا بونيفاس التاسع إلى شن حربٍ صليبيَّةٍ جديدةٍ ضدَّ العُثمانيين. وقد لبَّى النداء عدد من مُلُوك أوروپَّا كان في مُقدمتهم سيگيسموند اللوكسمبورغي ملك المجر بعد أن أنشأ جيشًا من المُتطوعين المُنتسبين إلى مُختلف بُلدان أوروپَّا الغربيَّة. ولكنَّ بايزيد هزم جُنُود سيگيسموند في معركة نيقوپولس وردَّهم على أعقابهم.

وقد حاصر بايزيد القُسطنطينيَّة مرَّتين مُتواليتين، ولكنَّ حُصُونها المنيعة ثبتت في وجه هجماته العنيفة، فارتدَّ عنها .

ولم ينسَ بايزيد وهو يُوجِه ضرباته الجديدة نحو الغرب، أنَّ المغول يستعدُّون لِلانقضاض عليه من جهة الشرق، وخاصَّةً بعد أن ظهر فيهم رجلٌ عسكريٌّ جبَّار هو تيمور بن طرقاي الگوركاني الشهير باسم «تيمورلنك»، والمُتحدِّر من سُلالة جنكيز خان. لِذلك عمل بايزيد على تعزيز مركزه في آسيا الصُغرى استعدادًا لِلموقعة الفاصلة بينه وبين تيمورلنك. وهكذا خفَّ الضغط العُثماني على البيزنطيين وتأخَّر سُقُوطُ القُسطنطينيَّة في أيدي المُسلمين خمسين سنةً ونيفًا.


وكانت هناك عوامل، وأسباب ساهمت في إِيجاد صراعٍ بين تيمورلنك، وبايزيد، منها:

1 ـ لجوء أمراء العراق الَّذين استولى تيمور على بلادهم إِلى بايزيد، كما لجأ إِلى تيمور بعض أمراء آسيا الصُّغرى، وفي كلا الجانبين كان اللاجئون يحرِّضون من استجاروا به على شنِّ الحرب ضدَّ الطَّرف الآخر.

2 ـ تشجيع النَّصارى لتيمورلنك، ودفعه للقضاء على بايزيد.

وكان الزَّعيمان تيمورلنك، وبايزيد يسعى كلٌّ منهما لتوسيع دولته.


تقدَّم تيمورلنك بجيوشه، واحتلَّ سيواس، وأباد حاميتها الَّتي كان يقودها الأمير أرطغرل بن بايزيد، والتقى الجيشان قرب أنقرة في عام 804هـ/1402م وكانت قوات بايزيد تبلغ 120000 مجاهد لملاقاة خصمه، وزحف تيمورلنك على رأس قوَّات جرارة في 20 يوليو 1402م (804هـ) وانتصر المغول، ووقع بايزيد في الأسر، وظلَّ يرسف في أغلاله حتَّى وافاه الأجل في السَّنة التَّالية.

وكانت الهزيمة بسبب اندفاع، وعجلة بايزيد، فلم يحسن اختيار المكان الَّذي نزل فيه بجيشه، الَّذي لم يكن يزيد عن مئة وعشرين ألف مقاتلٍ، بينما كان جيش خصمه لا يقل عن ثمانمئة ألفٍ، ومات كثير من جنود بايزيد عطشاً لقلَّة الماء، وكان الوقت صيفاً شديد القيظ، ولم يكد يلتقي الجيشان في أنقرة حتَّى فرَّ الجنود التَّتار، الَّذين كانوا في جيش بايزيد، وجنود الإِمارات الآسيوية الَّتي فتحها منذ عهدٍ قريبٍ، وانضمُّوا إلى جيش تيمورلنك، ولم يُجْدِ السُّلطان العثماني بعد ذلك ما أظهره هو وبقيَّة جيشه من الشَّجاعة، والاستماتة في القتال.

لقد فرحت الدُّول النَّصرانيَّة في الغرب بنصر تيمورلنك، وهزَّها الطَّرب لمصرع بايزيد، وما آلت إِليه دولته من التفكُّك، والانحلال، وبعث ملوك إِنجلترا، وفرنسا، وقشتالة، وإِمبراطور القسطنطينية إِلى تيمورلنك يهنئونه على ما أحرزه من النصر العظيم، والظفر المجيد، واعتقدت أوربا: أنَّها تخلَّصت إِلى الأبد من الخطر العثمانيِّ الَّذي طالما روَّعها، وهدَّدها.

واستولى تيمورلنك بعد هزيمة بايزيد على أزنيق، وبروسة، وغيرها من المدن والحصون، ثمَّ دك أسوار أزمير، وخلَّصها من قبضة فرسان رودس (فرسان القدِّيس يوحنَّا) محاولاً بذلك أن يبرر موقفه أمام الرأي العام الإِسلاميِّ، الذي اتَّهمه بأنَّه وجَّه ضربةً شديدةً إِلى الإِسلام بقضائه على الدَّولة العثمانيَّة، وحاول تيمورلنك بقتاله لفرسان القدِّيس يوحنَّا أن يضفي على معارك الأناضول طابع الجهاد.



اشتهر بايزيد في التاريخ بِشخصيَّته القويَّة، فكسب احترام الجيش والحُكَّام والشعب، وعُرف عنه إرادته الصُلبة وذكاؤه وجسارته، كما اشتهر بانفتاحه العقلي، لكنَّهُ كان يميل إلى الهيمنة، ولا يهتم كثيرًا بِآراء الآخرين، فافتقر بِذلك إلى فن الحُكم الذي اتصف به والده. وكان يتصرَّف باستعلاء في علاقاته مع القوى المسيحيَّة. تنسب عدَّة روايات إليه شُرُوعه بِعادة قتل الإخوة، إذ قيل أنَّهُ أوَّل سُلطان عُثماني قتل أخاه لِضمان عدم مُنافسته على السُلطة.

وقيل أيضًا أنَّهُ أوَّل سُلطانٍ عُثماني ظهر بِمظهر الأُبَّهة، فارتدى الملابس المُخمليَّة المُطرَّزة بِالذهب، وتناول الطعام من أطباقٍ ذهبيَّةٍ وفضيَّة، فخرج بِذلك عن أُسلُوب عيش أبيه مُراد وجدَّاه أورخان وعُثمان الذين كانوا يعيشون حياةً زاهدة أقرب إلى حياة المُتصوفة والدراويش، وقيل أيضًا أنَّهُ أوَّل من احتسى الخمر في الأُسرة العُثمانيَّة. كما اشتهر بايزيد الأوَّل بِحُبِّه الكبير لِلصيد وبِموهبته الشعريَّة المُميزة
.


الوضع السياسي لِلأناضول سنة 1393م بُعيد انتهاء حملة السُلطان بايزيد على الإمارات التُركمانيَّة في سبيل ضمِّها في جسم الدولة العُثمانيَّة.
800px-Historical_map_of_Turkey_AD_1393-ar.png


الحُدُود التقريبيَّة لِلدولة العُثمانيَّة بُعيد انتهاء بايزيد الأوَّل من فُتُوحاته في الروملِّي ومن توحيد الأناضول وقُبيل اندلاع الحرب مع المغول.
Yildirim-Beyazid-d%C3%B6nemi-ar.jpg


خط سير تيمورلنك وجُيُوشه من القفقاس إلى قلب الأناضول ثُمَّ إلى إزمير (السهم الأخضر).
800px-%D9%85%D9%8A%D9%84%D8%A7%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9_%D9%88%D8%AA%D9%88%D8%B3%D8%B9%D9%87%D8%A7_%D8%AD%D8%AA%D9%89_%D9%86%D9%87%D8%A7%D9%8A%D8%A9_%D8%B9%D9%87%D8%AF_%D8%B3%D9%84%D9%8A%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84.jpg



مُخطط معركة أنقرة يُوضح تموضع الجيشان العُثماني والمغولي قبل اندلاع القتال بينهما، وأبرز المعالم الطبيعيَّة والمُستوطنات البشريَّة في المنطقة.
800px-Ankara_Sava%C5%9F%C4%B1_plan-ar.svg.png


الحالة التي أصبحت عليها الدولة العُثمانيَّة بعد معركة أنقرة ووفاة السُلطان بايزيد واستقلال بكوات الأناضول.
800px-%D8%AE%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A9_%D8%B9%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9_%D9%84%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A%D9%85%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9_%D9%88%D9%84%D9%84%D8%A3%D9%86%D8%A7%D8%B6%D9%88%D9%84.jpg
 
التعديل الأخير:

5- مراد الأول فتح ( أدرنة ) واتخذها عاصمة ثم فتح صوفيا وبلغاريا وتمدد بالبقان وجرت معركة كوسوفو الاولى ...توفي 1389 ....

مساحة دولته : 500000 كم مربع منها : 291000 بلقان و 208000 الاناضول





6 - بيازيد الاول الملقب بـ يلدريم ( الصاعقة ) ... ... مساحة دولته وصلت لـ 942000 كم مربع .. وصل لأعتاب فيينا



1402 م حصلت معركة بينه وبين تيمور لنك في انقرة انتهت بانتصار تيمور لنك ثم مقتل بايزيد بالأسر ...

خسرت السلطنة العثمانية بسبب حملة تيمور لنك 500000 كم مربع حيث احتلها تيمور لنك واستقل الاوربيون عنها

 
التعديل الأخير:

عصر الفترة
=====


بعد هزيمة العثمانيين امام تيمور لنك ومقتل بيازيد الصاعقة ... تصارع أبناء بيازيد الصاعقة على الحكم لمدة 11 سنة حتى انتصر بالنهاية محمد الاول المعروف بمحمد جلبي وهي فترة عقيمة في التاريخ العُثماني، إذ لم تحصل فيها توسُّعات وفُتُوحات ولم يعمل العُثمانيُّون على استرداد ما سلبهم إيَّاه تيمورلنك بعد أن هزمهم في واقعة أنقرة، بل ادَّعى كُلُّ ابنٍ من أبناء بايزيد الأوَّل: سُليمان وعيسى وموسى ومُحمَّد، الأحقيَّة لِنفسه في خِلافة أبيه، وتنازعوا بينهم أشلاء الدولة المُمزقة رُغم تربُّص الأعداء بهم من كُل جانب، إلَّا أنَّ النصر كان من نصيب مُحمَّد في نهاية المطاف، فانفرد بِمُلك ما تبقَّى من بلاد آل عُثمان،

مُمتلكات أبناء بايزيد في كُلٍ من الأناضول والروملِّي بعد انهزام العُثمانيين في معركة أنقرة
%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9_%D8%A8%D8%B9%D8%AF_%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%83%D8%A9_%D8%A3%D9%86%D9%82%D8%B1%D8%A9.png



7- محمد الأول جلبي :

السُلطان الغازي الغيَّاثي مُمهِّد الدولة والدين چلبي مُحمَّد خان الأوَّل بن بايزيد بن مُراد العُثماني ...ويُعرف اختصارًا باسم مُحمَّد الأوَّل أو مُحمَّد چلبي

المؤسس الثاني للسلطنة العثمانية ...تولَّى مُحمَّد چلبي عرش الدولة العُثمانيَّة بعد فترة صراعٍ بينه وبين إخوته دامت نحو 11 سنة (804 - 816هـ \ 1402 - 1413م)، وكانت مُدَّة حُكمه كُلُّها حُروبًا داخليَّةً لِإرجاع الإمارات التي استقلَّت في مُدَّة الفوضى التي أعقبت موت السُلطان بايزيد في الأسر.

دام مُلك هذا السُلطان حوالي 8 سنوات أعاد لِلسلطنة خِلالها الرونق الذي كادت تخسره بِحرب تيمورلنك، وكان شُجاعًا محبوبًا ذا سياسة،

بعض المصادر أنَّ مُحمَّد الأوَّل كان مُتناسق الجسد وقويُّ البُنية ولبقًا في حديثه وتعامله​
وهو أوَّلُ سُلطانٍ عُثمانيٍّ أرسل الهديَّة السنويَّة إلى شريف مكَّة، التي أُطلق عليها اسم «الصرَّة»، وهي عبارة عن قدرٍ مُعيَّنٍ من النُقُود يُرسل إلى الشريف لِتوزيعه على فُقراء مكَّة والمدينة المُنوَّرة،

كما عُرف عنهُ تديُّنه وحرصه على تطبيق مبادئ الشريعة الإسلاميَّة، حتَّى أنَّهُ نقل العاصمة من أدرنة المُلقبة «مدينة الغُزاة»، إلى بورصة المُلقبة «مدينة الفُقهاء».

كما قيل أنَّهُ كان موهوبًا بِالكتابة ونظم الشعر بِاللُغتين الفارسيَّة والعربيَّة، وشغوفًا باقتناء الكُتُب المُختلفة، و«مهووسًا» بِعمل الخير.

قضى السُلطان مُحمَّد چلبي على إمارة صاروخان التركمانية الاناضولية خِلال دور الفترة مُنذ سنة 1410م، واعترفت أكثريَّة الإمارات التُركمانيَّة الأناضوليَّة التي أحياها تيمورلنك بِسيادة بني عُثمان عليها مُنذُ عهد الفترة، لكن رُغم ذلك فإنَّ الأراضي التي كانت تحت حماية أو حُكم العُثمانيين في سنة 1413م، تراجعت مساحتها بِمقدار 247,000 كيلومتر مُربَّع عمَّا كانت عليه في عهد السُلطان بايزيد الأوَّل سنة 1402م، وهذه خسارةٌ كبيرة لا يُستهان بها.

بلغت مساحة الأراضي الخاضعة لِحُكم مُحمَّد چلبي في سنة 1413م نحو 694,000 كيلومتر مُربَّع، منها 368,000 كلم2 في الأناضول و376,000 كلم2 في الروملي، تدخل ضمنها بلاد إمارات تكَّة وآيدين وذي القدريَّة والأفلاق والصرب وراگوزة. أمَّا إمارات كرميان وجندرلي ومُنتشا والقرمان، فقد كانت تدعي الاستقلال تمامًا أو تعترف بِسيادة بني تيمور.

وكانت إمارة القرمان أشد تلك الإمارات نزعةً نحو الاستقلال ولطالما كان موقف حُكَّامها تجاه العُثمانيين مُتقلِّبًا، إذ كانت ترمي إلى إحياء سلطنة سلاجقة الروم عبر ضم جميع الإمارات التُركمانيَّة الأناضوليَّة تحت جناحها، لِذلك اتخذت تلك الإمارة موقفًا مُعاديًا من العُثمانيين خِلال فترة توسعاتهم في آسيا الصُغرى، وأذعنت لهم وحالفتهم لمَّا أيقنت عدم قُدرتها على مُقارعتهم، ثُمَّ عاد أُمرائها وأشهروا العصيان في أقرب فُرصة مُمكنة، ولم يتغيَّر الأمر في عهد السُلطان مُحمَّد الأوَّل،

أبرز أعماله
--------​
مُسالمة البيزنطيين والأوروپيين مؤقتا

الحرب ضد الامارات التركمانية الاناضولية التي حاولت الاستقلال عن العثمانيين في الأناضول
حصار امارة القرماني التركمانية لمدينة بُورصة العثمانية
قتال الأمير جُنيد بن إبراهيم الآيديني
قتال أمير القرمان التركماني​

الحرب في أوروپَّا
-------------​

فُتُوحات بلاد الأرناؤوط
الحملة البحريَّة على جُزر بحر إيجة
المعركة البحريَّة الأولى بين العُثمانيين والبنادقة
الحملة على الأفلاق ( جنوب رومانيا حاليا )
الصُلح مع البُندُقيَّة
الحملة على المجر
فتح أفلونية​

توفي في أدرنة 1421 م



موقع الإمارة القرمانيَّة بِالنسبة لِلدولة العُثمانيَّة والجوار الأناضولي وسائر البلاد القريبة. انتزع السُلطان مُحمَّد بعض البلاد منها عقابًا لِأميرها على عصيانه.
200px-Eastern_Mediterranean_1450.svg.png
 
التعديل الأخير:

حركة عصيان وثورة الشيخ بدر الدين والنصيريين ضد الدولة العثمانية وتمكن السلطان محمد الأول من القضاء عليها
----------------------------
-------------------------



لم يكد السُلطان مُحمَّد الأوَّل يفرغ من حملاته في أوروپَّا ويُعيد لِلدولة هيبتها، ويضعها على الطريق الذي سيُرجع لها مجدها وقُوَّتها الكبيرة السابقة، حتَّى ظهرت لهُ مُشكلة جديدة على درجةٍ عاليةٍ من الخُطُورة، تتمثَّل بِعصيان قاضي العسكر السابق، زمن الشاهزاده موسى چلبي، الشيخ بدر الدين محمود بن إسرائيل السماوني، الذي عاد السُلطان مُحمَّد وعزله ثُمَّ نفاه إلى أزنيق ووضعه في الإقامة الجبريَّة بعد أن رتَّب لهُ معاشًا يليقُ به.


ينحدرُ الشيخ بدر الدين من سلاجقة الروم التركمان ، على الأغلب، فوالده ابن أُخت السُلطان السُلجُوقي علاءُ الدين كيقباد بن فراموزس، ووُلد ابنه بدر الدين في زمن السُلطان مُراد الأوَّل بِقرية «سماونة»، وهي إحدى قُرى أدرنة، التي عُيِّن أبوه قاضيًا لها وأميرًا على عسكر المُسلمين فيها، وكان فتح تلك القرية على يديه أيضًا لمَّا رافق السُلطان المذكور في حملته على اليونان.

تلقَّى بدر الدين عُلُومه الأولى على يد والده، فحفظ القُرآن، ثُمَّ ذهب إلى أدرنة حيثُ تتلمذ على يد المولى المُشتهر بِالشَّاهدي، وتعلَّم الصرف والنحو على يد المُلَّا يُوسُف، ودرس على يد قاضي بورصة مُحمَّد أفندي والعلَّامة فيض الله في قونية، فتلقَّى من الأخير عُلُومًا شتَّى ومنها الفلك. انتقل بعد ذلك إلى مصر وأكمل دراساته العُليا في الجامع الأزهر، فقرأ على يد الشريف الجُرجاني والعالم مُبارك شاه المنطقي، وحجَّ مع هذا الأخير سنة 758هـ، وقرأ بِمكَّة على يد الشيخ جمال الدين الزيلعي، ثُمَّ تابع دُروسًا في التصوُّف على يد الشيخ حُسين الأخلاطي الساكن بِمصر وقتئذٍ، وبِتأثيرٍ من هذا الرجُل مال بدرُ الدين إلى التصوُّف وأولع بِالإلهيَّات والفلسفة والمنطق، وأصبح مُعلمًا لِوليِّ العهد زين الدين فرج بن برقوق، فكان عالمًا مُحترمًا بِمعايير التُراث الإسلامي السُني الواسع.

لكنَّ تصوُّف الشيخ بدر الدين قاده بعيدًا، فأرسله مُعلِّمه حُسين الأخلاطي إلى تبريز لِلإرشاد، ولمَّا استقرَّ فيها دخل في نقاشاتٍ علميَّةٍ مع العُلماء الإيرانيين، فاعترفوا بِفضله، وقرَّبهُ تيمورلنك إليه بعد أن أُعجب بِسعة علمه، فأكرمه ومنحهُ مالًا جزيلًا. وعاش مُدَّةً في مدينة قزوين، المعروفة بِشُيُوع الأفكار الباطنيَّة فيها.

وبعد موت أُستاذه حُسين الأخلاطي في مصر، عاد إليها، وعرج في طريقه على العراق حيثُ زار العتبات المُقدَّسة الشيعية ، ولمَّا وصل القاهرة خلف أُستاذه في رئاسة زاويته لِمُدَّة ستَّة أشهر، ما لبث بعدها أن غادر مصر إلى بيت المقدس فدمشق فحلب، ثُمَّ عاد إلى الأناضول مع جُيُوش تيمورلنك المُتوجهة لِقتال العُثمانيين بِقيادة السُلطان بايزيد

عند هذه النُقطة، بدأت مرحلة جديدة من حياة الشيخ بدر الدين، حيثُ عاش وطاف في بلادٍ أغلب أهلها من النُصيريين في آسيا الصُغرى والبلقان، مثل بعض بلاد إمارتيّ القرمان وكرميان، ومانيسا ودلِّي أورمان، كما كان الكثير من أهالي البلاد الأُخرى مسيحيين بقوا على دينهم بعد أن افتُتحت بلادهم، ومنهم الروم والبُلغار والصربيين والأفلاقيين والأرناؤوطيين، وكانوا ما يزالون في مرحلة التثاقف مع المُسلمين والتعرُّف على الدين الإسلامي، فعرفت تلك المُجتمعات أحاسيس دينيَّة مُتضاربة، زادها تضارُبًا التزاوج المُختلط بين الرجال المُسلمين والنساء المسيحيَّات، أو بين الرجال المسيحيين الذين أشهروا إسلامهم وتزوَّجوا بِنساءٍ مُسلماتٍ، وهُم ما زالوا غير مُنخرطين تمامًا في الثقافة الإسلاميَّة، وما زالت المُؤثرات الثقافيَّة البيزنطيَّة العريقة مُتجذرة في نُفُوسهم.

وإلى جانب هؤلاء، عاشت جماعاتٌ من اليهود السفارديين الهاربين من محاكم التفتيش في الأندلس، وانخرطت في هذا المزيج العجيب من الأقوام والأديان واللُغات والثقافات، ويبدو أنَّ الجميع تنازعتهم الحاجة إلى ملء فراغهم الروحي، أو تبديد هواجسهم العميقة، أو الاستجابة لمن يدعوهم إلى مُعتقدٍ جديد.

وقد دأب السلاطين العُثمانيين، مُنذُ عهد السُلطان أورخان بن عُثمان، على عقد الندوات الدينيَّة لاستمالة ودعوة الرعايا الجُدد من أهالي المناطق المفتوحة إلى الإسلام، فكانوا يسدُّون فراغهم الروحي بِهذه الطريقة ويضمنون عدم حُصُول اضطرابات ثقافيَّة أو فكريَّة بِقدر الإمكان، لكنَّ هزيمة أنقرة وتزعزع أركان الدولة، وقتال أبناء بايزيد، ثُمَّ انصراف السُلطان مُحمَّد إلى إعادة هيبة دولته، ترك مجالًا لِبعض الأشخاص الآخرين كي يتولُّوا هذه المُهمَّة.

ومن هذا المُنطلق، شكَّل الشيخ بدر الدين جماعةً من المُريدين لمَّا عاد إلى أدرنة، وتقرَّب من الشاهزاده موسى چلبي، الذي تأثَّر بِأفكاره وعلمه، فعيَّنهُ قاضيًا لِلعسكر كما أُسلف، ثُمَّ سقط معه ونُفي إلى أزنيق، لكنَّهُ فرَّ من مكان إقامته ولجأ إلى أمير قسطموني عزُّ الدين إسفنديار بك الجندرلي، وحاول الهُروب إلى بلاد التتر بِالقرم، فلم يأذن لهُ إسفنديار خوفًا من السُلطان مُحمَّد، فأرسله إلى بلدة «زغرة» بالروملِّي، حيثُ أخذ يدعو إلى مذهبه القائم على المُساواة بين الأديان السماويَّة الثلاثة: الإسلام والمسيحيَّة واليهوديَّة.

والواقع أنَّ الشيخ بدر الدين كوَّن فلسفةً خاصَّةً به: باطنيَّة صوفيَّة اجتماعيَّة، وكانت نظرته إلى الدُنيا وقضاياها وما يجري فيها من أحداث مُمتلئة بِالشك، لِذا مال فكره إلى الواقعيَّة، ونظر إلى الله والعالم على أنهما واحد، وتضمَّن مُؤلَّفه الشهير، وهو «كتاب الواردات»، أهم أفكاره القائمة على: وحدة الوُجُود، وإنكار الجنَّة وجهنَّم ويوم القيامة والملائكة والشياطين، وقصَّر الشهادة على نصفها الأوَّل أي «لا إله إلَّا الله» وحذف نصفها الثاني أي «مُحمَّد رسول الله»، ودعا إلى الزُهد المُطلق والمهدي المُنتظر. وقال بِتطوُّر الشريعة الإسلاميَّة كُلَّما تغيَّر العصر، وسعى إلى تحقيق المُساواة من واقع إلغاء الملكيَّة الفرديَّة، وقال إنَّ الثروات ملكٌ لِلشعب، فكان فكره أشبه بِالفكر الاشتراكي الذي ظهر في الغرب بعد بضعة قُرُون، واتهم الطبقات الغنيَّة بِأنها تتوارى وراء الأديان من أجل مصالحها، وكان يقوم بِنفسه بِالتجوال بين الناس، مُلاحظًا ودارسًا لِبُنية المُجتمع، وخلص إلى أنَّ لا حقَّ لِأحد في حرمان الناس من استخدام الأرض التي هي ملك الله، واتهم أصحاب الإقطاعات المُتكاثرة في الأناضول والروملِّي بِالتسلُّط واستغلال الناس.

ومن هُنا بدأت حملة الشيخ بدر الدين ضدَّ الإقطاع مُستندةً على مُرتكزٍ سياسيٍّ، فاستغلَّ الأوضاع السياسيَّة المُضطربة في البلاد العُثمانيَّة وفراغ السُلطة، بعد نكسة أنقرة، ثُمَّ أتبع حملته من الناحية الاقتصاديَّة بِأنَّ توالي الحُرُوب الأهليَّة بين أبناء بايزيد الأوَّل أدَّى إلى خراب الكثير من القُرى، وإتلاف المزروعات، فانتشرت البطالة وعمَّ الفقر والظُلم الطبقات الشعبيَّة، وتعطَّلت الحياة الاقتصاديَّة. وازداد سخط الطوائف على ما آلت إليه الحالة الاجتماعيَّة من تردٍّ، يُضاف إليها الاضطراب الفكري والثقافي الذي كانت تعيشه، فكان من الطبيعي أن تتعلَّق بِمُخلِّص، وكان الشيخ بدر الدين أفضل من يقوم بِهذا الدور، وذلك بِقدر ما كان وجيهًا ومُنحدرًا من أوساط تتمسَّك بِنقاء العقيدة، وأيَّده السپاهيَّة وأصحاب التيمارات الذين حُرموا من تيماراتهم، وظاهره النصارى من أرباب الإقطاعات، وسانده اليهود، إذ انتشرت دعوته بين نصارى الدولة بِشكلٍ واسعٍ جدًا، كما انتشرت بين اليهود بِنسبةٍ أقل، وكذلك بين المُسلمين.

ويُؤكِّد هذا الكلام المُؤرِّخ البيزنطي «دوكاس» الذي كان يعيش قريبًا من المناطق التي انطلق منها الثُوَّار، حيثُ تابع الأحداث الجارية، وقتئذٍ، باهتمامٍ بالغٍ، فيقول أنَّ ثورة بدر الدين لقيت تأييدًا قويًّا من الجماهير المسيحيَّة ومن خالطها، إذ بدا عليها الارتباك والتعثُّر حيال المسائل الدينيَّة؛ ولِذلك فقد سعت لِإيجاد وسائل لِلتعايش السلمي.

خصَّ أتباع الشيخ بدر الدين زعيمهم هذا بِالنُبُوَّة، فقادهم في ثورته على الدولة العُثمانيَّة بِهدف امتلاك العالم وتقسيمه بينهم بِقُوَّة العلم وسر التوحيد، وإبطال قوانين أهل التقليد ومذهبهم وتحليل بعض المُحرَّمات، فكان يقول: «إِنِّي سَأَثُورُ مِن أَجلِ امتِلَاكِ العَالَم، وَبِاعتِقَادَاتِي ذَاتِ الإِشَارَاتِ الغَيبِيَّةِ سَأُقسِمُ العَالَمَ بِينَ مُرِيدِيِّ بِقُوَّةِ العِلمِ وَسِرِّ التَوحِيدِ، وَسِأُبطِلُ قَوَانِينَ أَهلِ التَقلِيدِ وَمَذهَبِهِم، وِسَأُحَلِّلُ - بِاتِسَاعِ مَشَارِبِي - بَعضَ المُحَرَّمَاتِ».

وساعده في نشر أفكاره مُريدان كانا على درجةٍ عاليةٍ من الحيويَّة والنشاط، أحدُهُما يُدعى «طورلاق كمال»، يُقال أنَّ أصله يهودي، وكان يدعو في جهات أماسية وفي المناطق التي يكثر فيها النُصيريُّون،والآخر هو «پيرقليجه مُصطفى» (أي صاحب العلم مُصطفى) المعروف بِـ«ده ده سُلطان»، وهو مسيحي اعتنق الإسلام، وكان على علاقةٍ وطيدةٍ مع رُهبان جزيرة ساقز، ويُنادي بِالمزج بين المسيحيَّة والإسلام، وكان يدعو في مناطق إزمير وفي قره بورون


اتصف الشيخ بدر الدين بِالتأنِّي والحنكة السياسيَّة، فلم يُعطِ أتباعه إشارة البدء بِالثورة إلَّا عندما كانت الدولة مُنهمكة في لمِّ شعثها وهي غارقةٌ في بحرٍ من الفوضى والدماء، فأوعز إلى مُريده طورلاق كمال بِالبدء بِالثورة في مانيسا وآيدين، وفي الوقت نفسه راح پيرقليجه مُصطفى يجمع الأتباع حوله في جبل أستيلاريوس عند الطرف الجنوبي من خليج إزمير، في قره بورون، وأغار على المناطق المُجاورة. وتمادى الثائرون في غاراتهم حتَّى أضحت تُهدد أمن الدولة، فأخذوا في نشر مذهبهم بِالقُوَّة وتعرَّضوا لِلناس والأموال، وقتلوا الآلاف، فخيف على الدولة العُثمانيَّة من امتداد المذهب الجديد،[ مما دفع السُلطان مُحمَّد إلى إعطاء الأوامر لِقادته لِلتصدي لِلحركة ومن يقودها.

وعلى الرُغم من أنَّ بيزنطة كانت تُؤيِّد هذه الحركة بِقُوَّة، رُغم السلام القائم بينها وبين السُلطان العُثماني، أملًا منها في تقويض الدولة العُثمانيَّة واجتثاثها من جُذُورها
، إلَّا أنَّ الكنيسة الروميَّة الأرثوذكسيَّة عارضتها كونها هدَّدتها كما هدَّدت الدولة العُثمانيَّة، وساهم رجالُ الدين الروم الأرثوذكس في مُقاومة الشيخ بدر الدين وأتباعه والحيلولة دون تمدد مذهبه.

أمر السُلطان حاكم إزمير إسكندر بن يُوحنَّا شيشمان، ابن آخر قياصرة البُلغار، الذي اعتنق الإسلام، بِالتصدي لِلثائرين في منطقة إزمير، وكان پيرقليجه مُصطفى مُتحصنًا في شعاب جبل أستيلاريوس، فسار إليه إسكندر على رأس جيشٍ جرَّار، وما أن تلاقى الجيشان حتَّى انهزم جيش السُلطان وقُتل قائده المذكور، ولمَّا علم مُحمَّد الأوَّل بما أصاب جيشه، حشد جيشًا آخر وولَّى على قيادته الصدر الأعظم بايزيد باشا الأماسيلِّي والشاهزاده مُراد، وكلَّفهُما بِمُحاربة الثائرين.

والتقى الجيش العُثماني بِجيش الثائرين في ضواحي إزمير وتغلَّب عليه، ووقع پيرقليجه مُصطفى وكثيرًا من أتباعه في الأسر، فأقام عليهم الصدر الأعظم حد الحرابة وقتلهم جميعًا، ثُمَّ تحوَّل نحو مانيسا حيثُ تصدَّى لِطورلاق كمال، فهزمه وقبض عليه وصلبه.

وهكذا أُخمدت الثورة بعد انتشارها بِشكلٍ خطر، ما دفع الشيخ بدر الدين إلى الفرار نحو دبروجة، واستقرَّ في بلدة دلِّي أورمان البُلغاريَّة، لِيُدير الثورة منها، والمعروف أنَّ هذه المنطقة كانت مأوى لِلباطنيَّة، وتعُجُّ بِأتباع بابا إسحٰق، الذي قاد ثورةً باطنيَّةً مُسلَّحةَ ضدَّ سلطنة سلاجقة الروم في سنة 638هـ المُوافقة لِسنة 1240م، وفي هذه البلدة توسَّعت حركة عصيان الشيخ مُجددًا وتقوَّت بِفضل ما حصلت عليه من دعمٍ ماديٍّ وعسكريٍّ من أمير الأفلاق ميرݘه الأوَّل، وعندما سمع السُلطان مُحمَّد بِذلك قام بِنفسه لِحرب الشيخ بدر الدين، واتخذ من مدينة سيرس مركزًا لِقيادته، وأرسل جيشًا إلى الشيخ فقاتله وهزمه، وفرَّ الأخير بعد هزيمته وحاول أن يتوارى عن الأنظار، إلَّا أنَّ اثنين من قادته خاناه وسلَّماه لِلسُلطان.

وعندما تقابل الرجُلان قال السُلطان مُحمَّد لِلشيخ: «مَا لِي أَرَى وَجهَكَ قَد اصفّرَّ؟»، فأجابه: «إِنَّ الشَّمسَ يَا مَولَاي، تَصفَرُّ عِندَمَا تَقتَرِبُ مِنَ الغُرُوبِ».

أُقيمت مُناظرة علميَّة حُرَّة بين الشيخ بدر الدين وعُلماء الدولة الكبار، ثُمَّ أُقيمت محكمة شرعيَّة، ترك القُضاة فيها الكلمة الأخيرة لِلمُتهم نفسه لِيُصدر الحُكم الشرعي الذي يراه. وأصدر الشيخ بدر الدين حُكمه بِنفسه على نفسه، وكان الإعدام. وأفتى المولى بُرهانُ الدين حيدر بن مُحمَّد الخوافي الهروي أنَّ دم الشيخ بدر الدين حلال استنادًا إلى الحديث النبويّ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ»، أمَّا ماله فحرام، فلم يمس أحدٌ من رجال السُلطة ماله، ثُمَّ أُعدم شنقًا على شجرةٍ في مدينة سيرس، وبِمقتله انتهت ثورة الباطنيَّة ضدَّ الدولة العُثمانيَّة.

===========
===========
===========


مناطق توزُّع النُصيريين في آسيا الصُغرى. جال الشيخ بدر الدين على الكثير من هذه المناطق أثناء رحلة عودته من مصر إلى الأناضول، وعاش في بعضها لِفترةٍ من الزمن، خلال الفترة التي شهدت حُروبًا بين أبناء السُلطان بايزيد وأزماتٍ معيشيَّةٍ عديدة عانى منها الناس نتيجة غزوات المغول ونكسة أنقرة. فكانت حركته بِمثابة ثورة سياسيَّة - اجتماعيَّة - اقتصاديَّة ناجمة عن الفوضى وعدم الاستقرار.
Alevis_in_Turkey.png



خريطة تُظهر حركة تنقُّل الشيخ بدر الدين ومناطق انطلاق دعوته في كُلٍ من الروملِّي والأناضول، ومناطق انطلاق حركة مُريداه طورلاق كمال وپيرقليجه مُصطفى.

761px-%D8%AD%D8%B1%D9%83%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE_%D8%A8%D8%AF%D8%B1_%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86.png



 
التعديل الأخير:
- مراد الثاني
---------


السلطان مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول الصاعقة بن مراد الأول بن أورخان غازي بن عثمان بن أرطغرل،

سادس سلاطين الدولة العثمانية،ولد السلطان "مراد الثاني" في مدينة "أدرنه" عام 1404م الموافق 806 للهجرة،

تولى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده السلطان "محمد الأول جلبي" في الفترة الممتدة ما بين عامي 1421م حتى 1451م، وهو في الثامنة عشر من عمره.


اشتهر بين قومه بالعدل والتقوى، وحبه الشديد للجهاد، كما اتصف بالشجاعة، وحبه للعلم وأحب اللغة العربية، ويُعَد أول من تعلم ومارس فن الخط العربي من سلاطين العثمانيين، كما أنه كان ينظم الشعر ويتقنه، وهو والد السلطان محمد الفاتح.

عمل السلطان "مراد الثاني" منذ توليه الحكم على إعادة بسط نفوذه على إمارات الأناضول التي انفصلت عن الدولة العثمانية بعد غزو "تيمور لنك"، فعقد هدنة مع المجر، وأبرم صلحًا مع أمير القرمان من أجل التفرغ لاستعادة السيطرة على إمارات الأناضول المنفصلة.

تمكن خلال فترة حكمه من القضاء على التمردات الداخلية التي قامت بزعامة عمه "مصطفى بن بايزيد" الذي تلقى دعمه المباشر من إمبراطور القسطنطينية "إيمانويل الثاني"، وذلك بعد أن رفض السلطان "مراد الثاني" طلب الإمبراطور "إيمانويل" الذي طالب بتعهد السلطان "مراد" بعدم محاربته مطلقا، وتسليمه أخواه كضمانة لهذا الاتفاق.

تمكن السلطان "مراد" عام 834 للهجرة من فتح "ألبانيا"، كما تمكن من استعادة "سالونيك" من البندقية، كما تمكن من الانتصار على ملوك أوروبا في واقعة "فارنا" عام 848 للهجرة، والتي تحالف فيها ملوك أوروبا بعد أن قام "بابا روما" بإقناع ملك المجر بنكث العهد الذي بينه وبين "مراد الثاني"، فجمعوا جموعهم والتقى الجيشان في مدينة "فارنا" البلغارية، حيث تمكن الجيش العثماني من دحر الجيش الصليبي بعد أن قُتِل ملك المجر في المعركة.




تخليه عن الحكم للمرة الاولى
----


وعقب ذلك توفي أكبر أولاد السلطان واسمه "علاء الدين"، فحزن عليه والده حزنًا شديدًا وسئم الحياة وأراد أن يتفرغ للعبادة؛ فتنازل عن الملك لابنه "محمد الثاني" (محمد الفاتح) البالغ من العمر أربع عشرة سنة، وسافر هو إلى ولاية آيدين للإقامة بعيدًا عن هموم الدنيا وغمومها.

لكنه لم يمكث في خلوته بضعة أشهر حتى أتاه خبر غدر المجر وإغارتهم على بلاد البلغار غير مراعين شروط الهدنة اعتمادًا على تغرير الكردينال "سيزاريني" (مندوب البابا) وتفهيمه لملك المجر أن عدم رعاية الذمة والعهود مع المسلمين لا تعدُّ حنثًا ولا نقضًا. ولما ورد عليه خبر هذه الخيانة ونكث العهد قام بجيشه لمحاربة المجر فوجدهم محاصرين لمدينة وارنة الواقعة على البحر الأسود، وبعد قليل اشتبك القتال بين الجيشين في ما تعرف بمعركة فارنا فقتل ملك المجر المدعو "لادسلاس" وتفرق الجند بعد ذلك، ولم تفد شجاعة هونياد شيئًا. وفي اليوم التالي هاجم العثمانيون معسكر المجر واحتلوه بعد قتال شديد قتل فيه الكردينال "سيزاريني" سبب هذه الحرب، وتم للعثمانيين الفوز في 12 نوفمبر سنة 1444م



تخليه عن الحكم للمرة الثانية
------


رجع السلطان إلى عزلته، لكنه لم يلبث فيها هذه المرة أيضًا؛ لأن عساكر الانكشارية ازدروا ملكهم الفتى محمد الثاني وعصوه ونهبوا مدينة أدرنة عاصمة الدولة، فرجع إليهم السلطان مراد الثاني في أوائل سنة 1445م وأخمد فتنتهم. وخوفًا من رجوعهم إلى إقلاق راحة الدولة أراد أن يشغلهم بالحرب فأغار على بلاد اليونان، وساعده على ذلك تقسيم إيمانويل الثاني (ملك الروم) بلاده بين أولاده بأن أعطى مدينة القسطنطينية وضواحيها إلى ابنه حنا، وبلاد مورة وثيبة وجزءًا من ثيساليا لابنه قسطنطين، وهو آخر ملوك الروم. ولما علم قسطنطين بعزم السلطان مراد على فتح بلاده حصن برزخ كورنته وبنى فيه قلاعًا جعلت اجتيازه غير ممكن، لكن سلط عليه السلطان مدافعه (ذكر المؤرخون أن هذا أوَّل استعمال للمدافع في جيوش الدولة العثمانية) حتى أحدث فيها ثلمًا دخلت منه الجيوش إلى مدينة كورنته ففتحها.



ولم يتمَّ فتح بلاد مورة لازدياد عصيان إسكندر بك وإثارته الفتن في بلاد ألبانيا، واكتفى بضرب الجزية على أهلها هذه المرة، ولما هدأ باله من جهة إسكندر بك عاود الكرة عليها، وإسكندر بك هذا هو أحد أولاد "جورج كستريو" (أمير ألبانيا الشمالية) الذين سبق ذكر أخذ السلطان لهم رهينة وضم بلاد أبيهم إليه بعد موته. وكان قد تظاهر بالإسلام، وأظهر الإخلاص للسلطان حتى قربه إليه. وفي سنة 1443م حينما كان السلطان مشتغلًا بمحاربة هونياد وملك الصرب ألزم كاتب أول الملك على أن يمضي له أمرًا بتوجيه إدارة مدينة "آق حصار" من أعمال بلاد ألبانيا إليه، وأخذ هذا الأمر بعد أن قتل ممضيه خوفًا من إفشاء سرِّه، وسار إلى هذا البلد ودخله، وفي الحال استدعى إليه رؤساء قبائل الأرنئود وأظهر لهم مشروعه، وهو استخلاص ألبانيا من يد الدولة العثمانية، فوافقوه على ما وسوسه لهم وأمدوه بالمال والرجال، فسار معهم وطرد العثمانيين من أغلب بلاد أجداده، وانتصر على القائد علي باشا سنة 1443م[5].

وساعده على امتداد نفوذه تنازل السلطان مراد واشتغاله بمحاربة المجر، لكن لما تمَّ النصر للسلطان في معركة فارنا واستتبَّ الأمن في بلاد اليونان جمع جيش لقمعه، فقصده بمائة ألف مقاتل واستردَّ منه مدينتين من أهم مدن ألبانيا سنة 1447م، ثم تركه حين بلغه خبر إغارة هونياد المجري على بلاد الصرب ليعيد لنفسه ما فقد من الشرف في معركة فارنا، وكان معه في هذه الدفعة أربعة وعشرون ألف رجل منهم عشرة آلاف من الفلاخ، فاصطدم الجيش العثماني بقيادة السلطان فانتصر عليه السلطان في 17 أكتوبر سنة 1448م[6]، كما انتصر السلطان مراد الأول على لازار (ملك الصرب) سنة 1389م في هذا الموقع، ثم عاد السلطان مراد الثاني لمحاربة إسكندر بك بألبانيا وحاصر مدينة قوص أوه، ولما لم يجد سبيلًا إلى فتحها لضعف جيوشه بسبب هذه الحروب المتواصلة أراد أن يتفق مع إسكندر بك على الصلح بأن يقلده السلطان إمارة بلاد ألبانيا في مقابلة جزية سنوية، ولما لم يقبل إسكندر بك هذا الاقتراح رفع السلطان الحصار عن المدينة وعاد إلى أدرنة عاصمة ممالكه ليجهز جيوشًا جديدة كافية لقمعه، لكنه توفي في يوم 9 فبراير سنة 1451م، وتولى بعده ابنه السلطان محمد الفاتح، ونقلت جثته إلى مدينة بورصة وسنه 49 سنة ومدة حكمه 30 سنة

توفي عام 1451 وعمره 47 سنة وخلفه ابنه محمد الثاني ( الملقب بالفاتح)

مساحة الدولة العثمانية بعهد مراد الثاني = 945000 كم مربع
 
التعديل الأخير:

السلطان محمد الثاني الفاتح
============


سابع سلاطين آل عثمان .

وُلد السلطان الغازي الفاتح محمد الثاني، للسلطان "مراد الثاني" و"هما خاتون"، فجر يوم الأحد بتاريخ 20 أبريل، 1429 م، الموافق في 26 رجب سنة 833 هـ في مدينة أدرنة، عاصمة الدولة العثمانية آنذاك.

عندما بلغ محمد الثاني ربيعه الحادي عشر أرسله والده السلطان إلى أماسيا ليكون حاكمًا عليها وليكتسب شيئاً من الخبرة اللازمة لحكم الدولة، كما كانت عليه عادة الحكّام العثمانيين قبل ذلك العهد. فمارس محمد الأعمال السلطانية في حياة أبيه، ومنذ تلك الفترة وهو يعايش صراع الدولة البيزنطية في الظروف المختلفة، كما كان على اطلاع تام بالمحاولات العثمانية السابقة لفتح القسطنطينية، بل ويعلم بما سبقها من محاولات متكررة في العصور الإسلامية المختلفة.

وخلال الفترة التي قضاها حاكماً على أماسيا، كان السلطان مراد الثاني قد أرسل إليه عددًا من المعلمين لكنه لم يمتثل لأمرهم، ولم يقرأ شيئاً، حتى أنه لم يختم القرآن الكريم، الأمر الذي كان يُعد ذا أهمية كبرى، فطلب السلطان المذكور، رجلاً له مهابةٌ وحِدَّة، فذُكر له المولى "أحمد بن إسماعيل الكوراني"، فجعله مُعلماً لولده وأعطاه قضيبًا يضربه به إذا خالف أمره، فذهب إليه، ودخل عليه والقضيب بيده، فقال: "أرسلني والدك للتعليم والضرب إذا خالفت أمري"، فضحك السلطان محمد الثاني من ذلك الكلام، فضربه المولى الكوراني في ذلك المجلس ضربًا شديدًا، حتى خاف منه السلطان محمد، وختم القرآن في مدة يسيرة.

هذه التربية الإسلامية كان لها الأثر الأكبر في تكوين شخصية محمد الفاتح، فجعلته مسلمًا مؤمنًا ملتزمًا بحدود الشريعة، مقيدًا بالأوامر والنواهي، مُعظماً لها ومدافعاً عن إجراءات تطبيقها، فتأثر بالعلماء الربانيين، وبشكل خاص معلمه المولى "الكوراني" وانتهج منهجهم.وبرز دور الشيخ "آق شمس الدين" في تكوين شخصية محمد الفاتح وبث فيه منذ صغره أمرين هما: مضاعفة حركة الجهاد العثمانية، والإيحاء دومًا لمحمد منذ صغره بأنه الأمير المقصود بالحديث النبوي، لذلك كان الفاتح يطمع أن ينطبق عليه حديث نبي الإسلام

تولى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده بتاريخ 18 فبراير عام 1451م وكان عمره آنذاك 22 سنة ولقد امتاز السلطان محمد الفاتح بشخصية فذة جمعت بين القوة والعدل كما أنه فاق أقرانه منذ حداثته في كثير من العلوم التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء وخاصة معرفته لكثير من لغات عصره وميله الشديد لدراسة التاريخ، مما ساعده فيما بعد على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال حتى أنه اشتهر أخيرًا في التاريخ بلقب محمد الفاتح، لفتحه القسطنطينية.



انتهج محمد الفاتح المنهج الذي سار عليه أجداده في الفتوحات، ولقد برز بعد توليه السلطة بقيامه بإعادة تنظيم إدارات الدولة المختلفة، واهتم كثيرًا بالأمور المالية فعمل على تحديد موارد الدولة وطرق الصرف منها بشكل يمنع الإسراف والبذخ أو الترف. وكذلك ركز على تطوير كتائب الجيش وأعاد تنظيمها ووضع سجلات خاصة بالجند، وزاد من مرتباتهم وأمدهم بأحدث الأسلحة المتوفرة في ذلك العصر. وعمل على تطوير إدارة الأقاليم وأقر بعض الولاة السابقين في أقاليمهم وعزل من ظهر منه تقصيرًا أو إهمال وطور البلاط السلطاني وأمدهم بالخبرات الإدارية والعسكرية الجيدة مما ساهم في استقرار الدولة والتقدم إلى الإمام وبعد أن قطع أشواطًا مثمرة في الإصلاح الداخلي تطلع إلى المناطق المسيحية في أوروبا لفتحها ونشر الإسلام فيها، ولقد ساعدته عوامل عدة في تحقيق أهدافه، منها الضعف الذي وصلت إليه الإمبراطورية البيزنطية بسبب المنازعات مع الدول الأوروبية الأخرى، وكذلك بسبب الخلافات الداخلية التي عمت جميع مناطقها ومدنها ولم يكتف السلطان محمد بذلك بل إنه عمل بجد من أجل أن يتوج انتصاراته بفتح القسطنطينية عاصمة الامبراطورية البيزنطية، والمعقل الاستراتيجي الهام للتحركات الغربية الصليبية ضد العالم الإسلامي لفترة طويلة من الزمن.


اعتلاؤه العرش للمرة الأولى وتنازله عنه
----


في 13 يوليو سنة 1444 م، الموافق 26 ربيع الأول سنة 848 هـ، أبرم السلطان مراد الثاني معاهدة سلام مع إمارة قرمان بالأناضول، وعقب ذلك توفي أكبر أولاد السلطان واسمه علاء الدين، فحزن عليه والده حزنًا شديدًا وسئم الحياة، فتنازل عن الملك لابنه محمد البالغ من العمر أربع عشرة سنة، وسافر إلى ولاية أيدين للإقامة بعيدًا عن هموم الدنيا وغمومها.[20] لكنه لم يمكث في خلوته بضعة أشهر حتى أتاه خبر غدر المجر وإغارتهم على بلاد البلغار غير مراعين شروط الهدنة اعتمادًا على تغرير الكاردينال "سيزاريني"، مندوب البابا، وإفهامه لملك المجر أن عدم رعاية الذمة والعهود مع المسلمين لا تُعد حنثًا ولا نقضًا.

وكان السلطان محمد الثاني قد كتب إلى والده يطلب منه العودة ليتربع على عرش السلطنة تحسبًا لوقوع معركة مع المجر، إلا أن مراد رفض هذا الطلب. فرد محمد الفاتح : «إن كنت أنت السلطان فتعال وقف على قيادة جيشك ورياسة دولتك وإن كنت أنا السلطان فإني آمرك بقيادة الجيش». وبناءً على هذه الرسالة، عاد السلطان مراد الثاني وقاد الجيش العثماني في معركة فارنا، التي كان فيها النصر الحاسم للمسلمين بتاريخ 10 نوفمبر سنة 1444 م، الموافق في 28 رجب سنة 848 هـ.

لم تطل إقامته أكثر من ثلاثة أشهر إذ اضطر للعودة إلى أدرنة قاعدة الدولة حيث استصغر قادة الجيش العثمانيين من الانكشارية السلطان الصغير، إذ عصوا أمره، ونهبوا المدينة، ووصل السلطان فأدب القادة وأشغلهم بالقتال في بلاد اليونان.

يُقال بأن عودة السلطان مراد الثاني إلى الحكم كان سببها أيضًا الضغط الذي مارسه عليه الصدر الأعظم "خليل جندرلي باشا"، الذي لم يكن مولعًا بحكم محمد الثاني، بما أن الأخير كان متأثرًا بمعلمه المولى "الكوراني" ويتخذ منه قدوة، وكان الكوراني على خلاف مع الباشا.



الفترة في مانيسا (1446-1451)
----


انتقل السلطان محمد الثاني إلى مانيسا الواقعة بغرب الأناضول بعد ثورة الإنكشارية عليه، وبعد أن جمعهم والده وانتقل لخوض حروبه في أوروبا. ليس هناك من معلومات كثيرة تفيد بالذي قام به السلطان محمد في الفترة التي قضاها في مدينة مانيسا، ولكن يُعرف أنه خلال هذه الفترة، تزوج السلطان بوالدة ولي العهد، كما كان يُطلق على زوجات السلاطين، "أمينة گلبهار" ذات الجذور اليونانية النبيلة،من قرية "دوفيرا" في طرابزون،والتي توفيت بعد ذلك عام 1492 بعد أن أنجبت السلطان بايزيد الثاني.

وكان السلطان مراد الثاني قد عاد إلى عزلته مرة أخرى بعد أن انتصر على المجر واستخلص مدينة فارنا منهم، لكنه لم يلبث فيها هذه المرة أيضا، لأن عساكر الإنكشارية ازدروا ملكهم الفتى محمد الثاني وعصوه ونهبوا مدينة أدرنة عاصمة الدولة، فرجع إليهم السلطان مراد الثاني في أوائل سنة 1445 وأخمد فتنتهم. وخوفًا من رجوعهم إلى إقلاق راحة الدولة، أراد أن يشغلهم بالحرب، فأغار على بلاد اليونان والصرب طيلة سنواته الباقية، وفتح عددًا من المدن والإمارات وضمها إلى الدولة العثمانية. تزوج السلطان محمد في هذه الفترة أيضا بزوجته الثانية "ستّي مكرم خاتون" الأميرة من سلالة ذي القدر التركمانية.

قام محمد الفاتح خلال المدة التي قضاها في مانيسا، بضرب النقود السلجوقية باسمه، وفي أغسطس أو سبتمبر من عام 1449، توفيت والدته، وبعد هذا بسنة، أي في عام 1450، أبرم والده صلحًا مع "اسكندر بك"، أحد أولاد "جورج كستريو" أمير ألبانيا الشمالية الذين كان السلطان مراد الثاني قد أخذهم رهائن وضمّ بلاد أبيهم إليه بعد موته. وكان اسكندر المذكور قد أسلم، أو بالأحرى تظاهر بالإسلام لنوال ما يكنه صدره وأظهر الإخلاص للسلطان حتى قرّبه إليه، ثم انقلب عليه أثناء انشغاله بمحاربة الصرب والمجر، وبعد عدد من المعارك لم يستطع الجيش العثماني المنهك استرجاع أكثر من مدينتين ألبانيتين، فرأى السلطان مصالحة البك ريثما يعود ليستجمع جيشه قوته ثم يعود لفتح مدينة "آق حصار".


اعتلاؤه العرش للمرة الثانية وفتح القسطنطينية
----

عاد السلطان مراد الثاني إلى أدرنة، عاصمة ممالكه ليُجهز جيوشًا جديدة كافية لقمع الثائر على الدولة، "اسكندر بك"، لكنه توفي في يوم 7 فبراير سنة 1451، الموافق في 5 محرم سنة 855هـ. وما أن وصلت أنباء وفاة السلطان إلى ابنه محمد الثاني، حتى ركب فوراً وعاد إلى أدرنة حيث توّج سلطانا للمرة الثانية في 19 فبراير من نفس العام، وأقام جنازة لوالده الراحل وأمر بنقل الجثمان إلى مدينة بورصة لدفنه بها،وأمر بإرجاع الأميرة "مارا" الصربية إلى والدها، أمير الصرب المدعو "جورج برنكوفيتش"، الذي زوّجها للسلطان مراد الثاني عندما أبرم معه معاهدة سلام قرابة عام 1428.

عندما تولى محمد الثاني الملك بعد أبيه لم يكن بآسيا الصغرى خارجًا عن سلطانه إلا جزء من بلاد القرمان ومدينة "سينوب" ومملكة طرابزون الروميّة. وصارت مملكة الروم الشرقية قاصرة على مدينة القسطنطينية وضواحيها. وكان إقليم "موره" مجزءاً بين البنادقة وعدّة إمارات صغيرة يحكمها بعض أعيان الروم أو الإفرنج الذين تخلفوا عن إخوانهم بعد انتهاء الحروب الصليبية، وبلاد الأرنؤد وإيبيروس في حمى إسكندر بك سالف الذكر، وبلاد البشناق المستقلة، والصرب التابعة للدولة العثمانية تبعية سيادية، وما بقي من شبه جزيرة البلقان كان داخلاً تحت سلطة الدولة كذلك.

الدولة العثمانية والدول والإمارات المحيطة بها عام 1450، أي قبل تربّع محمد الثاني على العرش بسنة واحدة.


673px-Eastern_Mediterranean_1450_-_Arabic.PNG

الهجوم على القسطنطينية
---



كان القسطنطينية محاطة بالمياه البحرية في ثلاث جبهات، مضيق البسفور، وبحر مرمرة ، والقرن الذهبي الذي كان محمياً بسلسلة ضخمة جداً تتحكم في دخول السفن إليه، بالإضافة الى ذلك فإن خطين من الأسوار كانت تحيط بها من الناحية البرية من شاطئ بحر مرمرة إلى القرن الذهبي، يتخللها نهر ليكوس، وكان بين السورين فضاء يبلغ عرضه 60 قدماً ويرتفع السور الداخلي منها 40 قدمًا وعليه أبراج يصل ارتفاعها إلى 60 قدماً،

وأما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه قرابة خمسةً وعشرين قدماً وعليه أبراج موزعة مليئة بالجند، وبالتالي فإن المدينة من الناحية العسكرية تعد من أفضل مدن العالم تحصيناً، لما عليها من الأسوار والقلاع والحصون إضافة إلى التحصينات الطبيعية، وبالتالي فإنه يصعب اختراقها، ولذلك فقد استعصت على عشرات المحاولات العسكرية لاقتحامها ومنها إحدى عشرة محاولة إسلامية سابقة كان السلطان الفاتح يكمل استعدادات القسطنطينية ويعرف أخبارها ويجهز الخرائط اللازمة لحصارها، كما كان يقوم بنفسه بزيارات استطلاعية يشاهد فيها استحكامات القسطنطينية وأسوارها، وقد عمل السلطان على تمهيد الطريق بين أدرنه والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة خلالها الى القسطنطينية، وقد تحركت المدافع من أدرنه الى قرب القسطنطينية، في مدة شهرين حيث تمت حمايتها بقسم الجيش حتى وصلت الأجناد العثمانية يقودها الفاتح بنفسه إلى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس 26 ربيع الأول 857هـ الموافق 6 أبريل 1453م.



وحاول البيزنطيون أن يبذلوا قصارى جهدهم للدفاع عن القسطنطينية ووزعوا الجنود على الأسوار، وأحكموا التحصينات وأحكم الجيش العثماني قبضته على المدينة. وبرزت عبقرية الفاتح أثناء الحصار، حيث لاحت للسلطان فكرة بارعة وهي نقل السفن من مرساها في بشكطاش إلى القرن الذهبي، وذلك بجرها على الطريق البري الواقع بين الميناءين مبتعدًا عن حي غلطة خوفًا على سفنه من الجنوبيين، وقد كانت المسافة بين الميناء نحو ثلاثة أميال، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلة ولكنها كانت وهاداً وتلالاً غير ممهدة.

لقد جُرت السفن من البوسفور البر حيث سحبت على تلك الأخشاب المدهونة بالزيت مسافة ثلاثة أميال، حتى وصلت إلى نقطة آمنة فأنزلت في القرن الذهبي، وتمكن العثمانيون في تلك الليلة من سحب أكثر من سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من العدو، بطريقة لم يسبق إليها السلطان الفاتح قبل ذلك، وقد كان يشرف بنفسه على العملية التي جرت في الليل بعيداً عن أنظار العدو ومراقبته.
5f37ea71-e581-40ab-a0a6-de575d14c6cf


كان هذا العمل عظيمًا بالنسبة للعصر الذي حدث فيه بل معجزة من المعجزات، تجلى فيه سرعة التفكير وسرعة التنفيذ، مما يدل على عقلية العثمانيين الممتازة، ومهارتهم الفائقة وهمتهم العظيمة.
لقد دهش الروم دهشة كبرى عندما علموا بها، فما كان أحد ليستطيع تصديق ما تم. لكن الواقع المشاهد جعلهم يذعنون لهذه الخطة الباهرة. ولقد كان منظر هذه السفن بأشرعتها المرفوعة تسير وسط الحقول كما لو كانت تمخر عباب البحر من أعجب المناظر وأكثرها إثارة ودهشة. ويرجع الفضل في ذلك إلى الله سبحانه وتعالى ثم الهمة السلطان وذكاءه المفرط، وعقليته الجبارة، وإلى مقدرة المهندسين العثمانيين، وتوفر الأيدي العاملة التي قامت بتنفيذ ذلك المشروع الضخم بحماس ونشاط. ظهر اليأس في أهل القسطنطينية وكثرت الإشاعات والتنبؤات بينهم، وانتشرت شائعة تقول: ستسقط القسطنطينية عندما ترى سفن تمخر اليابسة" وكان لوجود السفن الإسلامية في القرن الذهبي دور كبير في إضعاف الروح المعنوية لدى المدافعين عن المدينة الذين اضطروا لسحب قوات كبيرة من المدافعين عن الأسوار الأخرى لكي يتولوا الدفاع عن الأسوار الواقعة على القرن الذهبي إذ أنها كانت أضعف الأسوار، ولكنها في السابق تحميها المياه، مما أوقع الخلل في الدفاع عن الأسوار الأخرى.



فتح من الله ونصر قريب
---



عند الساعة الواحدة صباحًا من يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857هـ الموافق 29 مايو 1435م بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن أصدرت الأوامر للمجاهدين الذين علت أصواتهم بالتكبير وانطلقوا نحو الأسوار، وخاف البيزنطيون خوفًا عظيمًا، وشرعوا في دق نواقيس الكنائس والتجأ إليها كثير من النصارى وكان الهجوم النهائي متزامنًا بريًا وبحريًا في وقت، وكان الهجوم موزعًا على كثير من المناطق، ومع استبسال البيزنطيين وشجاعة العثمانيين كان الضحايا من الطرفين يسقطون بأعداد كبيرة.



بعد دخول قلب المدينة، توجه محمد الفاتح إلى كنيسة آيا صوفيا وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس ومعهم القسس والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، وعندما اقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها خوفًا عظيمًا، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان، فاطمأن الناس وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا إسلامهم، وقد أمر الفاتح بعد ذلك بتحويل الكنيسة إلى مسجد وأن يعد لهذا الأمر حتى تقام بها أول جمعة قادمة. وقد اعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينين الذين لهم حق الحكم في القضايا المدنية، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع.



أثر فتح القسطنطينية على العالم الأوروبي والإسلام

--

عم الفرح والابتهاج المسلمين في ربوع آسيا وأفريقيا فقد كان هذا الفتح حلم الأجداد وأمل الأجيال، ولقد تطلعت له طويلاً وها قد تحقق
ي
عتبر فتح القسطنطينية من أهم أحداث التاريخ العالمي، وخصوصًا تاريخ أوروبا وعلاقتها بالإسلام حتى عده المؤرخون الأوروبيون ومن تابعهم نهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة.

وقد تأثر الغرب النصراني بنبأ هذا الفتح، وانتاب النصارى شعور بالفزع والألم والخزي، وتجسم لهم خطر جيوش الإسلام القادمة من استنبول، وبذل الشعراء والأدباء ما في وسعهم لتأجيج نار الحقد وبراكين الغضب في نفوس النصارى ضد المسلمين، وعقد الأمراء والملوك اجتماعات طويلة، وتنادى النصارى إلى نبذ الخلافات بينهم.



وكان البابا نيقولا الخامس أشد الناس تأثرًا بنبأ سقوط القسطنطينية، وعمل جهده وصرف وقته في توحيد الدول الإيطالية وتشجيعها على قتال المسلمين، وترأس مؤتمرًا عقد في روما أعلنت فيه الدول المشتركة عن عزمها على التعاون فيما بينها وتوجيه جميع جهودها وقوتها ضد العدو المشترك. ولكن اضطر النصارى الذين كانوا يجاورون السلطان محمد أو يتاخمون حدوده ففي أماسيا، وبلاد المورة، طرابزون وغيرهم أن يكتموا شعورهم الحقيقي، فتظاهروا بالفرح وبعثوا وفودهم إلى السلطان في أدرنه لتهنئته على انتصاره العظيم.



وأما آثار هذا الفتح المبين في المشرق الإسلامي، فنقول لقد عم الفرح والابتهاج المسلمين في ربوع آسيا وأفريقيا فقد كان هذا الفتح حلم الأجداد وأمل الأجيال، ولقد تطلعت له طويلاً وها قد تحقق وأرسل السلطان محمد الفاتح رسائل إلى حكام الديار الإسلامية في مصر والحجاز وبلاد فارس والهند وغيرها؛ يخبرهم بهذا النصر الإسلامي العظيم. وأذيعت أنباء الانتصار من فوق المنابر، وأقيمت صلوات الشكر، وزينت المنازل والحوانيت وعلقت على الجدران والأعلام والأقمشة المزركشة بألوانها المختلفة.



كما بعث بمثل هذه الرسائل إلى الأمراء المسيحيين المجاورين له في المورة والأفلاج والمجر والبوسنة وصربيا وألبانيا وإلى جميع أطراف مملكته. فكان فتح القسطنطينية نصرًا وفتحًا مبينًا رفع مكانة الدولة العثمانية، ومهد الطريق لنشر رسالة الإسلام في أنحاء أوروبا، وتوسعت الانتصارات التي أطالت من حكم الدولة العثمانية قرونًا وقرون.

 
التعديل الأخير:

أبرز أعمال الغازي السلطان محمد الثاني الفاتح بعد فتح القسطنطينية :

الفتوحات التالية:

1- فتح بلاد موره جنوب اليونان ومحاربة المجر
-----------

بعد إتمامه لترتيباته وبناء ما هُدم من أسوار القسطنطينية وتحصينها، أمر السلطان ببناء مسجد بالقرب من قبر أبي أيوب الأنصاري، جرت العادة فيما بعد أن يتقلد كل سلطان جديد سيف عثمان الغازي الأول في هذا المسجد، ثم سافر بجنوده لفتح بلاد جديدة، فقصد بلاد موره، لكن لم ينتظر أميراها "دمتريوس" و"توماس"، أخوا قسطنطين، قدومه، بل أرسلا إليه يُخبرانه بقبولهما دفع جزية سنوية قدرها إثنا عشر ألف دوكا. فقبل السلطان ذلك، وغيّر وجهته قاصدًا بلاد الصرب، فأتى "هونياد" الشجاع المجري، الملقب "بالفارس الأبيض"،وردّ عن الصرب مقدمة الجيوش العثمانية، إلا أن الصرب لم يرغبوا في مساعدة المجر لهم لاختلاف مذهبهم، حيث كان المجر كاثوليكيين تابعين لبابا روما، والصرب أرثوذكسيين لا يذعنون لسلطة البابا بل كانوا يفضلون تسلط المسلمين عليهم لما رأوه من عدم تعرضهم للدين مطلقًا. ولذلك أبرم أمير الصرب الصلح مع السلطان محمد الثاني على أن يدفع له سنويًا ثمانين ألف دوكا، وذلك في سنة 1454.

وفي السنة التالية أعاد السلطان الكرّة على الصرب من جديد، بجيش مؤلف من خمسين ألف مقاتل وثلاثمائة مدفع، ومر بجيوشه من جنوب تلك البلاد إلى شمالها بدون أن يلقى أقل معارضة حتى وصل مدينة بلغراد الواقعة على نهر الدانوب وحاصرها من جهة البر والنهر. وكان هونياد المجري دخل المدينة قبل إتمام الحصار عليها ودافع عنها دفاع الأبطال حتى يئس السلطان من فتحها ورفع عنها الحصار سنة 1455. لكن وإن لم يتمكن العثمانيون من فتح عاصمة الصرب إلا أنهم أصابوا هونياد بجراح بليغة توفي بسببها بعد رفع الحصار عن المدينة بنحو عشرين يومًا. ولما علم السلطان بموته أرسل الصدر الأعظم "محمود باشا" لإتمام فتح بلاد الصرب فأتمّ فتحها من سنة 1458 إلى سنة 1460.

وفي هذه الأثناء تمّ فتح بلاد موره. ففي سنة 1458 فتح السلطان مدينة "كورنته" وما جاورها من بلاد اليونان حتى جرّد "طوماس باليولوج" أخا قسطنطين من جميع بلاده ولم يترك إقليم موره لأخيه دمتريوس إلا بشرط دفع الجزية. وبمجرّد ما رجع السلطان بجيوشه ثار طوماس وحارب الأتراك وأخاه معاً، فاستنجد دمتريوس بالسلطان فرجع بجيش عرمرم ولم يعد حتى تمّ فتح إقليم موره سنة 1460 فهرب طوماس إلى إيطاليا، ونُفي دمتريوس في إحدى جزر الأرخبيل. وفي ذلك الوقت فُتحت جزر تاسوس والبروس وغيرها من جزر بحر الروم.

2- توحيد الامارات التركمانية في الأناضول​
--------

وبعد عودة السلطان من بلاد اليونان أبرم صلحًا مع إسكندر بك وترك له إقليما ألبانيا وإيبيروس، ثم حوّل أنظاره إلى آسيا الصغرى ليفتح ما بقي منها، فسار بجيشه دون أن يُعلم أحدًا بوجهته في أوائل سنة 1461، فهاجم أولاً ميناء بلدة أماستريس، وكانت مركز تجارة أهالي جنوة النازلين بهذه الأصقاع. ولكون سكانها تجّارًا يُحافظون على أموالهم ولا يهمهم دين أو جنسية متبوعهم ما دام غير متعرّض لأموالهم ولا أرواحهم، فتحوا أبواب المدينة ودخلها العثمانيون بغير حرب.

ثم أرسل إلى "اسفنديار" أمير مدينة سينوب يطلب منه تسليم بلده والخضوع له. ولأجل تعزيز هذا الطلب أرسل أحد قوّاده ومعه عدد عظيم من المراكب لحصار الميناء، فسلمها إليه الأمير وأقطعه السلطان أراض واسعة بأقليم "بيثينيا" مكافأة له على خضوعه. ثم قصد بنفسه مدينة طرابزون ودخلها دون مقاومة شديدة وقبض على الملك وأولاده وزوجته وأرسلهم إلى القسطنطينية.

3- محاربة أمير الفلاخ فلاد الملقب بلقب دراكول​
--------

ما أن عاد السلطان إلى القسطنطينية حتى جهز جيشًا لمحاربة أمير الفلاخ المدعو "فلاد دراكول الثالث المخوزق"، لمعاقبته على ما ارتكبه من الفظائع مع أهالي بلاده والتعدّي على التجار العثمانيين النازلين بها. فلمّا قرب منها، أرسل إليه هذا الأمير وفدا يعرض على السلطان دفع جزية سنوية قدرها عشرة آلاف دوكا بشرط أن يُصادق على جميع الشروط الواردة بالمعاهدة التي أبرمت في سنة 1393 بين أمير الفلاخ آنذاك والسلطان بايزيد الأول، فقبل السلطان محمد الثاني هذا الاقتراح وعاد بجيوشه. ولم يقصد أمير الفلاخ بهذه المعاهدة إلا التمكن من الاتحاد مع ملك المجر "متياس كورفينوس" ومحاربة العثمانيين.

فلمّا علم السلطان باتحادهما أرسل إليه مندوبين يسألانه عن الحقيقة، فقبض عليهما وقتلهما بوضعهما على عمود محدد من الخشب، الذي يُعرف بالخازوق.

وأغار بعدها على بلاد بلغاريا التابعة للدولة العثمانية وعاث فيها فسادًا، ورجع بخمسة وعشرين ألف أسير، فأرسل إليه السلطان رسلاً يدعونه إلى الطاعة وإخلاء سبيل الأسرى، فلمّا مثل الرسل أمامه أمرهم برفع عمائمهم لتعظيمه، وعند إبائهم طلبه لمخالفته لعوائدهم، أمر بأن تُسمّر عمائمهم على رؤسهم بمسامير من حديد.

فلمّا وصلت هذه الأخبار إلى السلطان محمد استشاط غضباً وسار على الفور بحوالي 60,000 جندي نظامي و30,000 غير نظامي، فوصل بسرعة إلى مدينة "بوخارست"، عاصمة الأمير، بعد أن هزمه وفرّق جيوشه، لكنه لم يتمكن من القبض عليه لمجازاته على ما اقترفه بحق العثمانيين والبلغار، لهروبه والتجائه إلى ملك المجر، فنادى السلطان بعزله ونصب مكانه أخاه "راؤول" لثقته به بما أنه تربّى في حضانة السلطان منذ نعومة أظفاره، وبذا ضُمّت بلاد الفلاخ إلى الدولة العثمانية.

ويُقال أنه عند وصول السلطان محمد إلى ضواحي بوخارست، وجد حول المدينة غابة من الخوازيق التي عُلّقت عليها جثث الأسرى الذين أتى بهم أمير الفلاخ من بلاد بلغاريا، وقتلهم عن آخرهم بما فيهم الأطفال والنساء، وكذلك الجنود العثمانيين الذين كان قد قبض عليهم إثر مناوشة ليلية، وكان عددهم جميعا عشرين ألفاً


4- فتح البوسنة والعداء مع البندقية
----------
في سنة 1462، حارب السلطان بلاد البوسنة لامتناع أميرها "استيفان توماسفيتش" عن دفع الخراج،وأسره بعد معركة هو وولده وأمر بقتلهما، فدانت له جميع بلاد البشناق. وأرسل فرمانا إلى الفرنسيسكان من سكان تلك البلاد يُطمئنهم بعدم تعرّض أي منهم للاضطهاد بسبب معتقداتهم الدينية، فقال:

"بسم الله الرحمن الرحيم

أنا السلطان محمد خان الفاتح،

أعلن للعالم أجمع أن،

أهل البوسنة الفرنسيسكان قد مُنحوا بموجب هذا الفرمان السلطاني حماية جلالتي. ونحن نأمر بأن:

لا يتعرض أحد لهؤلاء الناس ولا لكنائسهم وصلبهم !

وبأنهم سيعيشون بسلام في دولتي. وبأن أولئك الذين هجروا ديارهم منهم، سيحظون بالأمان والحرية.

وسيُسمح لهم بالعودة إلى أديرتهم الواقعة ضمن حدود دولتنا العليّة.

لا أحد من دولتنا سواء كان نبيلاً، وزيرا، رجل دين، أو من خدمنا سيتعرض لهم في شرفهم وفي أنفسهم !

لا أحد سوف يهدد، أو يتعرض لهؤلاء الناس في أنفسهم، ممتلكاتهم، وكنائسهم !

وسيحظى كل ما أحضروه معهم من متاع من بلادهم بنفس الحماية...

وبإعلان هذا الفرمان، أقسم بالله العظيم


الذي خلق الأرض في ستة أيام ورفع السماء بلا عمد، وبسيدنا محمد عبده ورسوله، وجميع الأنبياء والصالحين أجمعين، بأنه؛ لن نسمح بأن يُخالف أي من أفراد رعيتنا أمر هذا الفرمان !"

وفي سنة 1464، أراد "متياس كورفينوس" ملك المجر استخلاص البوسنة من العثمانيين، فهُزم بعد أن قُتل معظم جيشه، وكانت عاقبة تدخله أن جُعلت البوسنة ولاية كباقي ولايات الدولة، وسُلبت ما كان مُنح لها من الامتيازات،ودخل في جيش الإنكشارية ثلاثون ألفاً من شبانها وأسلم أغلب أشراف أهاليها.

هذا وكانت قد ابتدأت حركات العدوان في سنة 1463 بين العثمانيين والبنادقة بسبب هروب أحد الرقيق إلى "كورون" التابعة للبندقية، وامتناعهم عن تسليمه بحجة أنه اعتنق المسيحية دينًا. فاتخذ العثمانيون ذلك سببًا للاستيلاء على مدينة آرغوس وغيرها.فاستنجد البنادقة بحكومتهم، فأرسلت إليهم عدداً من السفن محملة بالجنود، وأنزلتهم إلى بلاد موره، فثار سكانها وقاتلوا الجنود العثمانيين المحافظين على بلادهم وأقاموا ما كان قد تهدم من سور برزخ كورون لمنع وصول المدد من الدولة العثمانية، وحاصروا المدينة نفسها واستخلصوا مدينة آرغوس من الأتراك. لكن لما علموا بقدوم السلطان مع جيش يبلغ عدده ثمانين ألف مقاتل، تركوا البرزخ راجعين على أعقابهم، فدخل العثمانيون بلاد موره بدون معارضة كبيرة واسترجعوا كل ما أخذوه وأرجعوا السكينة إلى البلاد. وفي السنة التالية أعاد البنادقة الكرّة على بلاد موره دون فائدة.

بعد ذلك حاول البابا "بيوس الثاني" بكل ما أوتي من مهارة وقدرة سياسية تركيز جهوده في ناحيتين اثنتين: حاول أولاً أن يقنع الأتراك باعتناق الدين المسيحي، ولم يقم بإرسال بعثات تبشيرية لذلك الغرض وانما اقتصر على إرسال خطاب إلى السلطان محمد الفاتح يطلب منه أن يعتنق المسيحية، كما اعتنقها قبله قسطنطين الأول وكلوفيس ووعده بأنه سيكفر عنه خطاياه إن هو اعتنق المسيحية مخلصًا، ووعده بمنحه بركته واحتضانه ومنحه صكًا بدخول الجنة. ولما فشل البابا في خطته هذه لجأ إلى الخطة الثانية، خطة التهديد والوعيد واستعمال القوة، فحاول تأجيج الحقد الصليبي في نفوس النصارى شعوبًا وملوكًا، قادة وجنودًا، واستعدت بعض الدول لتحقيق فكرة البابا الهادفة للقضاء على العثمانيين، ولكن لما حان وقت النفير اعتذرت دول أوروبا بسبب متاعبها الداخلية المختلفة. وعالج المنون البابا بعد هذا بفترة قصيرة، إلا أن تحريضاته كانت قد أثرت في إسكندر بك الألباني، فحارب الجنود العثمانيين وحصل بينهما عدّة وقائع أريقت فيها كثير من الدماء، وكانت الحرب فيها سجالاً. وفي سنة 1467 توفي إسكندر بك بعد أن حارب الدولة العثمانية 25 سنة دون أن تتمكن من قمعه.

ثمّ بعد هدنة استمرت سنة واحدة، عادت الحروب بين العثمانيين والبنادقة وكانت نتيجتها أن فتح العثمانيون جزيرة "نجر بونت"، وتُسمى في كتب الترك "أغريبوس"، وتُعرف حاليًا باسم "إيبويا"، وهي مركز مستعمرات البنادقة في جزر الروم، وتمّ فتحها في سنة 1470



5- فتح إمارة قرمان جنوب الاناضول ومحاربة المغول
---------
بعد أن ساد الأمن في أنحاء أوروبا، حوّل السلطان أنظاره إلى بلاد القرمان بآسيا الصغرى ووجد سبيلا سهلا للتدخل، وهو أن أميرها المدعو "إبراهيم" أوصى بعد موته بالحكم إلى أحد أولاده واسمه الأمير إسحق، ولكونه كان لديه إخوة لأب أكبر منه سنا، يرغب كل منهم بالحكم بطبيعة الأمر، تدخل السلطان محمد الثاني وحارب إسحق وهزمه وولى محله أكبر إخوته، وعاد إلى أوروبا لمحاربة اسكندر بك، الذي كان ما زال على قيد الحياة آنذاك، فانتهز الأمير إسحق غياب السلطان وعاود الكرّة على قونية، عاصمة القرمان، لاسترداد ما أوصى به إليه أبوه من البلاد، فرجع إليه السلطان وقهره. وليستريح باله من هذه الجهة أيضا، ضمّ إمارة قرمان إلى بلاده وغضب على وزيره "محمود باشا" الذي عارضه في هذا الأمر.

وبعد ذلك بقليل زحف "أوزون حسن"، سلطان دولة الخروف الأبيض (بالتركية العثمانية: آق قوینلو؛ بالتركية: Akkoyunlu)، وهو أحد خلفاء تيمورلنك، الذي كان سلطانه ممتدا على كافة البلاد والأقاليم الواقعة بين نهري جيحون والفرات، وفتح مدينة "توقات" عنوة ونهب أهلها. فأخذ السلطان في تجهيز جيش جرّار وأرسل لأولاده "داوود باشا" بكلر بك الأناضول، و"مصطفى باشا" حاكم القرمان، يأمرهما بالمسير لمحاربة العدوّ، فسارا بجيوشهما إليه وقابلا جيش "أوزون حسن" على حدود إقليم الحميد، وهزماه شر هزيمة في معركة بالقرب من مدينة "إرزينجان" سنة 1471. وبعدها، في أواخر صيف عام 1473، سار إليه السلطان نفسه ومعه مائة ألف جندي وأجهز على ما بقي معه من الجنود بالقرب من مدينة "گنجه"،ولم يعد "أوزون حسن" لمحاربة الدولة العثمانية بعد ذلك، إذ أن هذه المعركة كانت قد قضت على سلطة دولته، ولم يعد للعثمانيين من عدو لجهة الشرق، حتى بروز الشاه "إسماعيل الصفوي" والدولة الصفوية في وقت لاحق.

وفي هذه الأثناء كانت الحرب متقطعة بين العثمانيين والبنادقة الذين استعانوا ببابا روما وأمير نابولي، وكان النصر فيها دائماً للعثمانيين، ولم يتمكن البنادقة من استرجاع شيء مما أخذ منهم.


6- محاربة البغدان ( مولدافيا ) وإنهاء الصراع مع البنادقة​
----
في سنة 1475 أراد السلطان فتح بلاد البغدان، وهي المنطقة الشرقية من رومانيا المتاخمة لحدود روسيا والمعروفة أيضاً باسم "مولدوفا"، فأرسل إليها جيشاً بعد أن عرض دفع الجزية على أميرها المسمى "أسطفان الرابع" ولم يقبل. وقعت معركة عنيفة بين الطرفين بتاريخ 10 يناير من نفس العام عُرفت بمعركة "فاسلوي"، كنية بالمدينة القريبة من الموقع. وصل عدد الجنود العثمانيين إلى 120,000 جندي، بينما بلغ عدد الجنود البغدان 40,000 جندي، بالإضافة إلى بعض القوات المتحالفة الأصغر حجما وبعض المرتزقة. وبعد قتال عنيف قُتل فيه جنود كثر من الجيشين المتحاربين، انهزم الجيش العثماني وعاد دون فتح شيء من هذا الإقليم.

ويذكر المؤرخون أن "أسطفان الرابع" قال أن هذه الهزيمة التي لحقت بالعثمانيين "هي أعظم هزيمة حققها الصليب على الإسلام". وقالت الأميرة "مارا" التي كانت زوجةً للسلطان مراد الثاني، والد الفاتح، سابقاً، لمبعوث بندقي أن هذه الهزيمة هي أفظع الهزائم التي تعرّض لها العثمانيون في التاريخ.

وبذلك اشتهر "أسطفان الرابع" أمير البغدان بمقاومة العثمانيين، فخلع عليه البابا "سيكستوس الرابع" لقب "بطل المسيح" (باللاتينية: Athleta Christi) و"الحامي الحقيقي للديانة المسيحية" (باللاتينية: Verus christiane fidei aletha).[91]

ولما بلغ خبر هذه الهزيمة آذان السلطان عزم على فتح بلاد القرم حتى يستعين بفرسانها المشهورين في القتال على محاربة البغدان. وكان لجمهورية جنوة مستعمرة في شبه جزيرة القرم، هي مدينة "كافا"، فأرسل السلطان إليها أسطولا بحريّا، ففتحها بعد حصار ستة أيام، وبعدها سقطت جميع الأماكن التابعة لجمهورية جنوة. وبذلك صارت جميع شواطئ القرم تابعة للدولة العثمانية ولم يُقاومها التتار النازلون بها، ولذلك اكتفى السلطان بفرض الجزية عليها.

وبعد ذلك فتح الأسطول العثماني ميناء آق كرمان ومنها أقلعت السفن الحربية إلى مصاب نهر الدانوب لإعادة الكرّة على بلاد البغدان، بينما كان السلطان يجتاز نهر الدانوب من جهة البر بجيش عظيم، فتقهقر أمامه جيش البغدان، على الرغم من صدّه لعدّة هجمات عثمانية بنيرانه،لعدم إمكانية المحاربة في السهول، وتبعه الجيش العثماني حتى إذا أوغل خلفه في غابة كثيفة يجهل مفاوزها، انقض عليه الجيش البغداني، فاشتبك مع قوات الإنكشارية التي هزمته شر هزيمة، في معركة أطلق عليها اسم معركة الوادي الأبيض فانسحب "أسطفان الرابع" إلى أقصى شمال غربي بلاده، والبعض يقول أنه لجأ إلى المملكة البولندية، حيث أخذ يجمع جيشا جديدا. ولم يستطع السلطان محمد فتح الحصون الرئيسية البغدانية بسبب المناوشات الصغيرة المستمرة التي تعرض لها الجيش العثماني من قبل الجنود البغدان، ولانتشار المجاعة ثم الطاعون بين أفراد الجيش، مما اضطر السلطان لأن يسحب قواته ويعود إلى القسطنطينية دون فتح البلاد.

وفي سنة 1477 أغار السلطان على بلاد البنادقة ووصل إلى إقليم "فريولي" بعد أن مرّ بإقليميّ "كرواتيا" و"دالماسيا"، فخاف البنادقة على مدينتهم الأصلية وأبرموا الصلح معه تاركين له مدينة "كرويا"، التي كانت عاصمة "اسكندر بك" الشهير، فاحتلها السلطان ثم طلب منهم مدينة "إشقودره"، ولمّا رفضوا التنازل عنها إليه حاصرها وأطلق عليها مدافعه ستة أسابيع متوالية بدون أن يُضعف قوّة سكانها وشجاعتهم، فتركها لفرصة أخرى وفتح ما كان حولها للبنادقة من البلاد والقلاع حتى صارت مدينة "إشقودره" منفصلة كليّا عن باقي بلاد البنادقة، وكان لا بد من فتحها بعد قليل لعدم إمكان وصول المدد إليها، ولذا فضّل البنادقة أن يبرموا صلحاً جديداً مع السلطان ويتنازلوا عن "إشقودره" مقابل بعض الامتيازات التجارية. وتمّ الصلح بين الفريقين على ذلك وأمضيت به بينهما معاهدة في يوم 28 يناير سنة 1479م، الموافق 5 ذو القعدة سنة 883هـ، وكانت هذه أول خطوة خطتها الدولة العثمانية للتدخل في شؤون أوروبا، إذ كانت جمهورية البندقية حينذاك أهم دول أوروبا لا سيما في التجارة البحرية، وما كان يُعادلها في ذلك إلا جمهورية جنوة.


7-فتح جزر اليونان ومدينة أوترانت وحصار رودوس
-----------------

بعد أن تم الصلح مع البنادقة، وُجهت الجيوش إلى بلاد المجر لفتح إقليم ترانسلفانيا، فقهرها "كينيس" كونت مدينة "تمسوار" بالقرب من مدينة "كرلسبرغ" في 13 أكتوبر سنة 1476، وقُتل في هذه الموقعة كثير من العثمانيين وارتكب المجر فظائع وحشية بعد الانتصار، فقتلوا جميع الأسرى ونصبوا موائدهم على جثثهم.

وفي سنة 1480 فُتحت جزر اليونان الواقعة بين بلاد اليونان وإيطاليا، وبعدها سار أمير البحر كدك أحمد باشا بمراكبه لفتح مدينة أوترانت بجنوب إيطاليا، التي كان عزم السلطان على فتحها جميعها. ويُقال أنه أقسم بأن يربط حصانه في كنيسة القديس بطرس بمدينة روما، مقر البابا، ففُتحت أوترانت عنوة في يوم 11 أغسطس سنة 1480م، الموافق 4 جمادى الثانية سنة 885هـ.

وفي هذا الحين كان قد أرسل أسطولاً بحرياً آخر لفتح جزيرة رودوس، التي كانت مركز رهبنة القديس "يوحنا الأورشليمي"، وكان رئيسها آنذاك "بيير دو بوسون" الفرنسي الأصل، وكانت الحرب قائمة بينه وبين سلطان مصر وباي تونس، فاجتهد في إبرام الصلح معهما ليتفرغ لصدّ هجمات الجيوش العثمانية. وكانت هذه الجزيرة محصنة تحصيناً منيعاً، وابتدأ العثمانيون حصارها في يوم 23 مايو سنة 1480م، الموافق 13 ربيع الأول سنة 885هـ، وظلّت المدافع تقذف عليها القنابل الحجرية تهدّم أسوارها، لكن كان يُصلح سكانها في الليل كل ما تخربه المدافع في النهار، ولذلك استمر حصارها ثلاثة أشهر حاول العثمانيون خلالها الاستيلاء على أهم قلاعها، واسمها قلعة القديس نيقولا، بدون جدوى.

وفي يوم 28 يوليو سنة 1480م، الموافق 20 جمادى الأولى سنة 885هـ، أمر القائد العام بالهجوم على القلعة ودخولها من الفتحة التي فتحتها المدافع في أسوارها، فهجمت عليها الجيوش وقاوم المدافعون بكل بسالة وإقدام. وبعد أخد وردّ، تقهقر العثمانيون بعد أن قُتل وجُرح منهم كثيرون، ورفع الباقون عنها الحصار.


الفاتح والاهتمام بالمدارس والمعاهد
----



كان السلطان الغازي محمد الثاني الفاتح محباً للعلم والعلماء، لذلك اهتم ببناء المدارس والمعاهد في جميع أرجاء دولته، وفاق أجداده في هذا المضمار، وبذل جهوداً كبيرة في نشر العلم وإنشاء دور التعليم، وأدخل بعض الإصلاحات في نظام التعليم وأشرف على تهذيب المناهج وتطويرها، وحرص على نشر المدارس والمعاهد في كافة المدن والقرى وأوقف عليها الأوقاف العظيمة.

وقام بتنظيم هذه المدارس وترتيبها على درجات ومراحل، ووضع لها المناهج، وحدد العلوم والمواد التي تُدرّس في كل مرحلة، ووضع لها نظام الامتحانات الدقيقة للانتقال للمرحلة التي تليها، وكان ربما يحضر امتحانات الطلبة ويزور المدارس ولا يأنف من سماع الدروس التي يلقيها الأساتذة، ولا يبخل بالعطاء للنابغين من الأساتذة والطلبة، وجعل التعليم في كافة مدارس الدولة بالمجان،

وكانت المواد التي تدرس في تلك المدارس: التفسير والحديث والفقه والأدب والبلاغة وعلوم اللغة والهندسة، وأنشأ بجانب مسجده الذي بناه بالقسطنطينية ثمان مدارس على كل جانب من جوانب المسجد يتوسطها صحن فسيح، وفيها يقضي الطالب المرحلة الأخيرة من دراسته، وألحقت بهذه المدارس مساكن الطلبة ينامون فيها ويأكلون طعامهم ووضعت لهم منحة مالية شهرية، وأنشأ بجانبها مكتبة خاصة وكان يُشترط في الرجل الذي يتولى أمانة هذه المكتبة أن يكون من أهل العلم والتقوى متبحراً في أسماء الكتب والمؤلفين، وكانت مناهج المدارس تتضمن نظام التخصص، فكان للعلوم النقلية والنظرية قسم خاص وللعلوم التطبيقية قسم خاص أيضاً.

 
التعديل الأخير:

الدولة العثمانية من سنة 922هـ إلى 1000هـ




حالة الشام قبيل الفتح العثماني:

==

كانت الشام أخت مصر في آخر الدولة الشركسية تقاسمها شقاءها شق الأبلمة، فيستبد المتغلبة من المماليك بالأحكام بحسب ضعف صاحب مصر وقوته، والصالح في نوابها وملوكها قليل. ولم يسعد القطران بعد فتنة تيمورلنك بسلطان عادل يطول عهده ليعرف مواقع الضعف فيسد خللها، ويزيح بحسن الإدارة عللها. وشغل ملوك الشراكسة بالتجاريد على حسن الطويل وشاه سوار وابن عثمان من الملوك في شمالي المملكة وشرقها يجردونها فيجردون بها الرجال والأموال، وقد خرج الناس بعد وقائع الصليبيين والمغول وما أعقبها من الأوبئة والزلازل والمجاعات أعرى من مغزل، وأزمنت الفوضى في أرجائها فساءت حالتها الاقتصادية والاجتماعية.

أحي أكثر الناس بما عرض للدولة من الضعف فأخذوا يتطلعون إلى الدولة العثمانية، وكانت إلى الشام ومصر أقرب الدول الإسلامية الكبرى، هذا والدولة العثمانية إذ ذاك في إبان شبابها، وقد وقرت في النفوس منذ أسس بنيانها السلطان عثمان التركماني سنة 699 على أنقاض دولة السلجوقيين، ولا سيما بما قام به محمد الثاني فاتح القسطنطينية من الغزوات والفتوحات، وتوفق له من فتح عاصمة الروم البيزنطيين بعد أن حاول كثير من ملوك العرب وغيرهم ذلك فلم يفلحوا لبعدها عن مواطن قواتهم، ولقوة سلطان القسطنطينية في تلك العصور، والأمور مرهونة بأوقاتها.

هذا والناس لا فرق عندهم إذا استولى عليهم الترك الأعاجم، وقد حكمهم أجناس من المماليك زمناً طويلاً ما داموا كلهم غرباء ينالهم من ضعفهم ضعف، ومن قوتهم بعض راحة وسعادة، ولا فرق في الإسلام بين عربي وأعجمي في الحقوق والواجبات، وأقصى ما يتطلبه الناس سلطان عادل عاقل في الجملة، وكانت الأمة تفنى بأسرها في سلطانها خلال القرون الوسطى.



مقاتل الغوري ومقدمات الفتح:
====


كان السلطان قانصوه الغوري آخر من ملكوا الشام من الشراكسة على شيء من الدهاء، أعدَّ للأيام عدتها وأدرك ما يحيق بمملكته من خطر ابن عثمان، ولكن ما ينفع التدبير إذا كانت المعنويات في حكومته مريضة ضئيلة، والقوى في جيشه غير موحدة، وداء الهرم قد استحكم منه ومن دولته. كان في الثمانين من عمره يوم صحت نية السلطان سليم العثماني، رجل الإرادة القوية والجيش الجرار، على أخذ الشام ومصر، والقضاء على دولة المماليك. وكان الغوري على رواية كامل باشا لا يعرف على من يعتمد عليه من رجاله وأمرائه غريب الأطوار في ذاته، فكان ذلك من دواعي خروج الأمر عنه ووقوع الخلل في جيشه، وكان يعتقد بعلم الجفر، وقد ذكر أحد أدعياء هذا العلم أن الشر يأتيه من رجل يبدأ سمه بحرف السين، فصار يتطير من كل من يبدأُ اسمه بذلك الحرف، ومنهم سيباي كافل الشام.

ترجم للغوري أحد من عاصروه من الفرنج بقوله: إنه من مماليك الغور في أفغانستان، كان حاجب الحجاب في حلب سنة 893هـ 1490م ورأس محكمة عسكرية ووفق إلى قمع ثورة فأبان فيها عن كفاءة، وكان وزيراً لما حنق المماليك على طومان باي واختاروه للملك، فتردد كثيراً في قبوله لأنه كان تجاوز الستين من عمره وأخذ مكوساً وضرائب من كل إنسان حتى من البوابين وضرب نقوداً زائفة أضرت بالتجارة الداخلية والخارجية، فاستلزم عمله حنق الناس وانتقاد من عاصروه فعجل بخراب المالية وذلك لوضعه رسوماً فاحشة على البضائع، وعلى البضائع التي تمر بأرضه واستعمل جزءاً من هذه الضرائب في إقامة القلاع ولا
سيما في حلب وأنشأ طرقاً وآباراً في الحجاز.

وكانت المكوس التي تجبى في المواني ورسوم البضائع الصادرة من الهند إلى أوروبا من طريق مصر آتية من عدن وجدة والسويس وإسكندرية، أو من طريق الشام ذاهبة من البصرة وحلب من أهم واردات المملكة.

وتفادياً من أداء هذه الرسوم الفادحة حرص البرتغاليون على أن يكشفوا طريقاً في البحر إلى الهند على يد ملاحهم فاسكو دي غاما وكتب لهم النزول إلى شاطئ الهند وبعثوا إلى أوروبا تواً بسفنهم النقالة الكبرى عن طريق رأس الرجاء الصالح، فتحاموا أداء المكوس الفاحشة التي كانت تؤخذ في المواني المصرية عن البضائع التي ينقلونها وعن نفقات النقل في البر فاستفاد البرتغاليون من ذلك،

ولم يسع الغوري أن يسكت عما يلحق المسلمين من مظالم البرتغاليين فحارب الأسطول البرتقالي غير مرة في بحري الهند والأحمر ونال منهم ونالوا منه قليلاً. قال: وساءت حالة الغوري حتى لم يستطع أن يدفع رواتب المماليك في أوقاتها بحيث فقدت حكومته كل معاونة قوية، وكانت سياسته الخارجية تعسة لأنه اضطر أن يحالف عدوه اللدود إسماعيل شاه خوفاً من السلطان سليم العثماني ولم يخْفَ ذلك عن السلطان سليم عرفه بواسطة جواسيسه اه.

وبينا كان قانصوه الغوري يغوص في أحلامه وأوهامه، كان سليم الأول وهو التاسع من آل عثمان الملقب بياوز أي الشديد الجبار يجيش الجيوش ويُعدّ الزحوف ويستجد السلاح، فبدأ بقتل الشيعة والنصيريين في تخوم الأناضول وكانوا أربعين ألفاً، ثم زحف سنة 920 على الشاه إسماعيل الصفوي صاحب شروان وأذربيجان وتبريز والعراق العجمي وفارس وكرمان وديار بكر وبغداد وباكو ودربند وخراسان وانتصر في وقعة جالديران المشهورة، وانهزم عسكر الشاه إسماعيل شر هزيمة وجرح الشاه في المعركة وفتح السلطان سليم ديار بكر والأقاليم الكردية، فهب قانصوه الغوري من مصر لإنجاده فيما قيل والأرجح أنه هبّ للدفاع عن مملكته.

وكان نائب سلطان مصر على البيرة أو بيره جك ( مدينة على نهر الفرات على الحدود السورية التركية حاليا شمال حلب بقليل ) رجلاً اسمه علاء الدولة بن سليمان وهو صاحب مرعش والبستان فلما اجتاز السلطان سليم بالبيرة يريد قصد الشاه الصفوي أمر علاء الدولة أهل مرعش أن لا يبيعوا شيئاً لعسكر سليم، فهلك كثير من رجالهم ودوابهم جوعاً،

وشكا السلطان العثماني ما وقع له إلى الغوري فقال: إن علاء الدولة لم يصدر عن أمره وأنه عاصً عليه وأنه إذا قتله يكون له شاكراً،

وكتب الغوري إلى علاء الدولة يحمله على متابعة عمله، فأحس السلطان سليم بأن الغوري يكيد له

وزاد علاء الدولة بأن سرق بعض أحمال من ذخائر عسكر سليم، فلما عاد هذا من غزاته قتل علاء الدولة وأولاده وأرسل رؤوسهم إلى الغوري. بمعنى أن سنان باشا استولى سنة 921 هجرية باسم السلطان سليم على مملكة ذي القدرية التي كانت في مرعش والبستان وملطية وبهنسي وخربوت وما إليها ( ( جنوب شرق ترككية في الجزيرة الفراتية العليا )) ، وكانت الدولة العثمانية جعلت حكومة أبناء رمضان التركمانية التي نشأت سنة 780 في جهات أضنة وطرسوس وسيس تحت ظلها، وكانت علائق أمرائها الثلاثة الأول مع دولة المماليك الشركسية أصحاب الشام ومصر مسترخية، ففتحت السبل والمنافذ إلى الشام وصارت الجيوش العثمانية تأمن على مقدمتها وعلى خط رجعتها.

ولما أضعف السلطان سليم مملكة كبرى وهي مملكة الصفوي، وقضى على مملكة صغرى وهي مملكة ذي القدرية، طمحت نفسه إلى فتح الشام ومصر ونزعهما من دولة المماليك ليضمهما إلى مملكته فتدخل في طور العظمة وتكون ممالك في مملكة. وكان أبوه وجده من قبله يقاتلان بعض حاميات الشام يتعرفان بذلك مبلغ قوة المماليك، ويدفعان أمراء الأطراف أمثال أمراء ذي القدرية وغيرهم إلى مجاذبة ملوك الشراكسة حبل السلطة على التخوم. وكان أولئك الأمراء كثيراً ما يسيرون مع المماليك سيرة الصغير مع الكبير، لعلمهم بأن إثارة العثمانيين لهم على المماليك لا لخيرهم بل لينتقموا بهم ثم ينتقموا منهم ويضعفوهم ويضعفوا بهم.





صلات العثمانيين مع المماليك ووقعة مرج دابق:
===


وذكر مؤرخو الترك أن الصلات السياسية بين ملوك الشراكسة أصحاب مصر والشام وبين سلاطين آل عثمان كانت مسترخية منذ عهد محمد الفاتح، ولما سمت همة السلطان سليم إلى فتح الشام ومصر 922 أرسل جيشاً إلى ديار بكر يورّي بأنه يريد قصد إيران، ولأدنى سبب أخذ الجيش يتوجه صوب الجنوب، فبعث قانصوه الغوري بعض رجاله يتوسطه في الصلح فقتل السلطان سليم رجال السفير وأراد أن يقتل السفير نفسه فوقع وزيره على قدميه وشفع فيه، وقال له: إن ذلك مخالف لحقوق الدول فالسفراء لا يقتلون، فاكتفى السلطان بحلق شعر السفير ولحيته، وأركبه على حمار أعرج أجرب إلى صاحبه الغوري جزاء ما قدمت يداه فيما يقال من امتهان الغوري رسل السلطان العثماني.

وترددت الرسل بين السلطانين في مرج دابق أولاً، وكان ابن عثمان فوض إلى رسله أن يتظاهروا بطلب سيدهم للصلح ليثني بذلك عزم الغوري عن القتال،

وقد أحضر سلطان العثمانيين فتاوي من علماء مملكته يجيزون له قتل الشاه إسماعيل الصفوي، وأرسل يقول للغوري: أنت ولدي وأسألك الدعاء لكن لا تدخل بيني وبين الصفوي - بينا الأمر على ذلك - وقد خلع الغوري على قصاد ابن عثمان الخلع السنية، وأرسل إليه ابن عثمان يطلب منه سكراً وحلوى وأرسل له منها مائة قنطار في علب كبار عدا الهدايا والتحف،

هجم سلطان العثمانيين على ملك الشراكسة وكسره شر كسرة في وقعة دامت من طلوع الشمس إلى ما بعد الظهر، فقتل من عسكر ابن عثمان ومن عسكر الغوري خلق كثير، فلما تحقق الغوري أنه غُلب أصابه للحال فالج أبطل شقه وأرخى حنكه، واستعد للركوب فمشى خطوتين وانقلب عن الفرس إلى الأرض وفاضت روحه من شدة قهره، وأكثر المؤرخين على أنه لم تظهر جثته في المعركة.

ويقول بعض مؤرخي الترك: إن جاويشاً من الجيش العثماني أُمر بأن يبحث عن جثة قانصوه الغوري فقطع رأسه وقدمه إلى السلطان سليم، فامتعض منه السلطان وأمر أن يُضرب عنقه لتزلفه إلى مولاه بقطع رأس الملك المقتول، ولولا أن الوزراء توسطوا له لما صرف السلطان النظر عن قتل الجاويش مكتفياً بعزله.

وذكروا أن الغوري قد خانه لأول الأمر ثلاثة عشر ألفاً من جيشه، وامتنعوا عن الحرب عند الصدمة الأولى وأبوا قتال الأتراك، ومن الأمراء الذين كانوا موالسين على الغوري وضَلْعهم مع السلطان سليم خير بك نائب حلب وجان بردي الغزالي نائب حماة، فإن السلطان سليماً كان فاوضهما سراً ليوليهما الشام ومصر على ما قيل إذا ساعداه على فتح هذا القطر،

فلما انهزمت ميمنة الغوري وقتل الأتابكي سودون العجمي وملك الأمراء سيباي نائب الشام، انهزم جانب كبير من العسكر وانهزم خير بك وهرب فانكسرت الميسرة وكان ابن معن وأمراء الساحل الشامي صحبة خير بك والغزالي فقال الأمير ابن معن لمن معه من رجاله وقومه: دعونا ننفرد لننظر لمن تكون النصرة فتقاتل معه. ولما اضطرمت نار الحرب فرّ الغزالي وخير بك إلى ناحية عسكر السلطان سليم بمن معهم من أمراء الديار الشامية وبقي الغوري بعسكر المصريين أي عسكر الشام والمغول عليهم من أمرائها من الشراكسة والوطنيين قد استمالهم السلطان فقاتلوا في صفوفه بدلاً من أن يقاتلوه، ونائب الشام سيباي الذي كان يتطير منه الغوري لأن اسمه يبدأ بحرف السين قد هلك دونه في المعركة يدافع عن ملك سيده لا كما كان هذا يتوهم.


قوة الغالب والمغلوب:
=====


اختلف تقدير المؤرخين لقوة العثمانيين والمماليك فأغلبهم على أن ابن عثمان كان في أربعين ألف مقاتل مجهزين بمدافع حسنة، وروى نامق كمال أن العثمانيين كانوا في ثمانين ألفاً وثمانمائة مدفع، وأن الغوري كان في خمسين ألفاً لا مدافع لهم.

وذكر الغزي أن الغوري أتى من حلب إلى دابق في ثلاثين ألفاً وقال ابن طولون: إن السلطان سليماً وصل إلى دمشق في عساكر عظيمة لم تر العين مثلها يقال: إن عدتها مائة ألف وثلاثون ألفاً.

وذكر بعض المؤرخين أن السلطان سليماً أمر أن تعد القتلى من الفريقين في مرج دابق فكان قتلى الشراكسة ألف نفس وقتلى الروم أي الترك أربعة آلاف.

وكان فقدان المدافع من جيش الغوري وخيانة ربع جيشه وعدم ثقته بأحد من دواعي القضاء عليه وعلى سلطانه، وأهم ذلك خيانة بعض قواده وامتناع الأمراء عن الدفاع في صفوفه أو يظهر لهم الغالب

قويت نفس السلطان سليم بما أصاب جماعته من الانتصار الباهر، وما قتل من رجال الغوري، ثم تحول من مرج دابق ودخل حلب من غير ممانع، ونزل في الميدان الذي كان السلطان الغوري نزله، وانتشر خبر الهزيمة وقتل الغوري في أنحاء الشام، فوثب الناس بعضهم على بعض ونهبوا الزروع وأخذوا الأموال، واضطربت العمال أيما اضطراب، ونهبت حارة السمرة بدمشق وقتلوا جماعة وأخذوا أموالهم، وكذلك فعلوا بتجار الفرنج ونهبوا أموالهم، وكانت فتنة هائلة ونهبوا بيوت أعيان دمشق من القضاة والتجار، فخرج غالب الصدور منها بسبب ذلك وبسبب فتنة ابن عثمان وفساد الأحوال بمصر والشام وتوجه أمراء الغوري وعسكره المهزوم إلى حلب، فوثب عليهم أهل حلب قاطبة، وقتلوا جماعة من العسكر ونهبوا سلاحهم وخيولهم وأثقالهم، ووضعوا أيديهم على ودائعهم التي كانت بحلب، وجرى عليهم من أهل حلب ما لم يجر عليهم من عسكر ابن عثمان كما قال ابن إياس. وكان بين أهل حلب والمماليك السلطانية إحنٌ منذ توجهوا قبل خروج السلطان من القاهرة إلى حلب فنزلوا في بيوت أهلها واغتصبوا نساءهم وأولادهم، وآذوا الحلبيين كل الإيذاء، فما صدق أهل حلب أن وقعت لهم هذه الكسرة حتى يأخذوا بثأرهم.


وعلى الجملة فإن ما نال السكان أواخر حكم المماليك مما عجل بالقضاء على الدولة المالكة وفتح القلوب للسلطان سليم الأول، وخدمه كثير من أهل الشأن قبل مجيئه فكانوا يوافونه بالأخبار تترى عن مقاتل الغوري ومواطن الضعف من دولته، وقد بدءوا يتجسسون للعثمانيين منذ أواخر القرن الماضي فكان ذلك من العوامل القوية في الفتّ في عضد الجيش الشركسي وإمالة القوة إلى الجيش التركي ففتحت الشام في وقعة واحدة ولم يبك على دولة المماليك إلا من كانوا باسمها يتمتعون بالخيرات وينالون مظاهرها ويسلبون نعمة الأمة.


دخول السلطان سليم حلب ودمشق:
=====


وافى السلطان سليم مدينة حلب فاستقبله أهلها بالمصاحف والأعلام يجهرون بالتسبيح والتكبير ويقرءون (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) وطلبوا منه الأمان فأمنهم وأنعم عليهم ثم أخذ يجمع مالاً من التجار سماه مال الأمان ورأى خلفاء أرباب الطرق الصوفية فسأل عنهم وهم يحملون أعلامهم ويرحلون إلى دمشق وأشار عليه خير بك بأن يقتلهم وكانوا نحو ألف نفس، واستسلم نائب قلعة حلب فأرسل السلطان إليه شخصاً من جماعته أعور أعرج وفي يده دبوس خشب ليقول بلسان الحال إنه أخذ حلب بأضعف جنده. وطلع السلطان سليم إلى القلعة فرأى فيها ما أدهشه من مال وسلاح وتحف وكان بها على رواية ابن إياس نحو مائة ألف ألف دينار وثمانمائة ألف دينار. وقال مؤرخو الترك: إنه كان فيها مليون دوكا. ورأى السلطان سليم من أنواع الأسلحة والزينة ما جمعه الغوري من وجوه الظلم والجور والتحف التي أخرجها من الخزائن من ذخائر الملوك السالفين من عهد ملوك الترك حكام مصر والشام الأيوبيين وذلك عدا ما كان في بيوت الأمراء وغيرهم من رجال الدولة. ووجه ابن عثمان الجيش إلى مرعش ففتحها وملك معها ثلاث عشرة قلعة من مملكة الغوري وأحرز ما فيها من مال وسلاح.

وذكروا أن العثمانيين عثروا في خيمة الغوري في مرج دابق على مائتي قنطار من الفضة ومائة قنطار من الذهب وفي رواية أن هذه الخزينة كان فيها ما قيمته مليون ليرة وقيل: إنه وجد في قلعة حلب ثلاثمائة ألف ثوب كامل.

وأقام السلطان العثماني في حلب ثمانية عشر يوماً وبايعه أهلها بحضور واليها خير بك، وتوجه إليه أمير المؤمنين المتوكل على الله العباسي، وكان جاء مع الغوري من مصر ومعه القضاة الثلاثة فأجلس السلطان الخليفة وجلس بين يديه وخلع عليه وأنعم عليه بمال ورده إلى حلب، ووكل به أن لا يهرب أي إنه أسره بأسلوب لطيف، وصلى الجمعة في الجامع الكبير فأطلق الخطيب على السلطان العثماني لقب خادم الحرمين الشريفين فكان ذلك كما قال راسم فأل خير بأن السلطان سليماً سيكون صاحب دولة إسلامية كبرى. قال: وكان خيره باي خير بك أحد أمراء الغوري استأمن السلطان العثماني لما تقهقر جيش مصر فأنقذ نفسه. وولى السلطان على حلب قراجا باشا. وسار في جيشه إلى حماة وحمص ففتحت له أبوابهما، وبايعه أهلهما على الطاعة كما بايعه أهل طرابلس والقدس. وجاء السلطان دمشق فاستقبله أهلها ورضوا به ملكاً عليهم، فكأنه بدخوله دمشق عاج ببعض بلاده القديمة. قال ابن طولون: وفي يوم الخميس الثامن والعشرين شعبان 922 وصل متسلم ملك الروم الأتراك إلى القابون الفوقاني واسمه مصلح ميزان، ثم وجه من يكشفون له هل يسلم أهل دمشق أم يقاتلون، في سائر الجوامع، ثم تتابع دخول العسكر،

وفي يوم السبت مستهل رمضان منها وصل ملك الروم إلى المصطبة السلطانية بأرض برزة (( قرية شمال شرق دمشق بقليل )) في عساكر عظيمة يقال: إن
عددها مائة ألف وثلاثون ألفاً وعزل عن نيابة دمشق يونس باشا وولى مكانه أحمد بن يخشي. وفي يوم الاثنين العشرين من ذي القعدة وهو خامس شهر كانون الأول ورابع الأربعينيات الشتوية سافر ملك الروم من دمشق إلى مصر لأخذها من يد الشراكسة.


مقابلة أمراء البلاد سلطانهم الجديد وتغير الأحكام:
======


قابل الأمراء السلطان سليماً ومنهم الأمير فخر الدين المعني الأول أمير الشوف فخطب أمامه بالنيابة عن أمراء البر خطبة جميلة استمالت بها قلب الفاتح، فأحسن إليه وخلع عليه وسماه سلطان البر وأفضل عليه وعلى رفاقه من الأمراء مثل الأمير جمال الدين الأرسلاني اليمني الذي جعله والياً على بلاد الغرب والأمير عساف التركماني أمير بلاد كسروان وبلاد جبيل، وأمرهم أن يحسنوا السياسة لقومهم وأن يسعوا بكل ما يؤول إلى عمران بلادهم،

وقدمت إليه الناس من كل جانب إلا الأمراء التنوخيين القيسيين فإنهم لم يأتوا لأنهم كانوا من حزب الدولة الشركسية. وقال كامل باشا: أن أمير العرب ناصر الدين ابن الحنش وكان عهد إليه الدفاع عن دمشق من قبل الشراكسة قَبِل بالصلح الذي اقترحه عليه خيرباي وخضع للسلطان سليم، فنزل هذا في القصر الأبلق فجاءه محافظو قلاع سورية وأمراء العرب والدروز يعرضون الطاعة له.

ويقول ابن إياس: إن الأمير ناصر الدين بن الحنش، أمير عربان حماة لما بلغه أن ابن عثمان أرسل طلائع عسكره وقد وصلت إلى القابون بالقرب من دمشق، لقيهم ابن الحنش وحصل بينه وبين عسكر ابن عثمان مقتلة عظيمة وقتل منهم جماعة وأطلق عليهم الماء من أنهر دمشق حتى صار كل من دخل في تلك المياه بفرسه يوحل فلا يقدر على الخلاص فهلك من عسكر ابن عثمان جماعة كثيرة.

ولما استقرت الحال بالشام ضرب السلطان سليم المكوس على الناس وعلى الأحكام الشرعية فتعطلت الحدود.

قال الغزي: ولما بلغ الإمام علي بن محمد المقدسي أن العثمانيين ضربوا الجزية حتى على المومسات تنخع الدم من كبده وتمنى الموت، للقهر الذي أصابه وللغيرة على دين الإسلام وتغير الأحكام وقال في دخول السلطان سليم دمشق هذه الأبيات:

ليت شعري من على الشام دعا ... بدعاء خالص قد سمعا
فكساه ظلمة مع وحشةٍ ... فهي تبكينا ونبكيها معا
قد دعا من مسه الضر من ال ... ظلم والجور اللذين اجتمعا
فعلا الحجب دعا فانبعثت ... غارة الله بما قد وقعا
فأصاب الشام ما حل بها ... سنة الله التي قد أبدعا

هذا ما رواه مؤرخ ذاك العصر، وربما وكان فيما بلغه مبالغة نشأت من تعصب للدولة الشركسية أو رجاء أخفق، وكان يظن أنه يتم على يد ابن عثمان من إقامة الحدود ورفع المظالم شيء كثير في مدة قصيرة، وما خلت دولة مهما بلغ من سخفها وسخف القائمين بها من أنصار لها على الحق والباطل، وكثير من الأمور إذا نظرت إليها من وجهها راقتك، وإذا ملت إلى الوجه القبيح أحصيت عليها بعض العيوب.



السلطان في دمشق وفي الطريق لفتح مصر:
================


جهز السلطان سليم جيشه في دمشق وقضى فصل الشتاء فيها يعمر بعض المباني. وقال صولاق زاده: إن السلطان سليماً كان مدة إقامته في دمشق يختلف في الأوقات الخمسة إلى الشيخ محمد بلخشي في جوار جامع بني أُمية وإن السلطان سليماً لما كان يعتقد بالاستمداد من أرواح الأنبياء العظام الطاهرة، وأرباب المقامات الشريفة لم يغفل هذا المقصد مدة إقامته في دمشق، ولما رأى قبر العارف بالله محيي الدين بن عربي قد تداعى وخربت تربته أمر بتعميره علىما يجب، وأنشأ بجواره جامعاً على أجمل طرز، وعمر زاوية بقربه، ووقف على ذلك عدة قرى ومزارع. وقال أيضاً: إن السلطان سليماً صرف الأمراء والجند فأخذوا دستوراً إلى مواطنهم ليقضوا فيها فصل الشتاء بعد أن استراح اثني عشر يوماً في المصطبة.

وذكر ابن طولون أن النائب بدمشق ابن يخشي نادى في 2 ذي الحجة 922 بالأمان والاطمئنان، وأن لا ظلم ولا عدوان، ولا يحمل أحد سلاحاً، وأن لا يتكلم أحد فيما لا يعنيه.

سار السلطان عن طريق البر إلى غزة فعصت عليه ففتحها حرباً، والتقى جيش العثمانيين مع جيش المصريين في خان يونس بين غزة والعريش، فشتت الجيش العثماني الجيش المصري، ثم عصت غزة والرملة فقمع ثائر الغزاة فيها، وكانت الوقعة المهمة بين عسكر مصر وعسكر ابن عثمان على الشريعة بالقرب من بيسان اندحر فيها المصريون وقاد جندهم الغزالي. قال ابن طولون: وفي 16 ذي الحجة 922 التقى سنان باشا الوزير الأعظم لملك الروم مع جان بردي الغزالي وكسر الغزالي فدقت البشائر بقلعة دمشق وسيب بها نفط كثير ثم نادى النائب بالزينة واستمرت مدة أسبوع.

ذهب السلطان سليم في جيشه إلى مصر وقتل الملك الذي كان بايع له المصريون بعد هلاك السلطان الغوري واسمه طومان باي، ففتح القطر المصري على أيسر سبب، قال ابن طولون: ولما وردت البشائر بفتح مصر زينت دمشق سبعة أيام ودارت مبشرو الأورام على بيوت الأكابر والحارات بالطبول والنايات ثم أتبعوها بزينة سبعة أيام لما ورد الخبر بأن السلطان سليماً أفنى الشراكسة.

وعاد السلطان عن طريق البر إلى الشام بعد تغيبه ثمانية أشهر ودخل دمشق 11 رجب 923 وفي يوم 22 منه طلبت العساكر النزول في البيوت فهجموا على
النساء وتضرر الخلق بذلك ضرراً زائداً وتحقق أن السلطان عزم على الإقامة بدمشق فغلت الأسعار وعند ذلك شرع بعمارة تربة ابن عربي وصرف عليها عشرة آلاف دينار. ومن غريب التوفيق أن السلطان سليماً كان أعد في ذهابه إلى مصر خمسين ألف جمل لحمل المياه في الصحراء التي تفصل الشام عن مصر فأمطرت السماء مطراً غزيراً أغنى جيشه من ماء الروايا، وسهل عليه قطع صحراء التيه.

وبينا كان السلطان سليم سائراً إلى مصر تأخر من جماعته من في الرملة، أناساً فشاع الخبر أن أهل المدينة قتلوهم، وبلغ ذلك السلطان فأمر بقتل أهل البلد فقتلوا عن آخرهم ولم يبق فيها ديار ولا نافخ نار. ويقول القرماني: إن السلطان أمر بقتل عامة أهل الرملة عند عودته من مصر وقد بلغه الثقات أن أهلها قتلوا من كان عندهم من العسكر المجروحين.

وقال ابن إياس: إن الغزالي لما تلاقى مع سنان باشا على الشريعة أشيع في غزة أن الغزالي قد انتصر على عسكر ابن عثمان وقتل سنان باشا وعسكر ابن عثمان، فبادر على باي دوادار نائب غزة وأجناده فنهبوا وطاق العثمانيين وأحرقوا خيامهم وقتلوا ممن كان في الوطاق والمدينة من العثمانية نحو أربعمائة إنسان ما بين شيوخ وصبيان وممن كان بها مريضاً، فلما ظهر أن الكسرة على عسكر مصر وقتل من قتل من الأمراء رجع سنان باشا إلى غزة فوجد من كان بها قد قتل ونهب الوطاق، فجمع أهل غزة قاطبة وقال لهم: من فعل ذلك بنا؟ قالوا: علي باي دوادار نائب غزة، وأجناد غزة، ولم نفعل نحن شيئاً من ذلك،

فأمر سنان باشا بكبس بيوت غزة فوجدوا فيها قماش العثمانية وخيولهم وخيامهم فقال لهم سنان باشا: نحن لما دخلنا غزة هل شوشنا على أحد منكم قالوا: لا. فقال لهم: كيف فعلتم بعسكرنا ذلك، فلم يأتوا بجواب ولا عذر ولا حجة فعند ذلك أمر عسكره أن يلعبوا فيهم بالسيف فقتلوا منهم كثيرين وراح الصالح بالطالح.

ونصب السلطان والياً على مصر خير باي نائب حلب، ووالياً على دمشق جان بردي الغزالي نائب حماة، وأضاف إلى هذا القدس وغزة وصفد والكرك، وأما حمص وطرابلس والمدن البحرية فجعلها بأيدي عماله من الأتراك، وبقي الحال على ذلك مدة طويلة. وكانت ولاية دمشق تمتد من المعرة النعمان بادلب إلى عريش مصر على مال معين قدره مائتا ألف دينار وثلاثون ألف دينار.

قال شمس الدين سامي: إن جانبردي الغزالي كان قائداً عاماً للجيش الذي أرسله طومانباي لقتال السلطان سليم فغُلب في الوقعة التي جرت في غزة وفرّ ثم رأى أن يستأمن السلطان سليماً ويخدمه، فأعانه على قهر طومانباي وفتح مصر ثم كان سبباً لقتل طومانباي. ومكافأة لخدمته نصبه السلطان والياً على دمشق، أما حلب فقد نصب عليها قره جه أحمد باشا ودام فيها والياً ثلاث عشرة سنة لغنائه وكفايته في خدمة دولته.



من كتاب خطط الشام ... للمؤرخ السوري محمد كرد علي ...

 
التعديل الأخير:
عودة
أعلى